فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}.
كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعرًا بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا} [المرسلات: 25، 26] وقال: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا ذلك حشر علينا يسير} [ق: 44]، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها موميًا إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتُرَدّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله: {وله الحمد في الآخرة} [سبأ: 1] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة، فكان التخلص بقوله: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام.
ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطرادًا واعتراضًا، وتقدم آنفًا ما قيل: إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة.
وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعَلَم بالغلبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعارف المسلمين.
و {الساعة} عَلَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر.
وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت، لأن وقوعها هو إتيانها.
وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس.
ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإِبطال المؤكد على عادة إرشاد القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد.
و {بلى} حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير بل أو مركب من بل وألف زائدة، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثُمّة ورُبّة، لكن {بلى} حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفًا وبل يجاب به الإِثبات والنفي وهو عاطف، وتقدم الكلام على {بلى} عند قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة} في سورة البقرة (81).
وأكد ما اقتضاه بلى من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإِقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين.
وعُدّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون: لَتأتينَّا، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال: أتاكم العدوّ، وأتاك أتاك اللاّحقون، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب.
وفعل أتى يرد كثيرًا في معنى حلول المكروه مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] و {فأتاهم العذاب} [الزمر: 25] و {يوم يأتي بعض آيات ربك} [الأنعام: 158]، وقول النابغة:
فلتأتينك قصائد وليدفعَن ** جيشًا إليك قوادم الأكوار

وقوله:
أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتني

ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل أتى بحرف على فيقولون: أتى على كذا، إذا استأصله.
ويكثر في غير ذلك استعمال فعل جاء، وقد يكون للمكروه نحو {وجاءهم الموج من كل مكان} [يونس: 22].
{وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ في السماوات وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى}.
{عالمُ الغيب} خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله: {وهو الحكيم الخبير} [سبأ: 1] في قراءة من قرأه بالرفع، وصفة ل {ربي} المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكرَه مناسبةُ تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس.
وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذُكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون.
والغيب تقدم في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] على معان ذكرت هنالك.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {عالمُ الغيب} بصيغة اسم الفاعل، وبرفع {عالمُ} على القطع.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضًا ومجرورًا على الصفة لاسم الجلالة في قوله: {ربّي}.
وقرأ حمزة والكسائي {علاّم} بصيغة المبالغة وبالجر على النعت.
وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلًا سفسطائيًا على أنها ليست بواقعة، ولذلك سماها القرآن الواقِعة في قوله: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 1، 2].
والعزوب: الخفاء.
ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها.
قرأ الجمهور بضم الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى {لا يعزب عنه} لا يعزب عن علمه.
وقد تقدم في سورة يونس {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} (10/ 61).
وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء {وإن كان مثقال حبة من خردل} (47).
وأشار بقوله: {مثقال ذرة} إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رُفاتًا وترابًا فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها.
ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلًا يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة.
فإن عَدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالمًا بمصير كل جزء، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتُنفخ فيها أرواحها.
فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27] ثم تنمو تلك الأجسام سريعًا فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا.
وانظر قوله تعالى: {يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعًا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} في سورة القمر (6، 7)، وقوله: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} في سورة القارعة (4) فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البَيْض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلًا حتى تصير جرادًا وتطير.
ولهذا سمى الله ذلك البعث نَشْأة لأن فيه إنشاء جديدًا وخلقًا معادًا وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع رُوح كل جسد إليه بعد تصويره بما سُمي بالنفخ فقال: {وإن عليه النشأة الأخرى} [النجم: 47] وقال: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان} [ق: 15، 16] الآية.
أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل.
وأشار بقوله: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر} إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}.
لام التعليل تتعلق بفعل {لتأتينكم} [سبأ: 3] دون تقييد الإِتيان بخصوص المخاطبين بل المراد من شملهم وغيرهم لأن جزاء الذين آمنوا لا علاقة له بالمخاطبين فكأنه قيل: لتأتين الساعة ليجزَى الذين آمنوا ويجزَى الذين سعوا في آياتنا معاجزين، وهم المخاطبون، وضمير يجزي عائد إلى {عالمُ الغيب} [سبأ: 3].
والمعنى: أن الحكمة في إيجاد الساعة للبعث والحشر هي جزاء الصالحين على صلاح اعتقادهم وأعمالهم، أي جزاء صالحًا مماثلًا، وجزاء المفسدين جزاء سيئًا، وعُلم نوع الجزاء من وصف الفريقين من أصحابه.
والإِتيان باسم الإِشارة لكل فريق للتنبيه على أن المشار إليه جدير بما سيرد بعد اسم الإِشارة من الحكم لأجْل ما قبل اسم الإِشارة من الأوصاف.
فجملة {أولئك لهم مغفرة} ابتدائية معترضة بين المتعاطفين.
وجملة {أولئك لهم عذاب من رجز} ابتدائية أيضًا.
وقوله: {والذين سعوا} عطف على {الذين آمنوا} وتقدير الكلام: ليُجزى الذين آمنوا والذين سعوا بما يليق بكل فريق.
والمعنى: أن عالم الإِنسان يحتوي على صالحين متفاوت صلاحهم، وفاسدين متفاوت فسادهم، وقد انتفع الناس بصلاح الصالحين واستضروا بفساد المفسدين، وربما عطل هؤلاء منافع أولئك وهذّب أولئك من إفساد هؤلاء وانقضى كل فريق بما عمل لم يلق المحسن جزاء على إحسانه ولا المفسد جزاء على إفساده، فكانت حكمة خالق الناس مقتضية إعلامهم بما أراد منهم وتكليفهم أن يسعوا في الأرض صلاحًا، ومقتضية ادخار جزاء الفريقين كليهما، فكان من مقتضاها إحضار الفريقين للجزاء على أعمالهم.
وإذ قد شوهد أن ذلك لم يحصل في هذه الحياة علمنا أن بعد هذه الحياة حياة أبدية يقارنها الجزاء العادل، لأن ذلك هو اللائق بحكمة مرشد الحكماء تعالى، فهذا مما يدل عليه العقل السليم، وقد أعلَمَنا خالقُ الخلق بذلك على لسان رسوله ورسله صلى الله عليه وسلم فتوافق العقل والنقل، وبطل الدَّجْل والدَّخْل.
وجُعل جزاء الذين آمنوا مغفرة، أي تجاوزُوا عن آثامهم، ورزقًا كريمًا وهو ما يرزقون من النعيم على اختلاف درجاتهم في النعيم وابتداء مدته فإنهم آيلون إلى المغفرة والرزق الكريم.
ووصفَ بالكريم، أي النفيس في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {كتاب كريم} في سورة النمل (29).
وقوبل {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ب {الذين سَعوا في آياتنا} لأن السعي في آيات الله يساوي معنى كفروا بها، وبذلك يشمل عَمل السيئات وهو سيئة من السيئات، ألا ترى أنه عبر عنهم بعد ذلك بقوله: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل} [سبأ: 7]. إلخ.
ومعنى {سعوا في آياتنا} اجتهدوا بالصد عنها ومحاولة إبطالها، فالسعي مستعار للجد في فعل ما، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} في سورة الحج (51).
وآيات الله هنا: القرآن كما يدل عليه قوله بعد:
{الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} [سبأ: 6].
و {معاجزين} مبالغة في مُعْجِزين، وهو تمثيل: شُبِّهت حالهم في مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بحال من يمشي مشيًا سريعًا ليسبق غيره ويعجزه.
والعذاب: عذاب جهنم.