فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: «لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود» قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سمّيت آلة الزمر مزمارًا.
وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع، وقد مضى هذا في مقدّمة الكتاب والحمد لله.
قوله تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} أي وقلنا يا جبال أوّبي معه، أي سبّحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق} [ص: 18].
قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحًا كما خلق الكلام في الشجرة، فَيُسمع منها ما يُسمع من المسبّح معجزةً لداود عليه الصلاة والسلام.
وقيل: المعنى سِيري معه حيث شاء؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل.
قال ابن مقبل:
لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعدما ** دفعنا شُعاع الشمس والطرف يجنح

وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: {أَوِّبِي مَعَهُ} أي رجِّعي معه؛ من آب يئوب إذا رجع، أَوْبًا وأوْبة وإيابًا.
وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل.
وقال وهب بن منبّه: المعنى نوحِي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه.
فصَدَى الجبالِ الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة؛ فأيّد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فَتْرة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرّك، وقوي بمساعدة الجبال والطير.
وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفًا لصوته.
{والطَّيرُ} بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك، عطفًا على لفظ الجبال، أو على المضمر في {أَوِّبِي} وحسّنه الفصل بمع.
الباقون بالنصب عطفًا على موضع {يَا جِبَالُ} أي نادينا الجبال والطير، قاله سيبويه.
وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير.
وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملًا على {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا}.
النحاس: يجوز أن يكون مفعولًا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة.
وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدًا، فالمعنى أوّبي معه ومع الطير.
{وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} قال ابن عباس: صار عنده كالشمع.
وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار.
وقال السدّي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمِطْرَقة.
وقاله مقاتل: وكان يفرغ من الدّرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم.
وقيل: أعطي قوةً يَثْنِي بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقِي مَلَكًا وداود يظنه إنسانًا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثّل له: ما قولك في هذا الملِك داود؟ فقال له الملَك نِعم العبد لولا خَلّة فيه قال داود: وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله.
فرجع فدعا الله في أن يعلّمه صنعة ويسهلها عليه، فعلّمه {صنعة لَبُوسٍ} كما قال جل وعز في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادّخر منها كثيرًا وتوسَّعت معيشة منزله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أوّل من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح.
ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب ودرع المرأة مذكر.
مسألة:
في هذه الآية دليل على تعلّم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرّف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» وقد مضى هذا في الأنبياء مُجَوّدًا والحمد لله.
قوله تعالى: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} أي دروعًا سابغات، أي كوامل تامات واسعات؛ يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطّى كل ما هو عليه وفضل منه.
{وَقَدِّرْ فِي السرد} قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالًا؛ فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة.
أي قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه.
أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة.
وقال ابن زيد: التقدير الذي مر به هو في قدر الحَلْقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها.
وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسمار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقًا فَيقْلَق، ولا غليظًا فَيَفصِم الحلَق.
روي: يقصم بالقاف، والفاء أيضًا رواية.
{فِي السرد} السَّرْد نسج حلَق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السرّاد والزرّاد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سرّاط وزرّاط.
والسّرْد: الخَرْز، يقال: سرد يسرد إذا خرز.
والمِسْرَد: الإشفى، ويقال سراد؛ قال الشّماخ:
فظلت تباعًا خيلنا في بيوتكم ** كما تابعت سرْد العِنان الخوارِزُ

والسِّراد: السير الذي يخرز به؛ قال لَبِيد:
يشك صِفاحها بالرّوْق شَزْرًا ** كما خرج السِّراد من النقال

ويقال: قد سرد الحديث والصوم؛ فالسرد فيهما أن يجيء بهما وِلاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام.
وفي حديث عائشة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدّث الحديث لو أراد العادّ أن يعدّه لأحصاه.
قال سيبويه: ومنه رجل سَرَنْدَى أي جريء، قال: لأنه يمضي قُدُمًا.
وأصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يُحكمها ويجعل نظام حلَقها وِلاء غير مختلف.
قال لبيد:
صنع الحديدَ مضاعفًا أسراده ** لينال طول العيش غير مَرُومِ

وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرُودَتانِ قضاهما ** داودُ أو صَنَعُ السوابغِ تُبَّعُ

{واعملوا صَالِحًا} أي عملًا صالحًا.
وهذا خطاب لداود وأهله، كما قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدُ شُكْرًا}.
{إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلًا على سائر الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي نوعًا من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزةٌ خاصة به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّرَ تبقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلَ تمكُّنٍ {فَضْلًا ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتًا مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك. وقُرىء أُوبي من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل: كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها. وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلًا بإضمار قولنا {والطير} بالنَّصبِ عطفًا على فضلًا بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءها إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية. وقيل: عطفًا على محلِّ الجبالِ وفيه من التَّكلُّفِ لفظًا ومعنى ما لا يخفى. وقُرىء بالرَّفعِ عطفًا على لفظها تشبيهًا للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ. وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعول معه، والأول هو الوجهُ. وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاء المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياء سلطانِه ما لا يخفى على أولي الألباب.
{وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} أي جعلناه ليِّنًا في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاء من غير إحماء بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّنًا كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ {أَنِ اعمل} أمرناه أنِ اعمل على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذف عنها الباء وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى {سابغات} واسعاتٍ. وقُرىء صابغاتٍ وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا: كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ مُتنكِّرًا فيسألُ النَّاسَ: ما تقولون في داودَ؟ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له مَلَكًا في صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال: نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه، فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ: لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل: كان يبيعُ الدِّرعَ بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء {وَقَدّرْ في السرد} السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها.
وقيل: قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها دِقاقًا ولا غِلاظًا، ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكُن مسمَّرة كما يُنبىء عنه إلانةُ الحديدِ. وقيل: معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقوله تعالى: {واعملوا صالحا} عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولأهلِه {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ به. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلًا} أي آتيناه لحسن انابته وصحة توبته فضلًا أي نعمة واحسانًا، وقيل فضلًا وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه ما من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم السلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة والسلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقًا وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره، وقد انفرد عليه السلام بما ذكر ههنا، وقيل: أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن.
وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة وإن أريد المجموع من حيث هو ففيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضًا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه.
وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالاحسان وتنكيره للتفخيم و {مِنَّا} أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ} [الكهف: 5 6] وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن، وذكر شئون داود وسليمان عليهما السلام هنا لمناسبة ذكر المينب في قوله تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لآية لكل عبد منيب} [سبأ: 9] كما أشرنا إليه، وقال أبو حيان: مناسبة قصيتهما عليهما السلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم، وقيل: ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجًا على ما منح نبينا صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديمًا بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسلام رجع التمثيل لهم بسبا وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو {فَضْلًا ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} أي سبحى معه قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، وأخرجه ابن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال: معناه ذلك بلغة الحبشة، والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه، وقال ابن عطية: إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة.
وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدى بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح.
يروى أنه عليه السلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها ولا يعجز الله عز وجل أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولا يبعد على هذا أن يقال: إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادي أولوا الفهم وأمرها، وقال بعضهم: إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا أشعارًا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها، وقيل: المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، وفيه مع كونه خلاف المأثور إن {مَعَهُ} يأباه، وأيضًا لا اختصاص له عليه السلام بتأويب الجبال بهذا اللمعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له، وقيل: كان عليه السلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده باصدائها.
وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان، والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تئوب معه، وأيضًا أي اختصاص له عليه الصلاة والسلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال، وعن الحسن أن معنى {أَوّبِى مَعَهُ} سيرى معه أين سار، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار رأي يردده.
ومن ذلك قول تميم بن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ** دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح

وقول آخر:
يومان يوم مقامات وأندية ** ويوم سير إلى الأعداء تأويب

وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داود عليه السلام أو غيره، وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت.