فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أن قوله: {والذين سعوا} مبتدأ، والخبر في الجملة الثانية، وهي {أولئك}.
وقيل: هو منصوب عطفًا على {الذين كفروا} أي وليجزي الذين سعوا.
واحتمل أن تكون الجملتان المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب، واحتمل أن تكونا مستأنفتين، والثواب والعقاب ما تضمنتا مما هو أعظم، كرضا الله عن المؤمن دائمًا، وسخطه على الفاسق دائمًا.
قال العتبي: والظاهر أن قوله: {ويرى} استئناف إخبار عمن أوتي العلم، يعلمون القرآن المنزل عليك هو الحق.
وقيل: ويرى منصوب عطفًا على ليجزي، وقاله الطبري والثعلبي؛ وتقدّم الخلاف في {الذين أوتوا العلم} في ذلك المكان الذي نزلت فيه هذه السورة.
وقال الزمخشري: أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علمًا لا يزاد عليه في الاتفاق، ويحتجوا به على الذين كفروا وتولوا.
ويجوز أن يريد: وليعلم من لم يؤمن من الأخيار أنه هو الحق، فيزداد حسرة وغمًا. انتهى.
وإنما قال: عند مجيء الساعة، لأنه علق ليجزي بقوله: {لتأتينكم} فبنى التخريج على ذلك.
وقرأ الجمهور: {الحق } بالنصب، مفعولًا ثانيًا ليرى، وهو فصل؛ وابن أبي عبلة: بالرفع جعل هو مبتدأ والحق خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى، وهو لغة تميم، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، قاله أبو عمر الجرمي.
والظاهر أن الفاعل ليهدي هو ضمير الذي أنزل، وهو القرآن، وهو استئناف إخبار.
وقيل: هو في موضع الحال على إضمار، وهو يهدي، ويجوز أن يكون معطوفًا على الحق، عطف الفعل على الاسم، كقوله: {صافات ويقبضن} أي قابضات، كما عطف الاسم على الفعل في قوله:
فألفيته يومًا يبير عدوه ** وبحر عطاء يستحق المعابرا

عطف وبحر على يبير، وقيل: الفاعل بيهدي ضمير عائد على الله، وفيه بعد.
{وقال الذين كفروا} هم قريش، قال بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ لما كان البعث عندهم من المحال، جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، وأتوا باسمه، عليه السلام، نكرة في قوله: {هل ندلكم على رجل}؟ وكان اسمه أشهر علم في قريش، بل في الدنيا، وإخباره بالبعث أشهر خبر، لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية، فلذلك نكروا اسمه.
وقرأ الجمهور: {ينبئكم} بالهمز؛ وزيد بن علي: بإبدال الهمزة ياء محضة.
وحكى عنه الزمخشري: ينبئكم، بالهمز من أنبأ، وإذا جوابها محذوف تقديره: تبعثون، وحذف لدلالة ما بعده عليه، وهو العامل إذا، على قول الجمهور.
وقال الزجاج ذلك، وقال أيضًا هو والنحاس: العامل {مزقتم}.
قال ابن عطية: هو خطأ وإفساد للمعنى.
وليس بخطأ ولا إفساد للمعنى، وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها، وقد بينا ما كتبناه في شرح التسهيل أن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط، كسائر أدوات الشرط.
والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم، لأنه في معنى يقول لكم: {إذا مزقتم كل ممزق} ثم أكد ذلك بقوله: {إنكم لفي خلق جديد}.
ويحتمل أن يكون: {إنكم لفي خلق جديد} معمولًا لينبئكم، ينبئكم متعلق، ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة، فالجملة سدت مسد المفعولين.
والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم، والصحيح جوازه.
قال الشاعر:
حذار فقد نبئت أنك للذي ** ستنجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى

وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول، على القياس في اسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة، كقوله:
ألم تعلم بمسرحي القوافي ** فلا عيابهن ولا اجتلابا

أي: تسريحي القوافي.
وأجاز الزمخشري أن يكون ظرف مكان، أي إذا مزقتم في مكان من القبور وبطون الطير والسباع، وما ذهبت به السيول كل مذهب، وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح. انتهى.
و {جديد} عند البصريين، بمعنى فاعل، تقول: جد فهو جاد وجديد، وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه.
والظاهر أن قوله: {أفترى} من قول بعضهم لبعض، أي هو مفتر، {على الله كذبًا} فيما ينسب إليه من أمر البعث، {أم به} جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه.
عادلوا بين الافتراء والجنون، لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين، لأنه إذا كان يعتقد خلاف ما أتى به فهو مفتر، وإن كان لا يعتقده فهو مجنون.
ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال: {هل ندلكم} ردد بين الشيئين ولم يجزم بأحدهما، حيث جوز هذا وجوز هذا، ولم يجزم بأنه افتراء محض، احترازًا من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية، إذ العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب، لا من نفسه ولا من غيره، وأضرب تعالى عن مقالتهم، والمعنى: ليس للرسول كما نسبتم ألبتة، بل أنتم في عذاب النار، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق، وإطفاء نور الله وهو متم.
ولما كان الكلام في البعث قال: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة} فرتب العذاب على إنكار البعث، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى، ومعنى بعده: أنه لا ينقضي خبره المتلبس به.
{أفلم يروا} أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة، {إلى ما بين أيديهم} أي حيث ما تصرفوا، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما.
وقال الزمخشري: أعموا فلم ينظروا، جعل بين الفاء والهمزة فعلًا يصح العطف عليه، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام، وأن التقدير فالم، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في شرح التسهيل.
وقفهم تعالى على قدرته الباهرة، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم، وكان ثم حال محذوفة، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد؟
{إن نشأ نخسف بهم الأرض} كما فعلنا بقارون، {أو نسقط عليهم كسفًا من السماء} كما فعلنا بأصحاب الظلة، أو {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم} محيطًا بهم، وهم مقهورون تحت قدرتنا؟ {إن في ذلك} النظر إلى السماء والأرض، والفكر فيهما، وما يدلان عليه من قدرة الله، {لآية} لعلامة ودلالة، {لكل عبد منيب} راجع إلى ربه، مطيع له.
قال مجاهد: مخبت.
وقال الضحاك: مستقيم.
وقال أبو روق: مخلص في التوحيد.
وقال قتادة: مقبل إلى ربه بقلبه، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه من يكفر به.
وقرأ الجمهور: {إن نشأ نخسف } و{نسقط } بالنون في الثلاثة؛ وحمزة والكسائي، وابن وثاب، وعيسى، والأعمش، وابن مطرف: بالياء فيهن؛ وأدغم الكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم.
قال أبو علي: وذلك لا يجوز، لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء، فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء، نحو: اضرب فلانًا، وهذا ما تدغم الباء في الميم، كقولك: اضرب مالكًا، ولا تدغم الميم في الباء، كقولك: اصمم بك، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم.
وقال الزمخشري: وقرأ الكسائي {نخسف بهم} بالإدغام، وليست بقوية. انتهى.
والقراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسيرة تعالى القرآن للذكر، فلا التفات لقول أبي علي ولا الزمخشري. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة}.
أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لا عدمَ حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لاسيما أجزاء الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ، وقيل: هو استبطاء لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم: متى هذا الوعدُ {قُلْ بلى} ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلاَّ إتيانَها. وقولُه تعالى: {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تأكيدٌ له على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها. وقُرىء ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى: {عالم الغيب} الخ، إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بجلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحَّتِه لما أنَّ ذلك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجلَّ وأعلى كانتِ الشَّهادةُ آكدَ وأقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لاسيما إذا خُصَّ بالذِّكرِ من النُّعوتِ ما له تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يبقى للمعاندينَ عذرٌ ما أصلًا فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلًا عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يُصدِّقُوه مكابرةً. وقُرىء علاَّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} أي لا يبعدُ. وقُرىء بكسرِ الزَّايِ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدارُ أصغرِ نملةٍ {فِي السموات وَلاَ في الأرض} أي كائنةٌ فيهما {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك} أي من مثقالِ ذرَّةٍ {وَلا أَكْبَرَ} أي منه. ورفعُهما على الابتداء والخبرُ قوله تعالى: {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} هو اللَّوحُ المحفوظُ. والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفيِ العُزوبِ. وقُرىء ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاء على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بأنَّه فتح في خبر الجرِّ لامتناع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناء يمنعه إلا أنْ يُجعلَ الضَّميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجًا عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصلُ عن الغيب شيءٌ إلى مسطورًا في اللَّوحِ.
{ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات} علَّةٌ لقوله تعالى: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وبيان لما يقتضي إتيانها {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتِّصافُه بما في حيِّزِ الصِّلةِ، وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضلِ والشَّرفِ أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ {لَهُمْ} بسبب ذلك {مَغْفِرَةٌ} لما فَرَطَ منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه.
{والذين سَعَوْاْ في ءاياتنا} بالقدحِ فيها وصدِّ النَّاسِ عن التَّصديقِ بها {معاجزين} أي مسابقين كي يفوتونَا وقُرىء مُعجزين أي مُثبِّطينَ عن الإيمانِ مَن أراده {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ} الكلام فيه كالذي مرَّ آنِفًا ومِن في قوله تعالى: {مّن رّجْزٍ} للبيانِ قال قَتَادةُ رضي الله عنه: الرِّجزُ سوءُ العذابِ وقولُه تعالى: {أَلِيمٌ} بالرَّفعِ صفة عذاب أي أولئك السَّاعُون لهم عذابٌ من جنس سوء العذاب شديدُ الإيلامِ. وقُرىء أليمٍ بالجرِّ صفة لرجزٍ {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} أي يعلم أولُو العلمِ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومَن شايعهم من عُلماء الأمَّةِ أو مَن آمنَ من علماء أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما رضي الله عنهم {الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أي القرآنَ {هُوَ الحق} بالنَّصبِ على أنَّه مفعول ثانٍ ليَرى، والمفعولُ الأوَّلُ هو الموصول الثَّانِي. وهو ضميرُ الفصلِ. وقُرىء بالرَّفعِ على الابتداء والخبرِ، والجملةُ هو المفعولُ الثَّاني ليَرى. وقولُه تعالى: {وَيَرَى} الخ، مستأنفٌ مسوقٌ للاستشهادِ بأولي العلم على الجَهَلةِ السَّاعينَ في الآياتِ. وقيل: منصوبٌ عطفًا على يجزيَ أي وليعلمَ أولو العلم عند مجيءِ السَّاعةِ مُعاينةً أنَّه الحقُّ حسبما علمُوه الآنَ بُرهانًا ويحتجُّوا به على المكذِّبين. وقد جُوِّز أنْ يُرادَ بأولي العلم مَن لم يؤمنْ من الأحبار أي ليعلمُوا يومئذٍ أنَّه هو الحقُّ فيزدادوا حسرةً وغمًّا {وَيَهْدِى} عطف على الحقَّ عطف الفعل على الاسم لأنَّه في تأويله كما في قوله تعالى: {صافات وَيَقْبِضْنَ} أي وقابضاتٍ كأنَّه قيل: ويرى الذين أُوتوا العلم الذي أُنزل إليك الحقَّ وهاديًا {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} الذي هو التَّوحيدُ والتَّدرعُ بلباس التَّقوى. وقيل: مستأنف وقيل: حالٌ من الذي أُنزل على إضمارِ مبتدأ أي وهو يهدي كما في قول من قال:
نجوت وأرهنهم مالكًا..
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} هم كفَّارُ قُريشٍ قالوا مخاطبًا بعضُهم لبعضٍ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} يعنون به النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنَّما قصدُوا بالتَّنكيرِ الطَّنزَ والسُّخريةَ قاتلهم الله تعالى: {يُنَبّئُكُمْ} أي يُحدِّثكم بعجبٍ عُجابٍ. وقُرىء ينبئكم من الإنباء {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي إذا متُم ومُزِّقتْ أجسادُكم كلَّ تمزيقٍ وفُرِّقت كلَّ تفريقٍ بحيث صرتُم تُرابًا ورُفاتًا {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي مستقرُّون فيه عدل إليه عن الجملة الفعليَّةِ الدَّالَّةِ على الحدوث مثل تبعثون أو تخلقون خلقًا جديدًا للإشباعِ في الاستبعادِ والتَّعجيبِ وكذلك تقديم الظَّرفِ والعامل فيه ما دلَّ عليه المذكورُ لا نفسه لما أنَّ ما بعد إنَّ لا يعمل فيما قبلَها. وجديدٍ فعيلٌ بمعنى فاعلٍ من جَدَّ فهو جديدٌ وقلَّ فهو قليلٌ وقيل: بمعنى مفعولٍ من جدَّ النَّسَّاجُ الثوبَ إذا قطعه ثمَّ شاع.
{افترى عَلَى الله كَذِبًا} فيما قاله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه. والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالِهما وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كأنَّه قيل: ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولون ما يقولون. وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه. ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة. ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّنبيهِ بما في حيِّزِ الصِّلةِ على أنَّ علَّةَ ما ارتكبُوه واجترؤا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفًا من غائلتِه وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض} استئنافٌ مسوق لتهويلِ ما اجترؤا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير. والفاء للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ وقوله تعالى: {إِن نَّشَأْ} الخ، بيانٌ لما يُنبىءُ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئةِ به أي فعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جريًا على موجب جناياتِهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض} كما خسفناها بقارونَ {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا} أي قِطعًا {مّنَ السماء} كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم. وقيل: هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلُوه افتراء وهُزؤًا وتهديدًا عليها، والمعنى أعمُوا فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماء والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقًا أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أو نُسقط عليهم كِسفًا لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البيِّنات فتأمَّلْ وكن على الحقِّ المُبين. وقُرىء يَخسف ويَسقط بالياء لقوله تعالى: {افترى عَلَى الله} وكِسْفًا بسكون السِّينِ {إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي من الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر {لآيَةً} واضحةً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطي القبائحِ وينيبُ إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا}. اهـ.