فصل: مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ} ليجبرهم على طاعته {إِلَّا} إنه لم يفعل ذلك ويحجزهم عنه {لِنَعْلَمَ} وهو عالم من قبل ويظهر ما هو في علمه لخلقه مِنْ منهم {يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} على رضا منه فيصدق بوجودها بطوعه واختياره {مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ} برضاه ورغبته فينكر وجودها ووقوعها ومما يؤيد أن المراد بالعلم في هذه الآية علم الوقوع والظهور بين الناس وأنه تعالى شأنه عالم بذلك أزلا قوله جل قوله: {وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ 21} فمن كان رقيبا على كل شيء لا يغرب عن علمه شيء وما قدره على خلقه من بعض معلوماته قال تعالى {قد يعلم ما أنتم عليه} الآية الأخيرة من سورة النور في ج 3 وقد هنا تفيد التقليل أي أن الذي أنتم عليه أيها الناس جزء من بعض معلوماته قال تعالى: {قُلِ} يا محمد لكفار قومك الذين حبس عنهم الغيث {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم آلهة {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ليكشفوا عنكم ما نزل بكم من القحط والجدب ليظهر لهم عجزهم وتيقنوا أنهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} لأنهما وما فيهما وبينهما ملك للّه وحده ولا يقع فيهما شيء إلا بأمره {وَما لَهُمْ} لتلك الأوثان التي يزعمونها شريكة للّه {مِنْ شِرْكٍ} في أمر من أموره لا فيهما ولا في غيرهما البتة {وَما لَهُ} وما للّه {مِنْهُمْ} من آلهتهم {مِنْ ظَهِيرٍ 22} يعاونه على تدبير ما يقع بينهما من خير أو شر وَ: اعلموا أيها الناس أن اللّه تعالى يقول {لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ} لأحد ما من الأوثان والملائكة وكافة الخلق {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فيها فقط وهذا تكذيب لقول الكفرة بأن الأوثان تشفع لهم عند اللّه مع أنه في ذلك اليوم يتجلى الجبار على خلقه فيأخذهم الخوف والوجل برّهم وفاجرهم {حَتَّى إِذا فُزِّعَ} كشف الفزع {عَنْ قُلُوبِهِمْ} وذهب الحزن عنهم من هيبة كلام العرب جل جلاله في ذلك اليوم المهول أي عن المشفوع لهم والشافعين لأن المستشفعين يتثبّتون بأذيال الرجاء من الشافعين النائمين على قدم الالتجاء إلى باب ذي القدرة والعظمة مستأذنين من حضرته الشفاعة لعصاة المؤمنين، أما الكافرون فهم بمعزل عن هذا ويبقون منتظرين خائفين لا يدرون بماذا يجابون في ذلك الوقت العصيب وقد غشيهم الفزع.
ومما يدل على هذا قوله تعالى {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطابًا} وقوله جل قوله: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَوابًا} الآيتين من آخر سورة عمّ الآتية فالكل إذا ينتظرون كلمة من رب العزة ليتباشروا في إطلاق الناس بالشفاعة حتى أزيل وحتى هنا للغاية ولا غاية بلا مغيا وتكييف المغيا هنا كأن قيل كيف يمكن استحصال الإذن في ذلك الموقف، العظيم للشافعين، وكيف يكون حال المستشفعين؟ فقيل يقفون منتظرين وجلين خلف سرادق العظمة والهيبة والجلالة لا يدرون ماذا يوقّع لهم الملك الأعظم على رقعة سؤالهم منه، حتى إذا ذهب الخوف عن قلوبهم فتكون هذه الجملة هي الغاية.
وما ذكرناه من حصول الإذن هي المغيا.
والفزع عبارة عن انقباض النفس ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف مثل الجزع إلا أنه لا يقال فزعت من اللّه بل خفت وهو من الأضداد تقول فزعت بمعنى خفت وفزعت بمعنى أزيل عني الفزع وفعله يتعدى بعن كما في هذه الآية وبمن إذا كان بمعنى الخوف.
{قالُوا} المشفوع لهم للشافعين {ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا} الشفعاء قال اللّه {الْحَقَّ} أي أذن بالشفاعة وكل قوله حق ويؤذن بهذا قوله جل قوله {وَهُوَ الْعَلِيُّ} على عباده لا يرد سؤالهم {الْكَبِيرُ 23} عن أن يخيب أملهم وهذا من نتيجة كلام الشافعين اعترافا بعلو عظمته عن أن يرد أيديهم صفرا وجليل كبريائه عن أن ييأسهم من فيض رحمته، وما جرينا عليه من هذا التفسير لهذه الآية العظيمة هو المناسب لسياق التنزيل وسباق اللفظ الجليل مما تقدمها.
أما من فسرها على نزول الوحي واستشهد بما رواه البخاري ومسلم فقد قال إذا قضى اللّه الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه صلصلة على صفوان، وبما أخرج أبو داود عن ابن مسعود إذا تكلم اللّه تعالى بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كجرس السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا جاء فزع عن قلوبهم يقولون يا جبريل ماذا قال ربك فيقول الحق فيقولون الحق.
فهذه الأحاديث وشبهها لم تثبت أن الرسول قالها في معرض هذه الآية والقائلون بهذا لم يبنوا وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ولم يبحثوا عن الغاية بشيء، ولم يتعرفوا للمغيا ليركن إلى بعض ما قالوه، ولذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى والأوفق وإن ما مشى عليه أكثر المفسرين هو بالنظر إلى ظاهر اللفظ ومطابقته لهذه الأحاديث فنزلوا تفسير الآية عليه كما ساقوا مثل هذه الأحاديث في مسألة استراق السمع، راجع بحثه في الآية 18 من سورة الحجر المارة وعلى هذا مشى السيد محمود الألوسي في تفسيره روح المعاني إذ نظر إلى مطابقة المقام الموافق لظاهر الكلام وظهر له ما قاله غيره في هذا المقام بأنه نظر إلى ظاهر اللفظ فعدل عن أقوالهم، والحق يقال إنه بمراحل كثيرة في الحسن والمطابقة للواقع وموافقة التنزيل ومناسبة الآي.
عما قاله غيره، ولهذا اخترنا قوله أيضا بما زدنا عليه من التصرف ومن أراد زيادة التفصيل في هذا البحث فليراجع تفسير هذه الآية في ص 139 فما بعدها من ج 7 من تفسيره المذكور وقد مشى عليه صاحب روح البيان السيد إسماعيل حقي والإمام النسفي وجار اللّه الزمخشري من قبله واللّه أعلم وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} فإن لم يجيبوك يا محمد بأن الذي يرزقنا هو اللّه فبادرهم أنت و {قُلِ اللَّهُ} الذي يرزق أهل السموات والأرض من إنسان وحيوان وطير وحوت وغيرها وقل لهم أيضا إذا لم يقلعوا عن محاججتك على طريق الإرشاد في المناظرة {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً} لفظ هدى يعود للضمير الأول على حضرة الرسول {أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 24 ولفظ الضلال يعود إلى الضمير الآخر العائد للكفرة على سبيل اللف والنشر المرتب، وهذا الكلام على جهة الإلزام والإنصات في المحاجة كما تقول لمجادلك أحدنا كاذب لا على طريق الشك، لأن حضرة الرسول يعلم حقا بأنه ومن اتبعه على هدى من اللّه وأن من خالفه وجحد ما جاء به في ضلال وهو من قبيل التعريض ليكون أوصل للغرض وأوفى بالمقصود من غير تصريح بتعنيف الخصم وهذا شأن المنصف المهذب وعليه قول حسان:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشرّكما لخيركما الفداء

وإن ما جرينا عليه من قول من قال إن أو هنا بمعنى الواو أي إني لعلى هدى وإنكم على ضلال لأن اختلاف حرف الجر قد أدى بالمطلوب لأن المهتدي مستعل فأدخل عليه على المفيدة للاستعلاء والمضل منغمس في الظلمة فأدخل عليه في المؤدية لذلك، وإنما قلنا إن هذا شأن المنصف في المجادلة لأنه لو قال لهم رأسا أنتم ضلال مبطلون لأنماظهم وصيرهم إلى العناد وجرأهم للمقابلة فيردون عليه بأغلظ رد لما هم عليه من السفاهة، ولفات الغرض المقصود من استجلابهم لما يريده منهم من سلوك سبيله، والعقل يحكم بأن تكون المناظرة على الوجه الأحسن للانقياد وطريقة اللف والنشر المرتب من بديع الكلام وفصيحه وكثيرا ما تستعمله العرب في أقوالها وتستعذبه قال امرؤ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ** لدى وكرها العناب والحشف البالي

ومنه قوله:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ** وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل

فيظهر لك من هذا أن اعتبار أو بمعنى الواو في هذا الموضع، فيه بعد ومخالفة للظاهر، ولا يجوز بالمفسر والمؤول أن يركن إلى وضع حرف مكان آخر أو كلمة مكان غيرها إذا لم يكن جريها على ما هي عليه.
هذا ثم أتى بما هو أدخل في الإنصاف وأبلغ في القبول فقال جلّ قوله: {قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا} أي لا تؤاخذون به على فرض صدوره منا، وهذا مجاراة لمثل كلامهم إذ لا إجرام في الحقيقة {وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ 25} بل كل يسأل عما عمل وفي إسناد الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه ومحظور والعمل للمخاطبين وهو مأمور به مشكور غاية في حسن المخاطبة ونهاية في الإنصاف في طيب المكالمة ودلالة بالغة على كمال الأخلاق وعلو الآداب، ولا يخفى ما في هذا التعبير من الحسن من حيث ذكر الأجرام المنسوبة إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقيق وذكر العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وزعم بعضهم أن هذا من باب المشاركة وأن هذه الآية منسوخة بآية السيف وليس بشيء لأنها من باب التعريض الغير مضر وهي خبر من الأخبار لا يدخلها النسخ كما أشرنا إليه غير مرة، ثم ختم المكالمة بالتبري عن عمل شيء من نفسه وتفويض الأمر فيما يتعلق بينه وبينهم إلى ربه فقال ما قال له ربه {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا} نحن محمدا وأصحابه وبينكم أيها المشركون {رَبُّنا} نحن وأنتم يوم القيامة فيحاسبنا على أعمالنا {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا} يقضي ويفصل ويحكم حكما {بِالْحَقِّ} لا ميل ولا حيف ولا جور فيه {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ 26} بما يفتح لأنه يحكم بين خلقه بما هو الواقع الموافق لنفس الأمر أما حكام الدنيا فغاية العدل في أحكامهم الاعتماد على البينات وهي لا تخلو من زور وكذب وكتم للحقيقة خاصة في زمننا هذا، وفي تسمية القضاء بالفتح إشارة إلى وجه فصل الخصومات فتحا تشبيها لما حكم فيه بأمر مغلق كما يشبه بأمر متعقد في قولهم حلال المشكلات.
قال تعالى: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ} بربي الواحد الأحد {شُرَكاء} من أوثانكم هل تقدر أن تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر؟ قل لهم يا حبيبي {كَلَّا} لا تفعل شيئا من ذلك لأنها مفتقرة إلى من يصلحها ويحفظها من التعدي، وإذا كانت كذلك فكيف تصلح أن تكون آلهة، وكيف يليق بكم أن تعبدوها {بَلْ} القادر على فعل ذلك كله والمستحق للعبادة {هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ} الغالب على كل شيء {الْحَكِيمُ 27} فيما يفعله ويدبره {وَما أَرْسَلْناكَ} يا سيد الرسول لهؤلاء الكفرة خاصة {إِلَّا كَافَّةً} أي رسالة عامة {لِلنَّاسِ} أجمعين على اختلاف مللهم ونحلهم وألوانهم ولغتهم فكن لمن أطاعك منهم {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} لمن عصاك {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 28} عموم رسالتك لمن على وجه الأرض عربهم وعجمهم فيحملهم جهلهم بذلك على مخالفتك فعرفهم هذا وعظهم ودارهم وتلطف بهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم.
وهذا من قبيل تقديم المعذرة لأن من هو في علمه كافر لا ينفعه النصح ومن هو في أزله مؤمن لا تستهويه الضلال.

.مطلب عموم رسالته صلّى اللّه عليه وسلم ومجادلة الكفرة فيما بينهم:

وهذه الآية تدل صراحة على عموم رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم لعامة الخلق راجع الآية 158 من سورة الأعراف في ج 1 فيما يتعلق في هذا البحث.
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل وأهل الكتاب لا تصح صلاتهم إلا في كنائسهم، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة» أي العامة وإلا فكل نبي يشفع بأمته وأهل الخير يشفعون بمن يأذن اللّه لهم من خلقه خاصة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أي بداية ونهاية بخلاف رسالة سيدنا نوح راجع الآية 74 من سورة يونس المارة تجد أولها خاصة وآخرها عامة، وكان من الأنبياء من يرسل إلى أهل بلده خاصة ومنهم من يرسل إلى أهله فقط وخص محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بعموم الرسالة إلى الناس كافة.
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ} الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 29} فيما تقولون وتهددونا به، وهذه الآية في ترتيب القرآن لم توجد في أوله حتى سورة يونس ومنها إلى الأنبياء وفيما بعد مكررة كثيرا.
قال تعالى ردا عليهم يا أكرم الرسل {قُلْ} لهؤلاء المستبطئين سخطنا عليهم المطالبين بنزول ما توعد به من العذاب {لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ 30} فميعاده في الدنيا الموت إذا لم يباغتكم غيره قبله وفي الآخرة البعث، وهاتان الساعتان المقدرتان لموتكم وبعثكم لا يمكن بوجه من الوجوه تقديمهما لحظة ولا تأخيرهما عما هو مقدر في علمنا الأزلي وإنكم بعد البعث سترون ساعة الحساب وساعة الحكم وساعة الدخول في النار لا محالة وسيشدد حزنكم عند ما تشاهدون المصدقين الطائعين يدخلون الجنة ومغبّة ما حكاه اللّه عنكم في قوله: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قولا غير ما ذكر من الاستبطاء واشنع منه وهو قولهم جرأة على ربهم {لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ} المنزل عليك يا محمد {وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل والزبور والصحف أيضا، قال تعالى تفظيعا لشأنهم في الآخرة وما تؤول إليه حالتهم الخاسرة {وَلَوْ تَرى} يا حبيبي {إِذِ الظَّالِمُونَ} أنفسهم بهذه الجرأة على اللّه في ذلك الموقف العظيم وأمثالهم وقد تخلى عنهم أربابهم المزيفون العاجزون {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الحقيقي وقد تجلى عليهم باسمه المنتقم لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، ولو تراهم يا أكمل الرسل حين يتلاومون على سوء صنيعهم في الدنيا إذ {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ} فيوقع كل منهم الملامة على الآخر {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} في الدنيا وهم الأتباع الوارد ذكرهم في الآية 164 من سورة البقرة في ج 3 للذين استكبروا وهم الرؤساء الآتي ذكرهم في الآية 11 من سورة إبراهيم الآتية {لَوْلا أَنْتُمْ} منعتمونا في الدنيا عن الأيمان بالرسل {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31} بهم ولنجونا من هذا البلاء ولم يمسسنا سوء في هذا الموقف {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءكُمْ} كلا لا صحة لهذا لأنا لم نصدكم ولم نمنعكم عن الإيمان بالرسل {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ 32} باختياركم ورغبتكم وقد رضيتم بالإشراك وآثرتم الكفر على الإيمان بطوعكم {وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} اعلم أن كلمة مكر هذه مضافة لمضاف محذوف وهو الضمير الذي يعود إلى الرؤساء وبحذفه أضيف لما بعده إضافة المصدر لمفعوله وعليه يكون المعنى صدنا مكركم بنا أيها الرؤساء واحتيالكم علينا وتزيين آلهتكم المزعومة لنا وتظاهركم مظهر الصادق حتى ظننا بكم أنكم على خير {إِذْ تَأْمُرُونَنا} ليل نهار صباح مساء {أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ} الواحد ونكذب الرسول الذي يأمرنا بعبادته ورفض ما سواه وأنتم تأمروننا بتكذيبهم أيضا {وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدادًا} أمثالا على ما كان عليه آباؤنا وآباؤكم الأقدمون، فلما سمعوا هذا منهم وقد صارحوهم به على رءوس الأشهاد سقط في أيديهم جميعا {وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ} بينهما إذ ظهر، خطأوهما، وقيل إن فعل أمر من الأضداد فيأتي بمعنى أضمر كما مر وبمعنى أظهر ولهذا قال بعضهم إنهم أظهروا الندامة لبعضهم وعدلوا بهذا الفعل عن حقيقته إلى المجاز بحسب الظاهر وبعضهم أجراه على ظاهره كما جرينا عليه دون حاجة للعدول وهو أولى إذ لا وجود لصارف يصرفه عن حقيقته وإنما أسروا الندامة أسفا على ما فات لعدم الفائدة من إظهارها وقد بهتوا {لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} أحاق بهم لقال تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} التابعين والمتبوعين وزجرا في جهنم جزاء كفرهم فانظروا {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ 33} في الدنيا من كفر وعصيان وسخرية، قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها} من الرؤساء والقادة إلى الرسل {إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ 34} هذه الآية كتسلية لحضرة الرسول مما مني به من قومه من التكذيب بما جاءهم به والاستهزاء بحضرته العالية وإن ما قاله فيه أهل مكة قاله الأمم السالفة لأنبيائهم وزيادة، راجع الآية 118 من سورة البقرة في ج 3 إذ لم ينفرد هو وحده بذلك كما أن قومه لم يبتدعوا تلك الأقوال والأفعال الشائنة بل إنهم قلدوا من قبلهم ليهون عليهم ما يلاقيه منهم {وَقالُوا} أيضا أولئك المترفون الذين غرّهم المال والجاه والولد متبجحين على المؤمنين وغيرهم {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا} من أتباع الرسل المساكين ولو لم يكن ما نحن عليه من الدين مرضيا لما منحنا اللّه هذه النعم المترادفة ولهذا نقول لكم {وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 35} في الآخرة أيضا إذا كانت هناك آخرة كما تزعمون لأنا لسنا مذلولين في الدنيا، قال تعالى ردا عليهم {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المغبونين بما لديهم من حطام الدنيا {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاء وَيَقْدِرُ} يضيق على من يشاء وليس سعة الرزق دليل على الرضى كما زعمتم كما أنه ليس في ضيقه امارة على الغضب {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 36} ذلك ومنهم من تجبّر واعترض على اللّه تعالى في البسط على أناس والضيق على آخرين كابن الراوندي إذ قال:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة ** وصيّر العالم النحرير زنديقا

أي كافرا نافيا للصانع العدل الحكيم قائلا لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك فلا حول ولا قوة إلا باللّه وهو في هذا القول البذيء يعني نفسه والقائل بقوله لا كل عالم فالعالم العاقل هو من يقول:
ومن الدليل على القضاء وحكمه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

والأكثر الذي عليه الناس الآن فيما قبل وبعد واللّه أعلم عدم الاجتماع بين العلم والمال غالبا قال الشافعي رحمه اللّه:
فمن أعطى الحجى حرم الغنى ** ضدان يفترقان أي تفرق

وذلك لحكم أرادها اللّه تعالى ولتتفرق الفضائل بين خلقه فمن فاته العز بالمال خلفه العز بالعلم وبالعكس:
رضينا قسمة الجبار فينا ** لنا علم وللأعداء مال

فإن المال يفنى عن قريب ** وإن العلم يبقى لا يزال