فصل: المعنى الإجمالي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال القرطبي: التمثال: كل ما صور على مثل صورة من حيوان، أو غير حيوان.
{وجفان} جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة قال الشاعر:
وإذا هاجت شمالا أطعموا ** في قدور مشبعات لم تجع

وجفان كالجوابي ملئت ** من سمينات الذرى فيها ترع

وقال الآخر:
ثقال الجفون والحلوم رحاهم ** رحا الماء يكتالون كيلا عذمذما

قال أبو عبيدة: كان لعبد اله بن جدعان جفنة يأكل منها القائم والراكب، وذكر المدائني أنه وقع فيها صبي فغرق.
{كالجواب} جمع جابية، وهي الحوض الكبير يجبى فيه الماء، أي يجمع قال الأعشى:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ** كجابية الشيخ العراقي تفهق

قال المفسرون: كان الجن يصنعون لسليمان القصاع كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها.
{راسيات} أي ثوابت، يقال: رسا الشيء يرسو: إذا ثبت، والمراد أنها لعظمها لا تنقل فهي ثابتة في أماكنها، ومنه قيل للجبال: رواسي، قال تعالى: {وجعلنا فيها رواسي شامخات} [المرسلات: 27].
قال ابن العربي: راسيات: أي ثوابت لا تحمل ولا تحرك لعظمها، وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم، وعنها عبر طرفة بن العبد بقوله:
كالجوابي لا تني مترعة ** لقرى الأضياف أو للمحتضر

وقال ابن الجوزي: وفي علة ثبوتها في مكانها قولان: أحدهما أن أثافيها منها قال ابن عباس، والثاني: أنها لا تنزل لعظمها، قاله ابن قتيبة.
الأثافي جمع الأثفية: ما توضع عليها القدر من حجارة وغيرها.
{دابة الأرض} هي حشرة تسمى الأرضة تأكل الخشب وتنخره.
{منسأته} المنسأة: العصا، وهي مفعلة من نسأت الدابة: إذا سقتها. قال الشاعر:
ضربنا بمنسأة وجهه ** فصار بذاك مهينا ذليلا

قال الزجاج: وإنما سميت منسأة لأنه ينسأ بها: أي يطرد ويزجر، وقال الفراء: أهل الحجاز لا يهمزون المنسأة وتميم وفصحاء قيس يهمزونها، قال الشاعر في ترك الهمزة:
إذا دببت على المنساة من كبر ** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقال آخر مع الهمز والفتح:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته ** بمنسأة قد جر حبلك أحبلا

وقال أبو عمرو: وأنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا، فإن كانت لا تهمز فقد احتطت، وإن كانت تهمز فيجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز.
{خر} سقط على الأرض أي سقط ميتا.
{العذاب المهين} المراد به التكاليف والأعمال الشاقة التي كلف سليمان عليه السلام بها الجن.
قال المفسرون: كانت الإنس تقول: إن الجن يعلمون الغيب، الذي يكون في المستقبل، فوقف سليمان عليه السلام في محرابه يصلي متوكئا على عصاه، فمات ومكث على ذلك حولا والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته، حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فسقط على الأرض فعلموا موته، وعلم الإنس أن الجن لا تعلم الغيب، ولو علموا الغيب لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة.

.المعنى الإجمالي:

يخبر المولى تعالى بما أنعم على عبده ورسوله داود عليه السلام، من الفضل المبين، والجاه العظيم، حيث جمع له بين النبوة والملك والجنود ذوي العدد والعدد، وما منحه إياه من الصوت الرخيم، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، وإذا قرأ الزبور تقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات، تكف عن طيرانها ثم تردد معه الزبور مع التسبيح والتمجيد معجزة له عليه السلام، وقد ألان الله تعالى له الحديد، حتى كان بين يديه كالعجين يصنع منه الدروع السابغة، التي تقي الإنسان شر الحروب، كما قال تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون} [الأنبياء: 80].
وكما أنعم الله على داود أنعم على ولده سليمان عليهما الصلاة والسلام، فسخر له الريح، وسخر الجن، وعلمه لغة الطير، وأسال له عين النحاس فكانت عينا جارية تسيل بقدرة الله، وكانت الريح تقطع به المسافات الشاسعة الواسعة، في ساعات معدودات، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلد إلى بلد،، وتسير به مسيرة شهرين في أقل من نهار واحد {غدوها شهر ورواحها شهر} أي تغدو به مسيرة شهر إلى نصف النهار، وترجع به مسيرة شهر آخر النهار، وكأنها طائرة نفاثة تحمل ذلك الجيش العرمرم وتنتقل به في ساعات محدودات، تقطع به مسيرة شهرين. كما سخر له الجن تعمل بأمره وإرادته، ما يعجر عنه البشر، من القصور الشامخة، والتماثيل العجيبة والقصاع الضخمة التي تشبه الأحواض، والقدور الراسيات التي لا تتحرك لكبرها وضخامتها، وأمره أن يشكر الله على هذه النعم.
ثم أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان عليه السلام، وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإن مكث متوكئا على عصاه نحو سنة وهو ميت، والجن لا تعلم ذلك حتى أكلت الأرضة العصا فكسرت وسقط على الأرض فعلموا حينئذ موته، ولو كانوا يعلمون الغيب ما مكثوا هذه المدة الطويلة مسخرين في الأعمال الشاقة التي كلفهم بها سليمان عليه السلام.

.وجه المناسبة لما سبق من الآيات:

مناسبة قصة داود وولده سليمان عليهما السلام لما سبق من الآيات الكريمة هي: أن الكفار لما أنكروا البعث والنشور لاستحالته في نظرهم، أخبرهم الله عز وجل بوقوع ما هو مستحيل في العادة، مما لا يمكنهم إنكاره من تأويب الجبال والطير، وإلانة الحديد لداود حتى كان بين يديه كالشمع أو كالعجين مع أنه جرم صلب، وكذلك تسخير الريح لسليمان تحمله مع جنده، وإسالة النحاس له حتى كان يجري بقدرة الله كجري الماء، وتسخير الجن تعمل له ما شاء من الأعمال الشاقة مما ليس في طاقة البشر، وكل هذا أثر من آثار قدرة الله عزو وجل، فلا استحالة إذا لأن الله على كل شيء قدير، وهذه هي وجه المناسبة بين هذه الآيات الكريمة والآيات السابقة، والله أعلم.

.وجوه القراءات:

أولا: قرأ الجمهور {أوبي} بالتشديد من التأويب أي رجعي معه التسبيح، وقرأ بعضهم {أوبي} بضم الهمزة وتخفيف الواو، من الأوب، أي عودي معه في التسبيح كلما عاد.
قال أبو السعود: كان كلما سبح عليه الصلاة والسلام يسمع من الجبال ما يسمع من المسبح معجزة له.
ثانيا: قرأ الجمهور {والطير} بالنصب، وقرأ أبو العالية، وابن أبي عبلة {والطير} بالرفع، فأما قراءة النصب فهي عطف على قوله: {فضلا} أي وسخرنا له الطير، وأما قراءة الرفع فله وجهان: الأول: أن يكون عطفا على الجبال، والمعنى: يا جبال رجعي التسبيح معه أنت والطير، والثاني: أن يكون على النداء، والمعنى: يا جبال ويا أيها الطير سبحي معه.
ثالثا: قوله تعالى: {أن اعمل سابغات} قراءة الجمهور بالسين، وقرئ بالصاد {صابغات} مثل: سوط وصوط، ومسيطر ومسيطر تبدل من الصاد السين.
رابعا: قوله تعالى: {ولسليمان الريح} قرأ الجمهور بنصب الريح على معنى: وسخرنا لسليمان الريح، وقرأ المفضل عن عاصم {الريح} بالرفع على معنى: لسليمان الريح مسخرة، وقرأ أبو جعفر {الرياح} على الجمع.
خامسا: قوله تعالى: {ومن يزغ} قرأ الجمهور بالبناء للفاعل {يزغ} وقرئ بالبناء للمفعول {يزغ} من أزاغ الرباعي.
سادسا: قوله تعالى: {وجفان كالجواب} قرأ الجمهور {كالجواب} بدون ياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {كالجوابي} بياء، إلا أن ابن كثير يثبت الياء في الوصل والوقف، وأبو عمروا يثبتها في الوصل دون الوقف.
قال الزجاج: وأكثر القراء على الوقف بدون ياء، وكان الأصل الوقف بالياء، إلا أن الكسرة تنوب عنها.
سابعا: قوله تعالى: {تأكل منسأته} قرأ لجمهور بالهمز {منسأته} وقرأ نافع وأبو عمرو {منساته} من غير همز وهي لغة أهل الحجاز.
ثامنا: قوله تعالى: {تبينت الجن} قرأ الجمهور بالبناء للفاعل، وقرأ يعقوب {تبينت} بالبناء للمفعول.

.وجوه الإعراب:

أولا: قوله تعالى: {آتينا داوود منا فضلا} آتى: تنصب مفعولين لأنها بمعنى أعطى، و {داوود} مفعول أول، و {فضلا} مفعول ثان، و {منا} الجار والمجرور متعلق بمحذوف متعلق بمحذوف صفة ل {فضلا} أي فضلا كائنا منا.
ثانيا: قوله تعالى: {وألنا له الحديد أن اعمل سابغات} قال أبو البركات ابن الأنباري: أن فها وجهان:
أحدهما: أن تكون مفسرة بمعنى أي، ولا موضع لها من الإعراب.
والثاني: أن تكون في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: لأن تعمل، أي ألنا له الحديد لهذا الأمر، و {سابغات} أي دروعا سابغات فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامة.
ثالثا: قوله تعالى: {ومن الجن من يعمل بين يديه} أي بعضهم لأن {من} للتبعيض. والجار والمجرور {من الجن} في محل رفع خبر مقدم، و {من يعمل} الجملة في محل رفع مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومن الجن عمال مسخرون له، وجوز النحاة أن يكون قوله: {من يعمل} في موضع نصب بفعل محذوف مقدر، والتقدير: سخرنا من الجن من يعمل بين يديه.
أقول: وفيه تكلف والوجه الأول أوضح.
رابعا: قوله تعالى: {ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} {من} شرطية في موضع رفع على الابتداء، و {نذقه} جواب الشرط والجملة في محل رفع خبر المبتدأ.
خامسا: قوله تعالى: {اعملوا آل داوود شكرا}.
{شكرا} منصوب لأنه مفعول له أي أعملوا من أجل شكر الله، ويحوز أن تكون حالا أي اعملوا شاكرين لله.
أقول: وهذا أرجح، قال ابن مالك:
ومصدر منكر حالا يقع ** بكثرة كبغتة زيد طلع

وجوز بعض النحاة: أن تكون مفعولا به أي أعملوا الشكر، ورد ابن الأنباري هذا الوجه فقال: ولا يكون منصوبا ب {اعملوا} لأن اشكروا أفصح من اعملوا الشكر. اهـ، وهذا القول وجيه فتدبره.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: خص الله تعالى نبيه داود عليه السلام ببعض الخصوصيات فسخر له الجبال والطير تسبح معه، وألان له الحديد، وجمع له بين النبوة والملك كما جمع ذلك لولده سليمان عليه السلام، وذلك من الفضل الذي أعطيه آل داود.
قال ابن عباس: كانت الطير تسبح مع داود إذا سبح، وكان إذ قرأ لم تبق دابة إلا استمعت لقراءته، وبكت لبكائه.
وقال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبحي، وللطير: أجيبي ثم يأخذ ف تلاوة الزبور بصوته الحسن، فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئا أطيب منه.
اللطيفة الثانية: التنكير في قوله تعالى: {فضلا} للتفخيم أي فضلا عظيما خصصناه به من بين سائر الأنبياء، وقوله: {منا} فيه إشارة إلى أن هذا الفضل هائل، لأنه صادر من الله تعالى مباشرة تكريما لنبيه داود، كما قال تعالى عن العبد الصالح: {وعلمناه من لدنا علما} [الكهف: 65].
قال أبو السعود: وتقديم داود على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم، والتشويق إلى المؤخر، فإن ما حقه التقديم إذا أخر، تبقى النفس مترقبة له، فإذا ورد يتمكن عندها فضل تمكن.
اللطيفة الثالثة: ذكر سليمان عليه السلام في القرآن الكريم ست عشرة مرة، ولم يجئ ذكره لتوفيه قصة بتمامها، وإنما هو لتعداد آلاء الله على سليمان، فمنها ذكاؤه وبصره النافذ في الحكم والقضاء {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} [الأنبياء: 78- 79] إلى قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء: 78- 79] ومنها تعليمه منطق الطير {وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير} [النمل: 16] ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب، وفي القرآن إشارة إلى عملية صهر المعادن الصلبة {وأسلنا له عين القطر} ومنها تسخير الجن يعملون له ما يعجز عنه البشر {والشياطين كل بناء وغواص} [ص: 37] وقوله: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه} وقد أعطاه الله الجاه الكبير، والسلطان الواسع، والملك العظيم الذي لم يعطه أحد بعده {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35].
وكل هذا من الفضل الذي خص الله تبارك وتعالى به آل داود عليه السلام.
اللطيفة الرابعة: قال العلامة أبو السعود رحمه الله: قوله تعالى: {ياجبال أوبي معه والطير}. في تنزيل الجبال والطير منزلة العقلاء المخاطبين، المطيعين لأمره تعالى، المذعنين لحكمه، المشعر بأنه ما من حيوان وجماد وصامت وناطق، إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته، من الفخامة المعربة عن غاية عظمة شأنه تعالى، وكمال كبرياء سلطانه ما لا يخفى على أولى الألباب.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر} فيه إيجاز بالحذف أي مسيرة شهر فهو على حذف مضاف والتقدير: غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر، وإنما وجب هذا التقدير لأن الغدو والرواح ليسا بالشهر، وإنما يكونان فيه، فتنبه له فإنه دقيق.
قال قتادة: كانت الريح تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، فهي تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه} الآية فإن قيل: إن الاجماع بالجن فيه مفسدة للإنسان ولهذا قال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون} [المؤمنون: 97- 98] فكيف سخرت الشياطين لسليمان عليه السلام؟
فالجواب: أن ذلك الاجتماع والتسخير كان بأمر الله عز وجل وتسخيره بدليل قوله: {بإذن ربه} فلم يكن فيه مفسدة وإنما كان فيه مصلحة لسليمان عليه السلام، ولفظ الرب ينبئ عن التربية والحفظ والرعاية، فسليمان عليه السلام كان في حفظ الله ورعايته، فلذلك لم يصله ضرر من جهتهم.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير} في الآية الكريمة إشارة دقيقة إلى أن الجن الذين كانوا مسخرين لسليمان، لم يكونوا من المؤمنين وإنما كانوا من المردة الكافرين، لأن سليمان لا يعذب المؤمنين ولا يذيقهم أنواع العذاب، لأن كل رسول يكون رحيما بأتباعه. ودل على هذا المعنى أيضا قوله تعالى: {ما لبثوا في العذاب المهين} لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين.
اللطيفة الثامنة: قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} فيه إشارة إلى أن الشكر الوافر الكامل، بالقلب واللسان والجوارح لا يمكن أن يتحقق، لأن التوفيق لشكر الله تعالى نعمة من الله تستدعي شكرا آخر، لا إلى نهاية، ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286]. ومع ذلك فإن الشكر بقدر الطاقة قليل في الناس، والكفران لنعم الله أكثر ولا حول ولا قوة إلا بالله.