فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واتخاذ المحاريب في المساجد حدث في المائة الثانية، والمظنون أنه حدث في أولها في حياة أنس بن مالك لأنه روي عنه أنه تنزه عن الجلوس في المحاريب وكانوا يسمونه الطاقَ أو الطاقَة، وربما سموه المذبح، ولم أر أنهم سموه أيامئذ محرابًا، وإنما كانوا يسمون بالمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة، قال عُمر بن أبي ربيعة:
دُمية عند راهب قسيس ** صوَروها في مذابح المحراب

والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود لما لا يخفى من تفرع النصرانية عن دين اليهودية.
وما حكي عن أنس بن مالك إن صحّ فإنما يُعنى به بيت للصلاة خاص.
ورأيت إطلاق المحراب على الطاقة التي في المسجد في كلام الفَراء، أي في منتصف القرن الثاني، نقل الجوهري عنه أنه قال: المحاريب صدور المجالس ومنه سمي محرابُ المسجد، لأن المحراب لم يبق حينئذٍ مطلقًا على مكان العبادة.
ومن الغلط أن جعلوا في المسجد النبوي في الموضع الذي يقرَّب أن يكون النبي يصلي فيه صورَة محراب منفصل يسمونه محراب النبي وإنما هو علامة على تحري موقفه.
والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة علامة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة فإن ذلك يقع كثيرًا، ثم وسعوها شيئًا فشيئًا حتى صيروها في صورة نصف دهليز صغير في جدار القبلة يسع موقف الإِمام، وأحسب أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق، ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بجعله في المسجد النبوي حين وسّعه وأعاد بناءه، وذلك في مدة إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة حسبما ذكر السمهودي في كتاب خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى.
والتماثيل: جمع تِمثال بكسر التاء، ووزنه تِفعال لأن التاء مزيدة وهو أحد أسماء معدودة جاءت على وزن تِفعال بكسر التاء، وأما قياس هذا الباب وأكثرُه فهو بفتح التاء.
والأسماء التي جاءت على هذا الوزن منها مصادر ومنها أسماء، فأما المصادر فأكثرها بفتح التاء إلا مصدرين: تبيان، وتلقاء بمعنى اللقاء.
وأما الأسماء فورد منها على الكسر نحو من أربعة عشر اسمًا منها: تِمثال، أحصاها ابن دريد، وزاد ابن العربي في أحكام القرآن عن شيخه الخطيب التبريزي تسعة فصارت خمسة وعشرين.
والتمثال هو الصورة الممثلة، أي المجسمة مثل شيء من الأجسام فكان النحاتون يعملون لسليمان صورًا مختلفة كصور موهومة للملائكة وللحيوان مثل الأسود، فقد كان كرسي سليمان محفوفًا بتماثيل أُسود أربعة عشر كما وصف في الإِصحاح العاشر من سفر الملوك الأول.
وكان قد جَعل في الهيكل جابية عظيمة من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس.
ولم تكن التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإِسلام لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الإِشراك لشدة تمكن الإِشراك من نفوس العرب وغيرهم.
وكان معظم الأصنام تماثيل فحرّم الإِسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها ولكن لكونها كانت ذريعة للإِشراك.
واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظلّ من تماثيل ذوات الروح إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس.
وحكم صنعها يتبع اتخاذها.
ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن العمل بأمور البيت.
والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء.
وقدرت الجفنة في التوراة بأنها تسع أربعين بَثَّا بالمثلثة ولم نعرف مقدار البث عندهم ولا شك أنه مكيال.
وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي.
وهي جمع: جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع، قال الأعشى:
نفي الذم عن رهط المحلَّق جفنة ** كجابية الشيخ العراقي تَفْهَق

أي الجفنة في سعتها كجابية الرجل العراقي، وأهل العراق أهل كروم وغروس فكانوا يجمعون الماء للسقي.
وكانت الجفان المذكورة في الهيكل المعروف عندنا بيت المقدس لأجل وضع الماء ليغلسوا فيها ما يقربونه من المحرَقات كما في الإِصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.
وكتب في المصحف {كالجواب} بدون ياء بعد الموحدة.
وقرأه الجمهور بدون ياء في حالي الوصل والوقف.
وقرأه ابن كثير بإثبات الياء في الحالين.
وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في حال الوصل وبحذفها في حال الوقف.
والقدور: جمع قِدر وهي إناء يوضع فيه الطعام ليطبخ من لحم وزيت وأدهان وتوابل.
قال النابغة في النعمان بن الحارث الجُلاحي:
له بِفناء البيت سوداء فخمة ** تلقَّم أوصال الجَزور العُراعر

بقية قِدر من قُدور تُورثت ** لآل الجلاح كابرًا بعد كابر

أي تَسَع قوائم البعير إذا وضعت فيه لتطبخ مَرقًا ونحوه.
وهذه القدور هي التي يطبخ فيها لجند سليمان ولسدنة الهيكل ولخدمه وأتباعه وقد ورد ذكر القدور إجمالًا في الفقرة السادسة عشرة من الإصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.
والراسيات: الثابتات في الأرض التي لا تُنزل من فوق أثافيها لتداول الطبخ فيها صباحَ مساء.
وجملة {اعملوا آل داود شكرًا} مقول قول محذوف، أي قلنا: اعملوا يا آل داود، ومفعول {اعملوا} محذوف دل عليه قوله: {شكرًا}.
وتقديره: اعملوا صالحًا، كما تقدم آنفًا، عملًا لشكر الله تعالى، فانتصب {شكرًا} على المفعول لأجله.
والخطاب لسليمان وآله.
وذُيل بقوله: {وقليل من عبادي الشكور} فهو من تمام المقول، وفيه حثّ على الاهتمام بالعمل الصالح.
ويجوز أن يكون هذا التذييل كلامًا جديدًا جاء في القرآن، أي قلنا ذلك لآل داود فعَمل منهم قليل ولم يعمل كثير وكان سليمان من أول الفئة القليلة.
و {الشكور} الكثيرُ الشكر.
وإذْ كان العمل شكرًا أفاد أن العاملين قليل.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}.
تفريع على قوله: {ومن الجن من يعمل بين يديه} إلى قوله: {وقدور راسيات} [سبأ: 12، 13] أي دام عملهم له حتى مات {فلما قضينا عليه الموت} إلى آخره.
ولا شك أن ذلك لم يطل وقتُه لأن مثله في عظمةِ ملكه لابد أن يفتقده أتباعُه، فجملة {ما دلهم على موته} الخ جواب لمَّا {قضينا عليه الموت}.
وضمير {دلهم} يعود إلى معلوم من المقام، أي أهلَ بَلاطه.
والدلالة: الإِشْعار بأمر خفيّ.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل} [سبأ: 7].
و {دابة الأرض} هي الأَرَضَة بفتحات ثلاث وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث: سوس ينخر الخشب.
فالمراد من الأرض مصدرُ أَرَضَت السُّرفَة الخَشَبَ من باب ضَرب، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيرًا من السُرْف فتعَجَّل لها النخر.
وجملة {فلما خر} مفرعة على جملة {ما دلهم على موته}.
وجملة {تبينت الجن} جواب لمّا {خرّ}.
والمِنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين، وتخفَّفُ الهمزة فتصير ألفًا هي العَصا العظيمة، قيل: هي كلمة من لغة الحبشة.
وقرأ نافع وأبو عَمرو بألف بعد السين.
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر بهمزة مفتوحة بعد السين.
وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفًا وهو تخفيف نادر.
وقرأ الجمهور: {تبينت الجن} بفتح الفوقية والموحدة والتحتية.
وقرأه رُويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول، أي تبين الناس الجنّ.
و {أن لو كانوا يعلمون} بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين.
وقوله: {تبينت الجن} إسنادُ مُبهم فصَّله قوله: {أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} ف {أَن} مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من {الجن} بدلَ اشتمال، أي تبينت الجنُّ للناس، أي تبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب، أي تبين عدم علمهم الغيب، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب.
و {العذاب المهين} المذل، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزَليًّا، وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذٍ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلِمون المغيبات من الكهان، ويزعمون أن لكل كاهن جِنِّيًّا يأتيه بأخبار الغيب، ويسمونه رَئيًّا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهونَ عليهم. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ}.
مناسبة قصة داود وسليمان، عليهما السلام، لما قبلها، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره، إن شاء الله، من تأويب الجبال والطير مع داود، والإنة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل: لما ذكر من ينيب من عباده، ذكر من جملتهم داود، كما قال: {فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب} وبين ما آتاه الله على إنابته فقال: {ولقد آتينا داود منا فضلًا} وقيل: ذكر نعمته على داود وسليمان، عليهما السلام، احتجاجًا على ما منح محمدًا صلى الله عليه وسلم: أي لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديمًا بكذا وكذا.
فلما فرغ التمثيل لمحمد، عليه السلام، رجع التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. انتهى.
والفضل الذي أوتي داود: الزبور، والعدل في القضاء، والثقة بالله، وتسخير الجبال، والطير، وتليين الحديد، أقوال.
{يا جبال} هو إضمار القول، إما مصدر، أي قولنا {يا جبال} فيكون بدلًا من {فضلًا} وأما فعلًا، أي قلنا، فيكون بدلًا من {آتينا} وإما على الاستئناف، أي قلنا {يا جبال} وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارًا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية، حيث نادى الجبال وأمرها.
وقرأ الجمهور: {أوّبي} مضاعف آب يؤب، ومعناه: سبحي معه، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد.
وقال مؤرج، وأبو ميسرة: أوبي: سبحي، بلغة الحبشة، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي تردد بالذكر، وضعف الفعل للمبالغة، قاله ابن عطية.
ويظهر أن التضعيف للتعدية، فليس للمبالغة، إذ أصله آب، وهو لازم بمعنى: رجع اللازم فعدى بالتضعيف، إذ شرحوه بقولهم: رجعي معه التسبيح.
قال الزمخشري: ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يخلق فيها تسبيحًا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح، معجزة لداود.
قيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. انتهى.
وقوله: كما خلق الكلام في الشجرة، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام، لا أنه كلام الله حقيقة، وهو مذهب المعتزلة.
وأما قوله: تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تئوب معه، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله، إذ ليس فعلًا لها، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان.
وقال الحسن: معنى {أوبي معه} سيري معه أين سار، والتأويب: سير النهار.
كان الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار، أي يردده، وقال تميم بن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ** رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح

وقال آخر:
يومان يوم مقامات وأندية ** ويوم سير إلى الاعداء تأويب

وقيل: أوّبي: تصرفي معه على ما يتصرف فيه.
فكان إذا قرأ الزبور، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل.
وقرأ ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن أبي إسحاق: {أوبي} ، أمر من أوب: أي رجعي معه في التسبيح، أو في السير، على القولين.
فأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك، ومنه: يا خيل الله اركبي، ومنه: يا رب أخرى، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث، قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى ** وقلنا للنساء بها أقيمي

لكن هذا قليل.
وقرأ الجمهور: {والطير} بالنصب عطفًا على موضع {يا جبال}.
قال سيبويه: وقال أبو عمرو: بإضمار فعل تقديره: وسخرنا له الطير.
وقال الكسائي: عطفًا على {فضلًا} أي وتسبيح الطير.
وقال الزجاج: نصبه على أنه مفعول معه.
انتهى، وهذا لا يجوز، لأن قبله معه، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف، فكما لا يجوز: جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف، كذلك هذا.
وقرأ السلمي، وابن هرمز، وأبو يحيى، وأبو نوفل، ويعقوب، وابن أبي عبلة، وجماعة من أهل المدينة، وعاصم في رواية: {والطير} ، بالرفع، عطفًا على لفظ {يا جبال} وقيل: عطفًا على الضمير في {أوبي} وسوغ ذلك الفصل بالظرف؛ وقيل: رفعًا بالابتداء، والخبر محذوف، أي والطير تئوّب.