فصل: قال الفراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفراء:

سورة سبأ:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
قوله: {عَلاَّمِ الغَيْبِ} قال رأيتها في مصحف عبدالله {عَلاَّمِ} عَلَى قراءة أَصحابه. وقد قرأها عاصم {عَالِم الغَيْب} خفضًا في الإعراب من صفة الله. وقرأ أهل الحجاز {عالِمُ الغَيْبِ} رفعَا عَلَى الائتناف إذْ حَال بينهما كلام؛ كما قال: {رَبِّ السمواتِ والأرْضِ وَمَا بَيْنَهُما الرحمنُ} فرفع. والاسم قبله مخفوض في الإعراب. وكلّ صواب.
وقوله: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} و {يَعْزِبُ} لغتان قد قرئ بهما. والكسر أحبّ إلىّ.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ}.
وقوله: {عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٍ}.
قراءة القراء بالخفض. ولو جُعل نعتًا للعذاب فرفع لجاز؛ كما قرأت القراء {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٍ} و {خُضْرٌ} وقرءوا {فى لَوْح محفوظٍ} لِلَّوح و {محفوظٌ} للقرآن. وكلّ صواب.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ}.
{يرى} في موضع نصب. معناه: ليجزى الذين، وليرى الذين قرأ الآية وإن شئت استأنفتَهَا فرفعتهَا، ويكون المعنى مُستأنفًا ليسَ بمردود عَلَى كىْ.
وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} نصبت {العلم} لخروجه ممّا لم نُسمّ فاعله. ورفعت {الذينَ} ب {يرى}. وإنما مَعْناه: ويرى الذين أوتوا التوراة: عبدُالله بن سَلاَم وأصحابُه من مُسْلمة أهل الكتاب. وقوله: {هُوَ الْحَقُّ} {هو} عماد للذى. فتنصب {الحقَّ} إذا جعلتها عمادًا. ولو رفعتَ {الحقّ} عَلَى أن تجعل {هو} اسمًا كان صَوَابًا. أنشدنى الكسائىُّ:
ليت الشباب هو الرجِيعُ عَلَى الفتى ** والشيبَ كان هو البَدِئ الأوّلُ

فرفع في كان ونصب في ليت ويجوز النصب في كلّ ألف ولام، وفي أفعلَ منك وجنسِه. ويجوز في الأسمَاء الموضوعة للمعرفة. إلا أنَّ الرفع في الأسماء أكثر. تقول: كان عبدُالله هو أخوك، أكثر من، كان عبدالله هو أخاك. قال الفراء: يجيز هذا ولا يجيزه غيره منَ النحويّينَ. وكان أبو محمّد هو زيدٌ كلامُ العرب الرفع. وإنما آثروا الرفع في الأسماء لأن الألِف واللام أُحدِثتا عمادًا لما هي فيه. كما أُحدثت هو عمادًا للاسم الذي قبلهَا. فإذا لم يجدوا في الاسم الذي بعدها ألفًا ولامًا اختاروا الرفع وشبَّهوها بالنكرة؛ لأنهم لا يقولونَ إلاّ كانَ عبدالله هو قائم. وإنما أجازوا النصب في أفضل منك وجنسِه لأنه لا يوصَل فيه إلى إدخال الألف واللام، فاستجازوا إعمال معناهما وإن لم تظهر. إذ لم يمكن إظهارها. وأما قائم فإنك تقدر فيه عَلَى الألف واللام، فإذا لم تأتِ بهمَا جعلوا هو قبلها اسمًا ليست بعمادٍ إذ لم يُعمد الفعل بالألف واللام قال الشاعر:
أجِدَّك لَنْ تزال نجِىَّ هَمٍّ ** تبيتُ الليلَ أنت له ضجيع

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ}.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ}.
العرب تدغم اللام عند النون إذا سكنت اللام وتحركت النون. وذلك أَنها قريبة المخرج منها. وهى كثيرة في القراءة. ولا يقولون ذلك في لامٍ قد تتحرَّك في حال؛ مثل ادخل وقل؛ لأن قل قد كان يُرفع ويُنصب ويدخل عليه الجزم، وهل وبل وأَجَلْ مجزومات أبدًا، فشُبِّهن إذا أُدغمن بقوله: {النار} إذا أدغمت اللام من النار في النون منها. وكذلكَ قوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} تدغم اللام عند التاء من بل وهل وَأَجَلْ. ولا تدغم على اللام التي قد تتحرّك في حَال. وإظهارهما جَائز؛ لأن اللام ليست بموصولة بما بعدهَا؛ كاتّصال اللام من النار وأشباه ذلك. وإنما صرت أختار {هَلْ تَسْتَطِيعُ} و {بَلْ نَظُنُّكُمْ} فأُظهر؛ لأنَّ القراءة من المولَّدينَ مصنوعَة لم يأخذوها بطباع الأعراب، إنما أخذوها بالصنعة. فالأعْرابىّ ذلكَ جَائز له لما يجرى على لسانه من خفيف الكلام وثقيله. ولو اقتسْتُ في القراءة عَلَى ما يخِفّ عَلَى ألسن العرب فيخففون أو يدغمون لخفّفتُ قوله: {قُلْ أي شيء أَكْبَرُ شَهَادَةً} فقلتُ: أَيْشٍ أكبرُ شهادة، وهو كلام العرب. فيلسَ القراءة عَلَى ذلك، إنما القراءة عَلَى الإشباع والتمكين؛ ولأن الحرف ليس بمتّصل مثل الألف واللام: ألا ترى أنك لا تقف عَلَى الألف واللام ممّا هي فيه. فلذلك لم أظهر اللام عند التاء وأشباههَا. وكذلك قوله: {اتَّخَذْتُم} و {عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ} تُظهر وتدغم. والإدغام أحبّ إلىّ لأنها متَّصلة بحرف لا يوقف على ما دونه. فأمّا قوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فإن اللام تدخل في الراء دخولًا شديدًا، ويثقل عَلَى اللسان إظهارها فأدغمت. وكذلك فافعل بجميع الإدغام: فما ثقُل على اللسان إظهارهُ فأدغم، وما سهل لك فيه الإظهار فأظهِر ولا تدغم.
وقوله: {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
{أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
هذه الألِف استفهام. فهى مقطوعة في القطع والوصل؛ لأنها ألف الاستفهام، ذهبت الألف التي بعدها لأنها خفيفة زائدة تذهب في اتّصال الكلام، وَكذلكَ قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} وقوله: {أَسْتَكْبَرْتَ} قرأ الآية محمد بن الجهم، وقوله: {أَصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِينَ} ولا يجوز أن تكسر الألف ها هنا؛ لأن الاستفهَام يذهب. فإن قلت: هَلاّ إذا اجتمعت ألِفان طوّلت كما قال: {آلذكرين} {آلآنَ}؟ قلت: إنما طُوّلت الألف في الآن وشبهه لأن ألِفهَا كانت مفتوحةً، فلو أذهبتها لم تجد بين الاستفهام والخبر ب فَرْقًا، فجعَل تطويل الألِف فرقًا بين الاستفهَام والخبر، وقوله: {أَفْتَرَى} كانت ألفها مكسورة وألف الاستفهام مفتوحة فافترقا، ولم يحتاجَا إلى تطويل الألِف.
{أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ}.
وقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}.
يقول: أَما يعلمون أَنهم حيثما كانوا فهم يرون بين أيديهم من الأرض والسَّمَاء مثل الذي خلفهم، وأَنهم لا يخرجون منها. فكيف يأمنون أن نَخسف بهم الأرضَ أو نُسقط عليهم من السَّماء عذابًا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}.
وقوله: {يا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}.
اجتمعت القراء الذين يُعرفون عَلَى تشديد {أَوِّبِي} ومَعنَاه: سَبّحى. وقرأ بعضهم {أُوبِى مَعَهُ} من آب يئوب أي تصرَّفى معه.
و {وَالطَّيْرَ} منصوبة على جهتين: إحداهما أن تنصبها بالفعل بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}. وسخَّرنا له الطيرَ. فيكون مثل قولك: أطعمته طعامًا وماء، تريد: وسَقيته مَاء. فيجوز ذلك. والوجه الآخر بالنداء، لأنكَ إذا قلت: يا عمرو والصَلْت أقبِلا، نصبت الصّلت لأنه إنمَا يدعى بيأيُّهَا، فإذا فقدتها كان كالمعدُولِ عن جهته فنُصب. وقد يجوز رَفعه عَلَى أن تيبع ما قبله. وَيجوز رَفعه على: أوّبي أنت والطيرُ. وأنشدني بعض العرب في النداء إذا نُصب لفقده يأيُّهَا:
أَلا يَا عَمْرُو وَالضحّاكَ سِيَرَا ** فقد جَاوزتُمَا خَمرَ الطريقِ

الخَمَر: ما سترك من الشجر وغيرها وقد يجوز نصب الضحّاك وَرَفعُه. وقال الآخر:
يا طلحةُ الكاملُ وابن الكَامل

والنعت يجرى في الحرف المنادى، كما يجرى المعطوف: يُنصب ويرفع، ألا ترى أنك تقول: إن أخاكَ قائِم وزيد، وإن أخاك قائم وزيدا فيُجرى المعطوف في إنّ بعد الفعل مجرى النعت بعد الفعل.
وقوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أُسِيل له الحديد، فكانَ يعمل به ما شاء كما يَعمل بالطين.
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
وقوله- عزّ وجلّ-: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}.
الدروع {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} يقول: لا تجعل مسمار الدرع دقيقًا فيقْلق، ولا غليظًا فيقصِم الحَلَق.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}.
وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}.
منصوبة على: وسخّرنا لسليمان الريح. وهى منصوبة في الأنبياء {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عاصِفَةً} أضمر: وسَخَّرنا- والله أعلم- وقد رَفَع عاصم- فيما أعلم- {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحُ} لمَّا لم يظهر التسْخير أنشدنى بعض العرب:
ورأيتُم لمُجَاشعٍ نَعَمًا ** وبنى أبيه جَامِلٌ رُغُب

يريد: ورأيتم لبنى أبيه، فلمّا لم يظهر الفعل رُفع باللام.
وقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} يقول: غدوّها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر ورَوحتها كذلك.
وقوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} مِثْل {وألَنَّا لَهُ الحَدِيدَ} والقِطْر: النحاس.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
وقوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}.
ذُكر أنها صُوَر الملائِكة والأنبياء، كانت تصوَّر في المسَاجد ليراها الناس فيزدادوا عبادةً. والمحاريب: المساجد.
وقوله: {وَجِفَانٍ} وهى القِصَاع الكبار {كالجَوابِ} الحياض التي للإبل {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} يقول: عظام لا تُنزل عن مواضعها.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}.
وقوله: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}.
همزهَا عاصم والأعمش. وهى العصَا العظيمة التي تكون مع الراعى: أُخذت من نسأت البعير: زجرته ليزداد سيره؛ كما يقال: نسأت اللبَن إذا صببتَ عليه الماء وهو النَّسِىء. ونُسِئت المرأَة إذا حبِلت. ونَسَأَ اللهُ في أجلك أي زاد الله فيه، ولم يهمزهَا أهلُ الحجاز ولا الحسن. ولعّلهم أرادوا لغة قريش؛ فإنهم يتركون الهمز. وزعم لى أبو جعفر الرؤاسىّ أَنه سأل عنها أبا عَمْرٍو فقال {مِنْسَاتَهُ} بغير همزٍ، فقال أبو عمرو: لأنى لا أعرفها فتركتُ همزها. ولو جاء في القراءة: مِن ساتِهِ فتجعل سَاةً حرفًا واحدًا فتخفضه بمن. قال الفراء: وكذلك حدَّثنى حِبَّان عن الكلبىّ عن أبى صَالح عن ابن عبَّاس أنه قال: تأكل من عصَاه. والعرب تسمّى رأس القوس السِّيَة، فيكون من ذلك، يجوز فتحهَا وكسرهَا، يعنى فتح السين، كما يقال: إِنّ به لضِعَةً وَضَعَة، وقِحَة وقَحَة من الوقاحة ولم يقرأ بهَا أحد علمناه.
وقوله: {دَابَّةُ الأَرْضِ} الأَرَضة.
وقوله: {فَلَمَّا خَرَّ} سُليمانُ. فيما ذكر أكلت العصَا فخَرّ. وقد كان الناس يُرونَ أَنَّ الشياطِين تعلم السرّ يكون بين اثنين فلمّا خرّ تبيَّن أمرُ الجن للإنس أنهم لا يعلَمُونَ الغيب، ولو عَلِمُوهُ ما عمِلوا بَيْنَ يديه وهو ميّت. وأَنْ في موضع رفعٍ: {تبيَّن} أن لو كانوا. وذُكر عن ابن عبّاس أَنه قَالَ: بيّنت الإنسُ الجِنّ، ويكون المعنى: تبيّنت الإنسُ أمرَ الجن، لأن الجِن، إذا تبيّن أمرهَا للإِنس فقد تبيَّنها الإنس، ويكون أَنْ حينئذٍ في موضع نصب بتبيَّنت. فلو قرأ قارئ تبّينتِ الجنّ أن لو كانوا بجعل الفعل للإِنس ويضمر هم في فعلهم فينصب الجنّ يفعل الإنس وتكون أن مكرورة على الجنّ فتنصبها.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}.
وقرأ قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} يحيى {فى مَسْكَنِهِمْ} وهى لغة يمانيّة فصيحة. وقرأ حمزة في {مَسْكِنِهِمْ} وقراءة العوامّ {مَسَاكِنِهِمْ} يريدون: منازلهم. وكلّ صَوَاب. والفراء يقرأ قراءة يحيى.
وقوله: {آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} والمعنى: عن أيمانهم وشمائِلهم. والجنتان مرفوعتان لأنهما تفسير للآيةِ. ولو كان أحد الحرفين منصوبًا بكان لكان صَوابًا.
وقوله: {وَاشْكُرُواْ لَهُ} انقطع هَا هُنَا الكلام {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} هذه بلدة طيّبة ليستْ بسَبَخة.
{فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ}.
وقوله: {سَيْلَ الْعَرِمِ}.
كانت مُسَنَّاة كانت تحبس الماء على ثلاثة أَبْوَاب منهَا، فَيَسقونَ من ذلكَ الماء من الباب الاول، ثم الثانى، ثم الآخِر، فلا ينفَد حتى يثوب الماء من السَّنة المقبلة. وكانوا أنعم قوم عيشا. فلمّا أعرضوا وجحدوا الرسل بثق الله عليهم المُسَنَّاة، فغرَّقت أرضهم ودفن بيوتَهم الرملُ، ومُزّقوا كل ممزَّقٍ، حَتى صَاروا مَثَلا عند العرب. والعرب تقول: تفرقوا أيادِى سَبَا وأيدى سَبًَا قَال الشاعر:
عينًا ترى النَّاس إليها نَيْسَبا ** من صَادرٍ وواردٍ أيدى سَبَا

يتركونَ همزهَا لكثرة ما جرى على ألسنتهم ويُجرون سَبا، ولا يُجرونَ: مَن لم يُجر ذهب إلى البدلة. ومن أجرى جَعَل سَبَا رجلًا أو جبلًا، ويهمز. وهو في القراءة كثير بالهمز لاَ أعلم أحدًا ترك همزهُ أنشدنى:
الواردونَ وتيم في ذرى سَبَأ ** قد عَضَّ أعناقَهم جِلْدُ الجواميس

وقوله: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ} يثقّل الأُكُل. وخفّفه بعض أهل الحجاز. وقد يقرأ بالإضافة وَغَير ^ب الإضافة. فأمّا الأعمش وعاصم بن أبى النَجُود فثقَّلا ولم يضيفَا فنوّنا. وذكروا في التفسير أنه البرير وهو ثمر الأراك. وأمَّا الأثْل فهو الذي يعرف، شبيه بالطرفاء، إلا أنه أعظم طُولًا.
وقوله: {وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} قال الفراء ذكروا أنه السَّمُر واحدته سَمُرَة.
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}.
وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}.
هكذا قرأه يَحيىَ وأبو عبدالرحمن أيضًا. والعوامّ: {وهَلْ يُجَازَى إلاَّ الكُفُورُ}.
وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} موضع {ذَلِكَ} نَصْب ب {جَزَيناهم}.
يقول القائل: كيف خَصَّ الكفُور بالمجازاة والمجازاة للكافر وللمُسْلم وكلِّ واحد؟ فيقال: إن جازيناه بمنزلة كافأناه، والسّيئة للكافر بمثلها، وأَمّا المؤمن فيُجزى لأنه يزادُ ويُتَفَضَّل عيله ولا يجازى. وقد يقال: جازيت في معنى جَزَيت، إلا أنّ المعنى في أبين الكلام على ما وصفت لك؛ ألا ترى أنه قد قال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ} ولم يقل {جازيناهم} وقد سمعت جازيت في معنى جَزيت وهى مثل عاقبت وعقَبت، الفعل منك وحدك. وبناؤها- يعنى- فاعلتُ على أن تَفعل ويُفعل بكَ.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}.
وقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}.
جُعل ما بينَ القرية إلى القرية نصفَ يومٍ، فذلك تقديرهُ للسير.
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
وقوله: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}.
قراءة العوامّ. وتقرأ على الخبر {رَبُّنَا بَعّدَ بَيْنَ أَسْفَارِنا} و {بَاعَدَ} وتقرأ على الدعاء {رَبَّنَا بَعِّدْ} وتقرأ {رَبَّنا بَعُدَ بَيْن أسفارِنا} تكون {بَيْنَ} في موضع رَفعٍ وهى منصوبة. فمن رفعها جعلها بمنزلة قوله: {لقد تقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
وقوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}.
نصبت الظن بوقوع التصديق عليه. ومَعْنَاهُ أنه قال: {فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} قال الله: صَدّق عليهم ظنَّه لأنه إنما قاله بِظنّ لا بعلمٍ. وتقرأ {وَلَقَدْ صَدَق عليهم إبليسُ ظَنَّه} نصبت الظن على قوله: {ولقد صَدَق عليهم في ظَنّه} . ولو قلت: ولقد صدق عليه إبليسُ ظنُّه ترفع إبليسَ والظنّ كانَ صَوَابًا على التكرير: صدق عليهم ظنُّه، كما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهرِ الحرامِ قِتَالٍ فيه} يريد: عن قتالٍ فيه، وكما قال: {ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كثيرٌ مِنْهُمْ} ولو قرأ قارئ {ولقد صَدَق عليهم إبليسَ ظَنُّه } يريد: صدَقه ظنُّه عليهم كما تقول صدقك ظنُّك الظنُّ يخطىءُ ويصيبُ.
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ}.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ}.
يُضِلّهم به حُجّة، إلاّ أنّا سلَّطْناهُ عليهم لِنعلم من يؤمن بالآخرة.
فإن قال قائل: إنّ الله يعلم أمرهم بتسليط إبليس وبغير تسليطه. قلتُ: مثل هذا كثير في القرآن. قال الله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدينَ مِنْكُمْ والصّابِرينَ} وهو يعلم المجاهدَ والصّابِرَ بغير ابتلاء، ففيه وَجْهان. أحدهما أنّ العرب تشترط للجاهل إذا كلَّمتْه بشبه هذا شرطًا تُسنِده إلى أنفسها وهى عالمة؛ ومخْرج الكلام كأنه لمن لا يعلم. من ذلك أن يقول القائل: النَّار تُحرق الحطب فيقول الجاهِل: بل الحطب يُحرق النار، ويقولَ العالم: سنأتى بحطب ونارٍ لنعلم أيّهما يأكل صاحبه فهذا وَجْهُ بيّن. والوجْهُ الآخر أن تقول {لنَبْلُونَّكُمْ حتَّى نَعْلَمَ} معناه: حتى نعلم عنكم فكأن الفعل لهم في الأصل. ومثله مما يدلّك عليه قوله: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْه} عندكم يا كَفَرَة؛ ولم يقل: عندكم يعنى: وليسَ في القرآن عندكم؛ وذلك معناه. ومثله قوله: {ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ العزيزُ الكريمُ} عند نفسك إذك كنت تقوله في دنياك. ومثله ما قال الله لعيسى {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} وهو يعلم ما يقول وما يجيبه به؛ فردّ عليه عيسى وهو يعلم أن الله لا يحتاج إلى إجابته. فكما صَلح أن يَسأل عَمَّا يعلم ويلتمس من عبْده ونبيّه الجواب فكذلك يشرط من فعل نفسه ما يعلم، حتى كأنه عند الجاهل لا يعلم.