فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله منها.
ذكر ما أنشأه سبحانه من ذلك الأكثف، وهو أصلب الأشياء فقال: {وألنا له الحديد} أي الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع يعمل منه ما يريد بلا نار ولا مطرقة، ثم ذكر علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله فقال: {أن أعمل سابغات} أي دروعًا طوالًا واسعة.
ولما كان السرد الخرز في الأديم وإدخال الخيط في موضع الخرز شبه إدخال الحلقة في الأخرى بلحمة لا طرف لها بمواضع الخرز فقال: {وقدر في السرد} أي النسج بأن يكون كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلا ينفذ منها سهم ولتكن في تحتها بحيث لا يقلعها سيف ولا تثقل على الدارع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر، والظاهر أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق، ولا كان للإلانة فائدة، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير، قال الزجاج: السرد في اللغة: تقدير الشيء إلى الشيء ليتأتى متسقًا بعضه في أثر بعض متتابعًا، ومنه قولهم: سرد فلان الحديث.
وهذا كما ألان الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في الخندق تلك الكدية وفي رواية: الكذانة وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم فضربها صلى الله عليه وسلم ضربة واحدة، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيبًا أهيل لا ترد فأسًا وتلك الصخرة التي أخبره سلمان رضى الله عنها أنها كسرت فئوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات كسر في ضربه ثلاثًا منها وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة، وأضاءت للصحابة رضى الله عنهم ما بين لابتي المدينة بحيث كانت في النهار كأنها مصباح في جوف بيت مظلم، فسألوه عن ذلك فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك، وأخبره جبرائيل عيله السلام أنها ستفتح على أمته، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب، وأخبر أنها مفتوحة لهم، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب، وأخبر بفتحها عليهم، فصدقه الله تعالى في جميع ما قال، وأعظم من ذلك تصليب الخشب له حتى يصير سيفًا قوي المتن جيد الحديدة، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش رضى الله عنه انقطع يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فعاد في يده سيفًا قائمة منه فقاتل به، فكان يسمى العون، ولم يزل بعد يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار ذكره الكلاعي في السيرة عن الزبير بن أبي بكر والبيهقي، وقاتل عكاشة بن محصن يوم بدر فانقطع سيفه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلًا من حطب، فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفًا طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد فقاتل به حتى وفتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده حتى قتل في الردة وهو عنده، وعن الواقدي أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريش يوم بدر فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبًا كان في يده من عراجين ابن طاب فقال: اضرب به فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد، وإلحامه للحديد ليس بأعجب من إلحام النبي صلى الله عليه وسلم ليد معوذ بن عفراء لما قطعها أبو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها كما نقله البيهقي وغيره.
ولما أتم سبحانه ما يختص به من الكرامات، عطف عليها ما جمع فيه الضمير لأنه يعم غيره فقال: {واعملوا} أي أنت ومن أطاعك {صالحًا} أي بما تفضلنا به عليكم من العلم والتوفيق للطاعة، ثم علل هذا الأمر ترغيبًا وترهيبًا بقوله مؤكدًا إشارة إلى أن إنكارهم للقدرة على البعث إنكار لغيرها من الصفات وإلى أن المتهاون في العمل في عداد من ينكر أنه يعين الله: {إني بما تعملون} أي كله {بصير} أي مبصر وعالم بكل ظاهر له وباطن. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {مِنَّا} إشارة إلى بيان فضيلة داود عليه السلام، وتقريره هو أن قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل: آتي الملك زيدًا خلعة، فإذا قال القائل آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاص ما يكون له، فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض، ومثل هذا قوله تعالى: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان} [التوبة: 21] فإن رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد في الدنيا لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه فقال: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ}.
المسألة الثانية:
في قوله: {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} قال الزمخشري: {يا جِبَال} بدل من قوله: {فَضْلًا} معناه آتيناه فضلًا قولنا يا جبال، أو من آتينا ومعناه قلنا يا جبال.
المسألة الثالثة:
قرىء {أوبي} بتشديد الواو من التأويب وبسكونها وضم الهمزة أوبي من الأوب وهو الرجوع والتأويب الترجيع، وقيل بأن معناه سيرى معه، وفي قوله: {يُسَبّحْنَ} قالوا: هو من السباحة وهي الحركة المخصوصة.
المسألة الرابعة:
قرىء {والطير} بالنصب حملًا على محل المنادى والطير بالرفع حملًا على لفظه.
المسألة الخامسة:
لم يكن الموافق له في التأويب منحصرًا في الجبال والطير ولكن ذكر الجبال، لأن الصخور للجمود والطير للنفور تستبعد منهما الموافقة، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى، ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة.
المسألة السادسة:
قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} عطف، والمعطوف عليه يحتمل أن يكون قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا: يا جِبَال أوبي وألنا، ويحتمل أن يكون عطفًا على آتينا تقديره آتيناه فضلًا وألنا له.
المسألة السابعة:
ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير، فإنه يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله، قيل إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع، وإنما اختار الله له ذلك، لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما.
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}.
قيل إن أن هاهنا للتفسير فهي مفسرة، بمعنى أي اعمل سابغات وهو تفسير {ألنا} وتحقيقه لأن يعمل، يعني ألنا له الحديد ليعمل سابغات ويمكن أن يقال ألهمناه أن اعمل وأن مع الفعل المستقبل للمصدر فيكون معناه: ألنا له الحديد وألهمناه عمل سابغات وهي الدروع الواسعة ذكر الصفة ويعلم منها الموصوف وقدر في السرد، قال المفسرون: أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها، ويحتمل أن يقال السرد هو عمل الزرد، وقوله: {وَقَدّرْ في السرد} أي الزرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل به القوت فحسب، ويدل عليه قوله تعالى: {واعملوا صالحا} أي لستم مخلوقين إلا للعمل الصالح فاعملوا ذلك وأكثروا منه، والكسب قدروا فيه، ثم أكد طلب الفعل الصالح بقوله: {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وقد ذكرنا مرارًا أن من يعمل لملك شغلًا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه، ثم لما ذكر المنيب الواحد ذكر منيبًا آخر وهو سليمان، كما قال تعالى: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا}.
رُوِيَ عَنْ عَطَاء بْنِ يَسَارٍ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} ثُمَّ قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ أُوتِيَهُنَّ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ آلُ دَاوُد: الْعَدْلُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.
قَوْله تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَمَلَ التَّصَاوِيرِ كَانَ مُبَاحًا، وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ» وَقَالَ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُحْيِيَهَا وَإِلَّا فَالنَّارُ» وَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُصَوِّرِينَ». وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّ الْمُرَادَ مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ: {فَضْلًا} فِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا:
الْأَوَّلُ: النُّبُوَّةُ.
الثَّانِي: الزَّبُورُ.
الثَّالِثُ: حُسْنُ الصَّوْتِ.
الرَّابِعُ: تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ.
الْخَامِسُ: التَّوْبَةُ.
السَّادِسُ: الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ.
السَّابِعُ: الطَّيْرُ.
الثَّامِنُ: الْوَفَاء بِمَا وُعِدَ.
التَّاسِعُ: حُسْنُ الْخُلُقِ.
الْعَاشِرُ: الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: تَيْسِيرُ الْعِبَادَةِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: الْعِلْمُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}.
الثَّالِثَ عَشَرَ: الْقُوَّةُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ}.
الرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُهُ: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}.
وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ حُسْنُ الصَّوْتِ؛ فَإِنَّ سَائِرَهَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاء مِنْ الْمُشْكِلَيْنِ.
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَوَجْهٍ حَسَنٍ، وَلَهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَفِيهِ دَلِيلُ الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ قِرَاءةً لَيِّنَةً وَهُوَ يُرَجِّعُ، وَيَقُولُ آهٍ، وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاء الْأَمْصَارِ الْقِرَاءةَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ.
وَهُوَ جَائِزٌ؛ لِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا؛ يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ، مَأْخُوذٌ مِنْ الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ.
وَقَدْ سَمِعْت تَاجَ الْقُرَّاء ابْنَ لُفْتَةَ بِجَامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك}. فَكَأَنِّي مَا سَمِعْت الْآيَةَ قَطُّ.
وَسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاء وَكَانَ مِنْ الْقُرَّاء الْعِظَامِ يَقْرَأُ، وَأَنَا حَاضِرٌ بِالْقَرَافَةِ: فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ.
وَسَمِعْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ شَيْخَ الْقُرَّاء الْبَصْرِيِّينَ يَقْرَأُ فِي دَارٍ بِهَا الْمَلِكُ: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ} فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فَكَأَنَّ الْإِيوَانَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْنَا.
وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا.
وَكَانَ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ يَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ تَمَتَّعْنَا بِهِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، وَلَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ فِي مَهْدِ عِيسَى فَيُسْمَعُ مِنْ الطُّورِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا طُولَ قِرَاءتِهِ إلَّا الِاسْتِمَاعَ إلَيْهِ.
وَكَانَ صَاحِبُ مِصْرَ الْمُلَقَّبُ بِالْأَفْضَلِ قَدْ دَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَوَّلَهَا عَنْ أَيْدِي الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهُوَ حَنَقَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا بِحِصَارِهِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ لَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا، وَتَدَانَى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنْهَا، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَصَدَّى لَهُ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ، وَقَرَأَ: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاء وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء بِيَدِك الْخَيْرُ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَمَا مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ سَمِعَهُ أَنْ قَالَ لِلنَّاسِ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ عِنْدَهُ، وَكَثْرَةِ حِقْدِهِ عَلَيْهِمْ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ.
وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا}.
بيّن لمنكري نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرًا بِدْعًا، بل أرسلنا الرسل وأيّدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب.
{آتَيْنَا} أعطينا.
{فَضْلًا} أي أمرًا فضلناه به على غيره.
واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأوّل: النبوّة.
الثاني: الزبور.
الثالث: العلم، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل: 15].
الرابع: القوّة، قال الله تعالى: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيد} [ص: 17].
الخامس: تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ}.
السادس: التوبة، قال الله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25].
السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26] الآية.
الثامن: إِلاَنَة الحديد، قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد}.
التاسع: حسن الصوت، وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن.
وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: {يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَاء} [فاطر: 1] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.