فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الرابعة:
قال بعض الناس: المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44]، وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحها فيسبح، ومن تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح وقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} ثلاثون فرسخًا لأن من يخرج للتفرج في أكثر الأمر لا يسير أكثر من فرسخ ويرجع كذلك، وقوله في حق داود: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} وقوله في حق سليمان: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أنهم استخرجوا تذويب الحديد والنحاس بالنار واستعمال الآلات منهما والشياطين أي أناسًا أقوياء وهذا كله فاسد حمله على هذا ضعف اعتقاده وعدم اعتماده على قدرة الله والله قادر على كل ممكن وهذه أشياء ممكنة.
المسألة الخامسة:
أقول قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال} [الأنبياء: 79] وقوله: {ولسليمان الريح عَاصِفَةً} [الأنبياء: 81] لو قال قائل ما الحكمة في أن الله تعالى قال في الأنبياء: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال} وفي هذه السورة قال: {ياجبال أَوّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] وقال في الريح هناك وههنا: {ولسليمان} تقول الجبال لما سبحت شرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة له وهذا حسن وفيه أمر آخر معقول يظهر لي وهو أن على قولنا: {أَوّبِي مَعَهُ} سيري فالجبل في السير ليس أصلًا بل هو يتحرك معه تبعًا، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تحرك سليمان مع نفسها، فلم يقل الريح مع سليمان، بل سليمان كان مع الريح {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النحاس {وَمِنَ الجن} أي سخرنا له من الجن، وهذا ينبىء عن أن جميعهم ما كانوا تحت أمره وهو الظاهر.
واعلم أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان عليهما الصلاة والسلام فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان، وذلك لأن الثقيل مع ما هو أخف منه إذا تحركا يسبق الخفيف الثقيل ويبقى الثقيل مكانه، لكن الجبال كانت أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح فقدر الله أن سار الثقيل مع الخفيف أي الجبال مع داود على ما قلنا: {أَوّبِى} أي سيري وسليمان وجنوده مع الريح الثقيل مع الخفيف أيضًا، والطير من جنس تسخير الجن لأنهما لا يجتمعان مع الإنسان؛ الطير لنفوره من الإنس والإنس لنفوره من الجن، فإن الإنسان يتقي مواضع الجن، والجن يطلب أبدًا اصطياد الإنسان والإنسان يطلب اصطياد الطير فقدر الله أن صار الطير لا ينفر من داود بل يستأنس به ويطلبه، وسليمان لا ينفر من الجن بل يسخره ويستخدمه وأما القطر والحديد فتجاذبهما غير خفي وههنا لطيفة: وهي أن الآدمي ينبغي أن يتقي الجن ويجتنبه والاجتماع به يفضي إلى المفسدة ولهذا قال تعالى: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97، 98] فكيف طلب سليمان الاجتماع بهم فنقول قوله تعالى: {مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} إشارة إلى أن ذلك الحضور لم يكن فيه مفسدة ولطيفة أخرى: وهي أن الله تعالى قال ههنا: {بِإِذْنِ رَبّهِ} بلفظ الرب وقال: {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} ولم يقل عن أمر ربه، وذلك لأن الرب لفظ ينبىء عن الرحمة، فعندما كانت الإشارة إلى حفظ سليمان عليه السلام قال: {رَبِهِ} وعندما كانت الإشارة إلى تعذيبهم قال: {عَنْ أَمْرِنَا} بلفظ التعظيم الموجب لزيادة الخوف وقوله تعالى: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} فيه وجهان:
أحدهما: أن الملائكة كانوا موكلين بهم وبأيديهم مقارع من نار فالإشارة إليه.
وثانيهما: أن السعير هو ما يكون في الآخرة فأوعدهم بما في الآخرة من العذاب.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}.
المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21] والتماثيل ما يكون فيها من النقوش، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال: {وَجِفَانٍ كالجواب} جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس {وَقُدُورٍ رسيات} ثابتات لا تنقل لكبرها، وإنما يغرف منها في تلك الجفان، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم الجفان في الذكر على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل، فنقول: لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه، وأما القدور فلا تكون فيه، ولا تحضر هناك، ولهذا قال: {رسيات} أي غير منقولات، ثم لما بين حال الجفان العظيمة، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان.
المسألة الثانية:
ذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب، وفي حق سليمان بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان كان ولد داود، وداود قتل جالوت والملوك الجبابرة، واستوى داود على الملك، فكان سليمان كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده، ولأن سليمان لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيرًا لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام.
المسألة الثالثة:
لما قال عقيب قوله تعالى: {أَنِ اعمل سابغات} {اعملوا صالحًا} [سبأ: 11]، قال عقيب ما يعمله الجن: {اعملوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْرًا} إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح الذي يكون شكرًا، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء، وقلة الاشتغال بها كما في قوله: {وَقَدِّرْ في السرد} [سبأ: 11] أي اجعله بقدر الحاجة.
المسألة الرابعة:
انتصاب شكرًا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون مفعولًا له كقول القائل جئتك طمعًا وعبدت الله رجاء غفرانه وثانيها: أن يكون مصدرًا كقول القائل شكرت الله شكرًا ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل جلست قعودًا، وذلك لأن العمل شكر فقوله: {اعملوا} يقوم مقام قوله: {اشكروا} وثالثها: أن يكون مفعولًا به كقولك اضرب زيدًا كما قال تعالى: {واعملوا صالحا} [سبأ: 11] لأن الشكر صالح.
المسألة الخامسة:
قوله: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشكور} إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده، وذلك لأنه لما قال: {اعملوا ءَالَ دَاوُودَ شُكْرًا} فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن، لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر، فدائمًا تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر، فقال تعالى: إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج، فإن عبادي قليل منهم الشكور ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله: {عِبَادِي} مع الإضافة إلى نفسه، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين، كقوله تعالى: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53] وقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65] فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن وقوله: {قَلِيلٌ} يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية هو الواقع وقليل فاعله، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، أو نقول الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه، وقال له: يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}.
لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له بين أنه لم ينج من الموت، وأنه قضى عليه الموت، تنبيهًا للخلق على أن الموت لابد منه، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
كان سليمان عليه السلام يقف في عبادة الله ليلة كاملة ويومًا تامًا وفي بعض الأوقات يزيد عليه، وكان له عصا يتكىء عليها واقفًا بين يدي ربه، ثم في بعض الأوقات كان واقفًا على عادته في عبادته إذ توفي، فظن جنوده أنه في العبادة وبقي كذلك أيامًا وتمادى شهورًا، ثم أراد الله إظهار الأمر لهم، فقدر أن أكلت دابة الأرض عصاه فوقع وعلم حاله.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين} كانت الجن تعلم ما لا يعلمه الإنسان فظن أن ذلك القدر علم الغيب وليس كذلك، بل الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلًا فهو أكثر الأشياء الحاضرة لا يعلمه، والجن لم تعلم إلا الأشياء الظاهرة وإن كانت خفية بالنسبة إلى الإنسان، وتبين لهم الأمر بأنهم لا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه لما بقوا في الأعمال الشاقة ظانين أن سليمان حي.
وقوله: {مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين} دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْمِحْرَابُ: هُوَ الْبِنَاء الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاء الصُّوفِيُّ: جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ: يَا جَفْنَةً بِإِزَاء الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً: كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} يَعْنِي ثَابِتَاتٍ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاء عَظِيمًا مِنْ حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاء كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ.
وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ عَلَى وَالِيهِ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ، فَحَصَرَهُ، وَحَاوَلَ قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا مِنْ الْعَامَّةِ بَشَرٌ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مُعْتَكِفٌ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ.
وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَمَاثِيلَ} وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ، وَهُوَ بِنَاء غَرِيبٌ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاء الَّتِي جَاءتْ عَلَى تِفْعَالٍ قَلِيلَةٌ مُنْحَصِرَةٌ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ: رَجُلٌ تِكْلَامٌ: كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ: كَثِيرُ اللُّقَمِ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ: كَذَّابٌ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ: قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ، وَالتِّمْرَادُ: بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ.
وَتِلْفَاقٌ.
ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالتِّجْفَافُ: مَعْرُوفٌ.
وَتِمْثَالٌ: مَعْرُوفٌ.
وَتِبْيَانٌ: مِنْ الْبَيَانِ وَتِلْقَاء: قُبَالَتَك وَتِهْوَاء مِنْ اللَّيْلِ: قِطْعَةٌ.
وَتِعْشَارٌ: مَوْضِعٌ.
وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ: قَصِيرٌ.
وَتِلْعَابٌ: كَثِيرُ اللَّعِبِ.
وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ.
فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا.
فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي: كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ: وَتِذْكَارُهُمْ تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاء فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاء وَإِلَّا التِّبْيَانَ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ مَوْضِعَانِ، وَتِقْصَارٌ: قِلَادَةٌ.
قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ: ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى اللَّفْظِ وَذَكَرْت لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي: اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك.
فَأَمْلَى عَلَيَّ: الْأَشْيَاء الَّتِي جَاءتْ عَلَى تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ: مَصَادِرُ وَأَسْمَاء؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاء وَالتِّبْيَانُ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ.
وَالْأَسْمَاء: رَجُلٌ تِنْبَالٌ: أَيْ قَصِيرٌ.
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاء فِي تِنْبَالٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا.
وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَزَادَ التِّنْضَالُ مِنْ الْمُنَاضَلَةِ والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ، وَتِرْيَاعٌ: مَوْضِعٌ، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ، وَيُقَالُ جَاء لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالتِّمْتَانُ وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ.
وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ، وَالتِّمْسَاحُ الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ: جَمَادٌ وَنَامٍ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ: {تَمَاثِيلَ}.
وَالثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، أَصْلُهَا الإسرائليات؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ مِنْ الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ: {تَمَاثِيلَ} فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ.
قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {مَا يَشَاء} فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ.