فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {أَفَلَمْ} فيه الرأيان المشهوران: قدَّره الزمخشري: أعَمُوْا فلم يَرَوْا، وغيرُه يَدَّعِي أن الهمزةَ مقدَّمةٌ على حرفِ العطف.
قوله {من السماء} بيانٌ للموصولِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالًا فتتعلَّقَ به أيضًا. قيل: وثَمَّ حالٌ محذوفةٌ تقديرُه: أفلم يَرَوْا إلى كذا مقهورًا تحت قدرتِنا أو مُحيطًا بهم. ثم قال: إنْ نَشَأْ.
قوله: {إنْ نَشَأْ} قرأ الأخَوان {يَشَأْ} يَخْسِفْ، يُسْقِطْ، بالياء في الثلاثة. والباقون بنون العظمة فيها، وهما واضحتان. وأدغم الكسائيُّ الفاء في الباء، واستضعفها الناسُ من حيث أدغم الأَقْوى في الأضعفِ. قال الفارسي: وذلك لا يجوز؛ لأنَّ الباء أضعفُ في الصوت من الفاء فلا تُدْغم فيها، وإنْ كانت الباء تُدْغم فيها نحو: اضربْ فلانًا كما تُدْغَمُ الباء في الميم كقولك: اضربْ مالِكًا، وإن كانت الميمُ لا تُدْغَمُ في الباء نحو: اضمُمْ بكرًا؛ لأنَّ الباء انحطَّتْ عن الميم بفَقْد الغُنَّة. وقال الزمخشري: وليست بالقويةِ، وهذا لا ينبغي لأنها تواتَرَتْ.
قوله: {يا جِبالُ} مَحْكِيٌّ بقولٍ مُضْمَرٍ. ثم إنْ شئت قَدَّرْتَه مصدرًا. ويكونُ بدلًا مِنْ {فَضْلًا} على جهةِ تفسيرِه به كأنه قيلَ: آتَيْناه فَضْلًا قولَنا: يا جبالُ، وإنْ شئت قَدَّرْتَه فِعْلًا. وحينئذٍ لك وجهان: إنْ شئت جَعَلْتَه بدلًا مِنْ {آتَيْنا} وإنْ شئت جَعَلْتَه مستأنفًا.
قوله: {أَوِّبِيْ} العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواوِ، أمرًا من التَّأْوِيْب وهو التَّرجِيْع. وقيل: التسبيحُ بلغةِ الحبشة. والتضعيفُ يحتملُ أَنْ يكونَ للتكثيرِ. واختار الشيخ أَنْ يكونَ للتعدِّي. قال: لأنهم فَسَّروه ب رَجِّعي معه التسبيحَ. ولا دليلَ؛ لأنه تفسيرُ معنى. وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وقتادة وابن أبي إسحاق {أُوْبي} بضمِّ الهمزةِ وسكونِ الواو أمرًا مِنْ آب يَئُوْبُ أي: ارْجِعي معه بالتسبيح.
قوله: {والطيرَ} العامَّةُ على نصبِه وفيه أوجهٌ، أحدها: أنه عطفٌ على محلِّ {جبالُ} لأنَّه منصوبٌ تقديرًا. الثاني: أنه مفعولٌ معه. قاله الزجاج. ورُدَّ عليه: بأنَّ قبلَه لفظةَ {معه} ولا يَقْتَضي العاملُ أكثرَ مِنْ مفعولٍ معه واحدٍ، إلاَّ بالبدلِ أو العطفِ لا يُقال: جاء زيدٌ مع بكرٍ مع عمروٍ. قلت: وخلافُهم في تقضية حالَيْنِ يَقْتضي مجيئَه هنا. الثالث: أنه عطفٌ على {فضْلًا} قاله الكسائيُّ. ولابد مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: آتيناه فضلًا وتسبيحَ الطيرِ. الرابع: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ أي: وسَخَّرْنا له الطيرَ، قاله أبو عمروٍ.
وقرأ السُّلَمِيُّ والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وأبو يحيى وعاصم في رواية {والطيرُ} بالرفع. وفيه أوجهٌ: النسقُ على لفظ قوله: {جبالُ}. وأُنْشِد قولُه:
ألا يا زيدُ والضَّحاكُ سِيْرا ** فقد جاوَزْتُما خَمَرَ الطريقِ

بالوجهين. وفي عَطْفِ المعرَّفِ بأل على المنادى المضمومِ ثلاثةُ مذاهبَ. الثاني: عطفُه على الضميرِ المستكنِّ في {أوِّبي}. وجاز ذلك للفَصْل بالظرفِ. والثالث: الرفعُ على الابتداء، والخبرُ مضمرٌ. أي: والجبالُ كذلك أي: مُؤَوَّبَةٌ.
قوله: {وألَنَّا} عطف على {آتَيْنا} وهو من جملةِ الفَضْلِ.
{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}.
قوله: {أَنِ اعمل} فيها وجهان، أظهرهما: أنها مصدريةٌ على حَذْفِ الحرفِ أي: لأن. والثاني قاله الحوفي وغيره أنها مُفَسِّرةٌ. ورُدَّ هذا: بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ ما هو بمعنى القولِ ولم يتقدَّمْ إلاَّ {أَلَنَّا} واعتذر بعضُهم عن هذا: بأنْ قَدَّر ما هو بمعنى القولِ أي: وأَمَرْناه أَنِ اعْمَلْ ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك.
وقُرِئ {صابغاتٍ} لأجلِ الغينِ. وتقدَّم تقريرُه في لقمان عند {وأَسْبَغَ}.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)}.
قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} العامَّةُ على النصبِ بإضمارِ فعلٍ أي: وسَخَّرْنا لسليمانَ. وأبو بكرٍ بالرفعِ على الابتداء، والخبرُ في الجارِّ قبلَه أو محذوفٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ فاعلًا، يعني بالجارِّ، وليس بقويِّ لعدمِ اعتمادِه. وكان قد وافقه في الأنبياء غيرُه.
وقرأ العامَّةُ {الريحَ} بالإِفراد. والحسن وأبو حيوةَ وخالد بن إلياس {الرياحَ} جمعًا. وتقدَّم في الأنبياء أنَّ الحسنَ يقرأُ مع ذلك بالنصبِ، وهنا لم يُنْقَلْ له ذلك.
قوله: {غُدُوُّها شَهْرٌ} مبتدأ وخبر. ولابد مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي: غُدُوُّها مَسيرةَ شهرٍ أو مقدارُ غدوِّها شهرٌ. ولو نُصِب لجازَ، إلاَّ أنَّه لم يُقْرَأ به فيما علمْتُ.
وقرأ ابنُ أبي عبلةَ {غَدْوَتُها} {ورَوْحَتُها} على المَرَّةِ. والجملةُ: إمَّا مستأنفةٌ، وإمَّا في محلِّ الحال.
قوله: {مَنْ يَعْمَلُ} يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعًا بالابتداء. وخبرُه في الجارِّ قبلَه أي: من الجنِّ مَنْ يعملُ، وأنْ يكونَ في موضعِ نصبٍ بفعلٍ مقدرٍ أي: وسَخَّرْنا له مَنْ يعملُ. و {من الجنّ} يتعلقُ بهذا المقدرِ أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو بيانٌ. و {بإذن} حالٌ أي: مُيَسَّرًا بإذنِ ربِّه. والإِذْنُ: مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وقُرِئ {ومَنْ يُزِغْ} بضمِّ الياء مِنْ أزاغَ، ومفعولُه محذوفٌ أي: ومَنْ يُزغْ نفسَه أي: يُميلُها. و {مِنْ عذاب} مِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض.
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}.
و: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} مُفَسِّرٌ لقولِه {مَنْ يعمل}. و {مِنْ مَحاريب} بيانٌ لِما يَشاء.
قوله: {كالجوابِ} قرأ ابنُ كثير بإثباتِ ياء الجوابي وصلًا ووقفًا. وأبو عمروٍ وورشٌ بإثباتِها وَصْلًا، وحَذْفِها وقفًا. والباقون بحَذْفِها في الحالَيْن. و {كالجواب} صفةٌ ل {جِفان}. والجِفانُ: جمعُ جَفْنَة. والجوابي: جمع جابِيَة كضارِبة وضوارِب. والجابيةُ: الحَوْضُ العظيم سُمِّيَتْ بذلك لأنه يُجْبى إليها الماء. وإسنادُ الفعلِ إليها مَجازٌ؛ لأنه يُجْبَى فيها كما قيل: خابِية لِما يُخَبَّأُ فيها. قال الشاعر:
بجِفانٍ تَعْتَرِي نادِيَنا ** مِنْ سَدِيْفٍ حين هاجَ الصِّنَّبِرْ

كالجوابي لاتِني مُتْرَعَةً ** لِقِرى الأضيافِ أو للمحتضِرْ

وقال الأعشى:
نَفَى الذَّمَّ عن آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ ** كجابِيَةِ السَّيْحِ العِراقيِّ تَفْهَقُ

وقال الأفوه:
وقُدُوْرٍ كالرُّبا راسِيَةٍ ** وجِفانٍ كالجَوابي مُتْرَعَهْ

قوله: {شُكْرًا} يجوز فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ به أي: اعْمَلوا الطاعةَ. سُمِّيَتِ الصلاةُ ونحوُها شكرًا لسَدِّها مَسَدَّه. الثاني: أنه مصدرٌ مِنْ معنى اعْمَلوا، كأنه قيل: اشكروا شكرًا بعملكم، أو اعملوا عملَ شكرٍ. الثالث: أنه مفعولٌ من أجله. أي: لأجل الشكر. الرابع: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: شاكرين. الخامس: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظِه، تقديره: واشكروا شكرًا. السادس: أنه صفةٌ لمصدرِ {اعْمَلوا} تقديره: اعْمَلوا عَمَلًا شُكْرًا أي: ذا شكر.
قوله: {وقليلٌ} خبرٌ مقدمٌ. و {من عبادِيْ} صفةٌ له و {الشَّكورُ} مبتدأ.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}.
قوله: {تَأْكُلُ} إمَّا حالٌ أو مستأنفة. وقرأ {مِنْسَأْتَه} بهمزةٍ ساكنةٍ ابنُ ذكوان. وبألفٍ مَحْضةٍ نافعٌ وأبو عمرٍو، وبهمزة مفتوحةٍ الباقون.
والمِنْسَأَةُ: العَصا اسمُ آلةٍ مِنْ نَسَأه أي: أخَّرَه كالمِكْسَحَةِ والمِكْنَسَة. وفيها الهمزةُ وهو لغةُ تميم وأُنشِد:
أمِنْ أَجْلِ حَبْلٍ لا أَباك ضَرَبْتَه ** بمِنْسَأَةٍ قد جَرَّ حَبْلُكَ أَحْبُلا

والألف وهي لغةُ الحجازِ. وأنشد:
إذا دَبَبْتَ على المِنْسَاة مِنْ كِبَرٍ ** فقد تباعَدَ عنك اللهوُ والغَزَلُ

فأمَّا بالهمزةِ المفتوحةِ فهي الأصلُ؛ لأنَّ الاشتقاقَ يدلُّ ويشهد له، والفتحُ لأَجْلِ بناء مِفْعَلة كمِكْنَسَة. وأمَّا سكونُها ففيه وجهان، أحدهما: أنه أبدلَ الهمزةَ ألفًا، كما أبدلها نافعٌ وأبو عمروٍ. وسيأتي، ثم أبدل هذه الألفَ همزةً على لغةِ مَنْ يقولُ: العَأْلَم والخَأْتَم. وقوله:
وخِنْدِفٌ هامَةُ هذا العَأْلَمِ

ذكره ابن مالك. وهذا لا أدري ما حمله عليه، كيف يُعْتَقَدُ أنه هَرَبَ مِنْ شيءٍ ثم يعودُ إليه؟ وأيضًا فإنهم نَصُّوا على أنه إذا أبدلَ من الألفِ همزةً: فإن كان لتلك الألفِ أصلٌ حُرِّكَتُ هذه الهمزةُ بحركةِ أصلِ الألفِ. وأنشد أبو الحسن ابن عُصفور على ذلك:
وَلَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً

قال: الأصل زَوْزاة. وأصلُ هذا: زَوْزَوَة، فلمَّا أُبْدِلَتْ من الألفِ همزةً حَرَّكها بحركةِ الواوِ. إذا عَرَفْتَ هذا فكان ينبغي أن تُبْدَلَ هذه الألفُ همزةً مفتوحةً؛ لأنَّها عن أصلٍ متحركٍ، وهو الهمزةُ المفتوحةُ، فتعودُ إلى الأول، وهذا لا يُقالُ. الثاني: أنه سَكَّن الفتحةَ تخفيفًا، والفتحةُ قد سَكَنَتْ في مواضِعَ تقدَّم التنبيهُ عليها وشواهدُها. ويُحَسِّنُه هنا: أنَّ الهمزةَ تُشْبه حروفَ العلةِ، وحرفُ العلةِ تُسْتَثْقَلُ عليه الحركةُ مِنْ حيثُ الجملةُ، وإنْ كان لا تُسْتثقل الفتحةُ لخفَّتِها. وأَنْشدوا على تسكينِ همزتها:
صريعُ خَمْرٍ قام مِنْ وُكَاءتِهْ ** كقَوْمَةِ الشيخ إلى مِنْسَأْتِهْ

وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ، ونَسَبوا راوِيَها إلى الغلط. قالوا: لأنَّ قياسَ تخفيفِها إنما هو تسهيلُها بينَ بينَ، وبه قرأ ابنُ عامرٍ وصاحباه، فظَنَّ الراوي أنهم سَكَّنوا. وضَعَّفها أيضًا بعضُهم: بأنه يَلْزَمُ سكونُ ما قبل تاء التأنيثِ، وما قبلها واجبُ الفتحِ إلاَّ الألفَ.
وأمَّا قراءةُ الإِبدالِ فقيل: هي غيرُ قياسيةٍ، يَعْنُون أنها ليسَتْ على قياسِ تَخْفيفِها. إلاَّ أنَّ هذا مردودٌ: بأنها لغةُ الحجازِ، ثابتةً، فلا يُلْتَفَتُ لمَنْ طَعَن. وقد قال أبو عمرو: وكَفَى به- أنا لا أَهْمِزُها، لأنِّي لا أَعْرِفُ لها اشتقاقًا، فإنْ كانَتْ مما لا يُهْمَزُ فقد أُخْطِئُ. وإن كانَتْ تُهْمَزُ فقد يجوزُ لي تَرْكُ الهمزِ فيما يُهْمَزُ. وهذا الذي ذكره أبو عمرٍو أحسنُ ما يقالُ في هذا ونظائرِه.
وَقُرئ {مَنْسَأَتَه} بفتح الميم مع تحقيقِ الهمزةِ، وإبدالِها ألفًا، وحَذْفِها تخفيفًا، و {مِنْسَاءتَه} بزنة مِفْعَالَتَه كقولهم: مِيْضَأَة ومِيْضاءة وكلُّها لغاتٌ.
وقرأ ابنُ جُبَيْر {مِنْ سَأَتِه} فَصَل مِنْ وجَعَلَها حَرفَ جَرٍّ، وجَعَل {سأَتِه} مجرورةً بها. والسَّأَةُ والسِّئَةُ هنا العصا. وأصلُها يَدُ القوسِ العليا والسفلى يقال: سَاةُ القوسِ مثلُ شاة، وسِئَتُها، فَسُمِّيَتِ العصا بذلك على وجهِ الاستعارة. والمعنى: تأكلُ مِنْ طَرَفِ عصاه. ووجهُ ذلك كما جاء في التفسير: أنه اتَّكأ على عصا خضراء مِنْ خَرُّوب، والعصا الخضراء متى اتُّكِئ عليها تَصيرُ كالقوسِ في الاعوجاجِ غالبًا. وساة فَعَلة، وسِئَة: فِعلة نحو: قِحَة وَقَحة، والمحذوفُ لامُهما.
وقال ابن جني: سَمَّى العَصا ساءة لأنها تَسُوء، فهي فَلَة، والعينُ محذوفةٌ قلت: وهذا يَقْتضي أَنْ تكون القراءة بهمزةٍ ساكنةٍ، والمنقولُ أن هذه القراءةَ بألفٍ صريحة ولأبي الفتح أَنْ يقولَ: أصلُها الهمزُ، ولكن أُبْدِلَتْ.
وقوله: {دابَّةُ الأرضِ} فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّ الأرضَ هذه المعروفةُ. والمرادُ بدابَّةِ الأرضِ الأَرَضَةُ دُوَيْبَّةٌ تأكُل الخَشَبَ. الثاني: أن الأرضَ مصدرٌ لقولك: أرَضَتِ الدابةُ الخشبةَ تَأْرِضُها أَرْضًا أي: أكلَتْها. فكأنه قيل: دابَّةٌ الأكل. يُقال: أرَضَتِ الدابَّةُ الخشبةَ تَأْرِضها أَرْضًا فأَرِضَتْ بالكسر تَأْرَض هي بالفتح أرَضًا بالفتح أيضًا نحو: أكَلَت القوادحُ الأسنانَ تأكلُها أكلًا فأَكِلت هي بالكسر تَأْكَلُ أَكَلًا بالفتح. ونحوُه أيضًا: جَدَعْتُ أنفَه جَدْعًا فجَدِع هو جَدَعًا بفتح عين المصدر. وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقويةُ المصدرية في القراءة المشهورة. وقيل: الأرضَ بالفتح ليس مصدرًا بل هو جمع أَرَضَة، وعلى هذا يكونُ من باب إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ لأنَّ الدابَّةَ أعمُّ من الأَرَضة وغيرِها من الدوابِّ.
قوله: {فلمَّا خَرَّ} الظاهر أنَّ فاعلَه ضميرُ سليمان عليه السلام. وقيل: عائدٌ على الباب لأنَّ الدابَّةَ أكلَتْه فوقع. وقيل: بل أكلَتْ عَتَبَةَ البابِ، وهي الخارَّة. ونُقِل ذلك في التفسير، وينبغي أَنْ لا يَصِحَّ؛ إذ كان يكون التركيبُ خرَّتْ بتاء التأنيث. و:
أَبْقَل إبْقالَها

ضرورةٌ أو نادرٌ. وتأويلُها بمعنى العُوْد أَنْدَرُ منه.
قوله: {تَبَيَّنَتْ} العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ مسندًا للجنِّ. وفيه تأويلاتٌ، أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: تبيَّن أَمْرُ الجنِّ أي: ظهر وبان. وتبيَّن يأتي بمعنى بان لازمًا، كقولِه:
تَبَيَّنَ لي أنَّ القَماءةَ ذِلَّةٌ ** وأنَّ أَعِزَّاء الرجالِ طِيالُها

فلمَّا حُذِفَ المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وكان ممَّا يجوز تأنيثُ فعلِه، أُلْحِقَتْ علامةُ التأنيثِ.
وقوله: {أَن لَّوْ كَانُواْ} بتأويلِ المصدرِ مرفوعًا بدلًا من الجنِّ. والمعنى: ظهر كَوْنُهم لو عَلِموا الغيبَ لَما لَبِثوا في العذاب أي: ظَهَرَ جَهْلُهُمْ. الثاني: أنَّ تبيَّن بمعنى بانَ وظَهَر أيضًا. و {الجنُّ} فاعلٌ. ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضاف و {أَن لَّوْ كَانُواْ} بدلٌ كما تقدَّم تحريرُه. والمعنى: ظهر للجن جَهْلُهم للناسِ؛ لأنهم كانوا يُوْهِمُون الناسَ بذلك، كقولك: بان زيدٌ جهلُه.
الثالث: أنَّ تَبَيَّن هنا متعدٍّ بمعنى أَدْرك وعَلِم، وحينئذٍ يكون المرادُ بالجنِّ ضَعَفَتَهم، وبالضميرِ في {كانوا} كبارَهُمْ ومَرَدَتَهم، و {أَن لَّوْ كَانُواْ} مفعولٌ به، وذلك أنَّ المَرَدَةَ والرؤساء من الجنِّ كانوا يُوْهِمون ضعفاءهم أنهم يَعْلمون الغيبَ. فلمَّا خَرَّ سليمان عليه السلامَ مَيِّتًا، مكثوا بعده عامًا في العملِ، تبيَّنَتِ السَّفَلَةُ من الجنِّ أنَّ الرؤساء منهم لو كانوا يعلمون الغيبَ كما ادَّعَوْا ما مكثوا في العذابِ. ومِنْ مجيءِ تَبَيَّن متعدِّيًا بمعنى أَدْرك قولُه:
أفاطِمُ إنِّي مَيِّتٌ فَتَبَيَّني ** ولا تَجْزَعي كلُّ الأنامِ يموتُ

أي: تَبَيَّني ذلك.
وفي كتاب أبي جعفر ما يَقْتضي أنَّ بعضَهم قرأ {الجنَّ} بالنصب، وهي واضحةٌ أي: تبيَّنت الإِنسُ الجنَ. و {أَن لَّوْ كَانُواْ} بدلٌ أيضًا من {الجن}. وقرأ ابن عباس ويعقوب {تُبُيِّنَتِ الجنّ} على البناء للمفعولِ، وهي مؤيِّدَةٌ لِما نَقَله النحاسُ. وفي الآيةِ قراءاتٌ كثيرةٌ أَضْرَبْتُ عنها لمخالفتِها السَّوادَ.
وأن في {أَن لَّوْ كَانُواْ} الظاهرُ أنها مصدريةٌ مخففةٌ من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الشأنِ. و {لو} فاصلةٌ بينها وبينَ خبرِها الفعليِّ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك كقوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: 16] {أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100].
وقال ابن عطية: وذهب سيبويه إلى أنَّ أَنْ لا موضعَ لها من الإِعرابِ، إنما هي مُؤْذِنَةٌ بجوابِ ما يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ القسمِ من الفعل الذي معناه التحقيقُ واليقينُ؛ لأنَّ هذه الأفعالَ التي هي: تَحقَّقْتُ وَتَيَقَّنْتُ وعَلِمْتُ ونحوُها تَحُلُّ مَحَلَّ القَسَمِ، ف {ما لَبِثُوا} جوابُ القسمِ لا جوابُ {لو} وعلى الأقوالِ الأُوَلِ يكون جوابَها. قلت: وظاهرُ هذا أنها زائدةٌ لأنهم نَصُّوا على اطِّرادِ زيادتِها قبل لو في حَيِّزِ القسمِ. وللناسِ خلافٌ: هل الجوابُ للواوِ أو للقسمِ؟ والذي يَقْتَضيه القياسُ أَنْ يُجابَ أَسْبَقُهما كما في اجتماعِه مع الشرطِ الصريحِ ما لم يتقدَّمْهما ذو خبرٍ، كما تقدَّم بيانُه. وتقدَّم الكلامُ والقراءاتُ في سبأ في سورة النمل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي آتينا سليمانَ الريح أي سَخّرناها له، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر؛ وبالرواح مسيرةَ شهر.
وفي القصة أنه لاحظ يومًا مُلْكَه، فمال الريحُ ببساطه، فقال سليمان للريح: استو، فقالت الريح: استوِ أنت، فما دمتَ مستويًا بقلبك كنتُ مستويًا بك، فلما مِلْتَ مِلتُ.
{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}.
أي وآتيناه ذلك، فكانت الشياطينُ مُسَخَّرةً له، يعملون ما يشاء من الأشياء ذكرها سبحانه.
قوله جلّ ذكره: {اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ}.
أي اعملوا يا آل داود للشكر، فقوله: {شكرًا} منصوب لأنه مفعول له.
ويقال شكرًا؛ منصوب لأَنه مفعول به مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنين: 4].
وقد مضى طَرَفٌ من القول في الشكر. والشكور كثير الشكر، والأصل في الشكر الزيادة، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها، ودابة شكور إذا أظهرت من السِّمَن فوق ما تُعْطَى من العَلَفِ؛ فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثالُه وأضرابُه. وإذا كان الناسُ يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء.
والشاكر يشكر على الَبذْلِ، والشكور على المنع.. فكيف بالبذل؟
والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ومالِه، والشاكر ببعض هذه.
ويقال في {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشّكُورُ} قليلٌ مَنْ يأخذ النعمة مني ولا يحملها على الأسباب؛ فلا يشكر الوسائطَ ويشكرني. والأكثرون يأخذون النعمة من الله، ويَجِدُون الخيرَ مِنْ قِبَلهِ ثم يتقلدون المِنَّةَ من غير الله، ويشكرون غيرَ الله.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}.
كان سليمانُ- عليه السلام- يتكىء على عصاه وقتما قُبِضُ، وبقي على ذلك الوصف مدةً، والشياطين كانوا مُسَخَّرين يعملون ما أمرهم به، ويتصرفون على الوجه الذي رَسَمَ لهم، وينتهون عمَّا زَجَرَهم، فقد كانوا يتوهمُّون أَنه حيٌّ. ثم إنَّ الأرَضَة أكلت عصاه فَخَرَّ سليمانُ فَعلِمَ الشياطين عندئذ أنه مات، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة، وانفكَّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير؛ وهكذا المَلِكُ الذي يقوم مُلكُه بغيره، ويكون استمساكه بعصا. فإنه إذا سَقَطَ سَقَطَ بسقوطه، ومَنْ قام بغيره زال بزواله. اهـ.