فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح}.
قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: {الرِّيحُ} بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفيه ذلك المعنى الأول.
فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدًا درهمًا ولعمرو دينار؛ فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار.
وقيل: الأمر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل.
{غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي مسيرة شهر.
قال الحسن: كان يغدو من دمشق فَيقِيل بإصْطَخْر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصْطَخر ويبيت بكابُل، وبينهما شهر للمسرع.
قال السُّدّيّ: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين.
وروى سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسيّ، ثم جلس رؤساء الإنس مما يليه، وجلس سِفْلة الإنس مما يليهم، وجلس رؤساء الجن مما يلي سِفْلة الإنس، وجلس سِفْلة الجن مما يليهم، ومُوكّل بكل كرسيّ طائر لعملٍ قد عرفه، ثم تقلّهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}.
وقال وهب بن منبّه: ذكر لي أن منزلًا بناحية دِجْلة مكتوبًا فيه كتبه بعض صحابة سليمان؛ إمّا من الجن وإما من الإنس: نحن نزلنا وما بنيناه، ومَبْنيًّا وجدناه، غُدُوّنا من إصْطَخْر فَقِلْناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام.
وقال الحسن: شغلت سليمانَ الخيلُ حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرًا منها وأسرع، أبدله الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوّها شهر ورواحها شهر.
وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تَدْمُر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصُّفَاح والعَمَد والرخام الأبيض والأصفر.
وفيه يقول النابغة:
إلاّ سليمانَ إذ قال الإله له ** قُمْ في البرِيّة فاحدُدْها عن الفَنَد

وَخَيِّس الجن إني قد أذنت لهم ** يبنون تَدْمر بالصُّفّاح والعَمَد

فمن أطاعك فانفعه بطاعته ** كما أطاعك وادْلُلْه على الرشد

ومن عصاك فعاقِبْه معاقبةً ** تَنْهَى الظَّلومَ ولا تَقْعُد على ضَمَد

ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يَشْكُر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حولٌ سوى حولِ ربّنا ** نروح إلى الأوطان من أرض تَدْمُرِ

إذا نحن رُحْنا كان رَيْثُ رواحِنا ** مسيرةَ شهرٍ والغُدُوُّ لآخَرِ

أناسٌ شرَوْا لله طوْعًا نفوسَهم ** بنصر ابن داودَ النبيِّ المطهَّرِ

لهم في معالي الدِّين فضلٌ ورفعة ** وإن نُسِبُوا يومًا فمن خير مَعْشَرِ

متى يركبوا الريح المطيعةَ أسرعتْ ** مبادِرةً عن شَهْرها لم تُقَصِّرِ

تظلّهُم طيرٌ صفوفٌ عليهمُ ** متى رَفْرَفَتْ من فوقهم لم تُنَفَّرِ

قوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} القِطر: النحاس؛ عن ابن عباس وغيره.
أسِيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب؛ وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان.
قال قتادة: أسال الله عينًا يستعملها فيما يريد.
وقيل لعكرمة: إلى أين سالت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسُّدّي: أجريت له عين الصُّفْر ثلاثة أيام بلياليهن.
قال القشيريّ: وتخصيص الإسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حدّه، ولعله وَهْم من الناقل؛ إذ في رواية عن مجاهد: أنها سالت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها؛ وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدّة.
والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينًا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوّته.
وقال الخليل: القِطْر: النحاس المذاب.
قلت: دليله قراءة من قرأ: {مِن قِطرٍ آنٍ}.
{وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي بأمره {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان.
{نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} أي في الآخرة، قاله أكثر المفسرين.
وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكلّ بهم فيما روى السُّدّي مَلكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته.
ومَن في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل.
ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدّم في الريح.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}.
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع.
وقيل للذي يصلَّى فيه: محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ويعظّم.
وقال الضحاك: {مِنْ مَحَارِيبَ} أي من مساجد وكذا قال قتادة.
وقال مجاهد: المحاريب دون القصور.
وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار.
قال:
وماذا عليه أن ذكرتُ أوانسًا ** كغِزلان رَمْل في محاريبِ أقيالِ

وقال عَدِيّ بن زيد:
كدُمَى العاج في المحاريب أو كال ** بَيْض في الروْض زهره مستنيرُ

وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة؛ كما قال: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21] وقوله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} [مريم: 11] أي أشرف عليهم.
وفي الخبر «أنه أمر أن يعمل حول كرسيّه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يَصْرخون إلى الله دائبًا، وهو على الكرسي في موكِبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبّحوا الله إلى ذلك العَلَم، فإذا بلغوه قال: هلّلوه إلى ذلك العَلَم، فإذا بلغوه قال: كبّروه إلى ذلك العَلَم الآخر، فتَلِجّ الجنود بالتسبيح والتهليل لَجَّةً واحدة».
الثانية: قوله تعالى: {وَتَمَاثِيلَ} جمع تمثال.
وهو كل ما صُوّر على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان.
وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان.
وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادًا، قال صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنَوْا على قبره مسجدًا وصوّروا فيه تلك الصُّورَ» أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة.
وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة نوح عليه السلام.
وقيل: التماثيل طِلَّسْمات كان يعملها، ويحرم على كل مصوّر أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالًا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزوه فلا يتجاوزه واحد أبدًا ما دام ذلك التمثال قائمًا.
وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء.
قال:
ويا رُبَّ يومٍ قد لهَوْتُ وليلةٍ ** بآنسة كأنها خطّ تمثالِ

وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يَحِيك فيهم السلاح.
ويقال: إن اسفنديار كان منهم؛ والله أعلم.
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النَّسران أجنحتهما.
الثالثة: حكى مكيّ في الهداية له: أن فرقة تجوّز التصوير، وتحتج بهذه الآية.
قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوّزه.
قلت: ما حكاه مكيّ ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولِمَا أخبر الله عز وجل عن المسيح.
وقال قوم: قد صح النهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها، والتوعّد لمن عملها أو اتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحًا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بُعث عليه السلام والصور تُعبد، فكان الأصلح إزالتها.
الرابعة: التمثال على قسمين: حيوان وموات.
والموات على قسمين: جماد ونامٍ؛ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه؛ لعموم قوله: {وَتَمَاثيلَ}.
وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان.
فإن قيل: لا عموم لقوله: {وَتَمَاثِيلَ} فإنه إثبات في نكرة، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي في النكرة.
قلنا: كذلك هو، بَيْدَ أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: {مَا يَشَاء} فاقتران المشيئة به يقتضي العموم له.
فإن قيل: كيف استجاز الصور المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزًا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم.
وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرَّمًا.
الخامسة: مقتضى الأحاديث يدلّ على أن الصور ممنوعة، ثم جاء: «إلا ما كان رَقْمًا في ثوب» فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: «أخّريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا» ثم بِهتكه الثوب المصوّر على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز، لقولها في النُّمرُقة المصوّرة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسَّدها، فمنع منه وتوعّد عليه.
وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه.
فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم؛ قاله ابن العربي.
السادسة: روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حوّلي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا».