فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويمكن أن يقال: {قَالُواْ ربَّنَا بَعْدَ} بلسان الحال، أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم، وقوله: {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} يكون بيانًا لذلك، وقوله: {فجعلناهم أَحَادِيثَ} أي فعلنا بهم ما جعلناهم به مثلًا، يقال: تفرقوا أيدي سبا، وقوله: {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} بيان لجعلهم أحاديث، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيات لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي فيما ذكرناه من حال الشاكرين ووبال الكافرين.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} أي ظنه أنه يغويهم كما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ} [ص: 82] وقوله: {فاتبعوه} بيان لذلك أي أغواهم، فاتبعوه {إِلاَّ فَرِيقًا مّنَ المؤمنين} قال تعالى في حقهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42] ويمكن أن يقال: صدق عليهم ظنه في أنه خير منه كما قال تعالى عنه: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} [الأعراف: 12] ويتحقق ذلك في قوله فاتبعوه، لأن المتبوع خير من التابع وإلا لا يتبعه العاقل والذي يدل على أن إبليس خير من الكافر، هو إن إبليس امتنع من عبادة غير الله لكن لما كان في امتناعه ترك عبادة الله عنادًا كفر، والمشرك يعبد غير الله فهو كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، وهم كفروا بأمر هو الإشراك، ويؤيد هذا الذي اخترناه الاستثناء، وبيانه هو أنه وإن لم يظن أنه يغوي الكل، بدليل أنه تعالى قال عنه: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 76] فما ظن أنه يغوي المؤمنين فما ظنه صدقه ولا حاجة إلى الاستثناء، وأما في قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} اعتقد الخيرية بالنسبة إلى جميع الناس بدليل تعليله بقوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] وقد كذب في ظنه في حق المؤمنين، ويمكن الجواب عن هذا في الوجه الأول، وهو أنه وإن لم يظن إغواء الكل وعلم أن البعض ناج، لكن ظن في كل واحد أنه ليس هو ذلك الناجي، إلى أن تبين له فظن أنه يغويه فكذب في ظنه في حق البعض وصدق في البعض.
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.
قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] أن علم الله من الأزل إلى الأبد محيط بكل معلوم وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالمًا لا يتغير ولكن يتغير تعلق علمه، فإن العلم صفة كاشفة يظهر بها كل ما في نفس الأمر فعلم الله في الأزل أن العالم سيوجد، فإذا وجد علمه موجودًا بذلك العلم، وإذا عدم يعلمه معدومًا بذلك، مثاله: أن المرآة المصقولة فيها الصفاء فيظهر فيها صورة زيد إن قابلها، ثم إذا قابلها عمرو يظهر فيها صورته، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها، إنما التغير في الخارجات فكذلك هاهنا قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} أي ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن وكان قبله فيه أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو.
وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سلطان} إشارة إلى أنه ليس بملجىء وإنما هو آية، وعلامة خلقها الله لتبيين ما هو في علمه السابق، وقوله: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} يحقق ذلك أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً}.
قال الحسن: يعني بين اليمن والشأم.
والقُرَى التي بورك فيها: الشام والأُرْدُنّ وفِلَسْطين.
والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء.
ويحتمل أن يكون {بَارَكْنَا فِيهَا} بكثرة العدد.
{قُرًى ظَاهِرَةً} قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام.
وقال قتادة: معنى {ظَاهِرَةً} متصلة على طريق، يغدون فَيقِيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية.
وقيل: كان على كل مِيل قريةٌ بسوق، وهو سبب أمن الطريق.
قال الحسن: كانت المرأة تخرج معها مِغْزَلها وعلى رأسها مِكْتَلُها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مِكْتَلها من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك.
وقيل {ظَاهِرَةً} أي مرتفعة، قاله المبرد.
وقيل: إنما قيل لها {ظَاهرَةً} لظهورها، أي إذا خرجْتَ عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهِرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي معروف.
{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سَيْرًا مقدّرًا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى.
وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد.
{سِيرُواْ فِيهَا} أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفيه إضمار القول.
{لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} ظرفان {آمِنِينَ} نصب على الحال.
وقال: {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا} بلفظ النكرة تنبيهًا على قِصر أسفارهم؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه.
قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظِماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضًا، ولو لقي الرجلُ قاتِلَ أبيه لا يحرّكه.
قوله تعالى: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} لما بَطِروا وطغَوْا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوْا طول الأسفار والكَدْح في المعيشة؛ كقول بني إسرائيل: {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا} [البقرة: 61] الآية.
وكالنضر بن الحارث حين قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقُتل يوم بدر بالسيف صَبْرًا؛ فكذلك هؤلا تبدّدوا في الدنيا ومُزّقوا كل مُمَزَّق، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد.
وقراءة العامة {رَبَّنَا} بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به، لأن معناه: نادَيْت ودعَوْت.
{بَاعِدْ} سألوا المباعدة في أسفارهم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيْصِن وهشام عن ابن عامر: {رَبَّنا} كذلك على الدعاء {بَعَد} من التبعيد.
النحاس: وباعد وبعّد واحد في المعنى، كما تقول: قارب وقرّب.
وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر ابن عاصم ويعقوب، ويروى عن ابن عباس: {رَبُّنَا} رفعًا {باعَدَ} بفتح العين والدال على الخبر، تقديره: لقد باعد ربّنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قَرَّبنا لهم أسفارهم فقالوا أَشَرًا وبَطَرًا: لقد بُوعدت علينا أسفارنا.
واختار هذه القراءة أبو حاتم قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بَطَرًا وعجبًا مع كفرهم.
وقراءة يحيى بن يَعْمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس {رَبَّنَا بَعّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} بشدّ العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوْا أن ربهم باعد بين أسفارهم.
وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري {رَبَّنَا بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}.
{رَبَّنَا} نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا: {بَعُدْ بينُ أَسْفَارِنَا} ورفع {بين} بالفعل، أي بعد ما يتصل بأسفارنا.
وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب {بين} على ظرف، وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا.
النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن خبّر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بَطَرًا وأَشرًا، وخبّر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوْا، كما قال ابن عباس.
{وظلموا أَنفُسَهُمْ} أي بكفرهم {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي يُتحدّث بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث.
{وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا وتمزقوا.
قال الشعبيّ: فلحقت الأنصار بيَثْرِب، وغسّان بالشام، والأسد بعُمَان، وخُزاعة بتِهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم.
فإن أردت أنه صَبَر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا.
{شَكُورٍ} لنعمه؛ وقد مضى هذا المعنى في البقرة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} فيه أربع قراءات: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد، {ولَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ} بالتخفيف {إبليسُ} بالرفع {ظَنَّهُ} بالنصب؛ أي في ظنه.
قال الزجاج: وهو على المصدر؛ أي صدق عليهم ظنًّا ظنه إذ صدق في ظنه؛ فنصب على المصدر أو على الظرف.
وقال أبو عليّ: {ظنَّه} نصب لأنه مفعول به؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] وقال: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] و[الحجر: 39]؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق الحديثَ، أي في الحديث.
وقرأ ابن عباس ويحيى بن وثّاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائيّ: {صدّق} بالتشديد {ظنَّه} بالنصب بوقوع الفعل عليه.
قال مجاهد: ظن ظنًا فكان كما ظن فصدق ظنه.
وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج {صدَق عليهم} بالتخفيف {إبليسَ} بالنصب {ظنُّه} بالرفع.
قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم.
وقد أجاز هذه القراءة الفرّاء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل {صدق} {إبليسَ} مفعول به؛ والمعنى: أن إبليس سوّل له ظنه فيهم شيئًا فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدّق عليهم ظن إبليسَ.
وعلى متعلقة ب {صدق} كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء من الصلة على الموصول.
والقراءة الرابعة: {وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِمْ إبليسُ ظَنُّهُ} برفع إبليس والظن، مع التخفيف في {صدق} على أن يكون ظنه بدلًا من إبليس وهو بدل الاشتمال.
ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيّروا وبدّلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قومًا منهم آمنوا برسلهم.
وقيل: هذا عام، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى؛ قاله مجاهد.
وقال الحسن: لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حوّاء وهبط إبليس قال إبليس: أمّا إذ أصبتُ من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنًا من إبليس، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}.
وقال ابن عباس: إن إبليس قال: خُلقت من نار وخُلق آدم من طين والنار تحرق كل شيء {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 62] فصدق ظنه عليهم.
وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرّفتهم وفضّلتهم عليّ لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنًا منه فصدق عليهم إبليس ظنه.
وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه.
{فاتبعوه} قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصا وإنما ظن ظنًا فكان كما ظن بوسوسته.
{إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ المؤمنين} نصب على الاستثناء، وفيه قولان: أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرًا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضًا إلا فريق وهو المعني بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 42].
فأما ابن عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، ف من على هذا للتبيين لا للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل له: لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن.
وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه تاب على آدم وأنه سيكون له نسل يتبعونه إلى الجنة وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} علم أن له تبعًا ولآدم تبعًا؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وُضع في يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزيّن في أعينهم تلك الشهوات، ومدّهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الظن الذي ظنه، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي لم يَقْهَرهم إبليس على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين.
والسلطان: القوّة.
وقيل الحجة، أي لم تكن له حجة يستتبعهم بها، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس؛ لا عن حجة ودليل.
{إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة} يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى.
ومذهب الفرّاء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم؛ كما قال: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [النحل: 27] على قولكم وعندكم، وليس قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} جوابَ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ} في ظاهره إنما هو محمول على المعنى؛ أي وما جعلنا له سلطانًا إلا لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم، ف إلا بمعنى لكن.
وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير أنّا سلّطناه عليهم ليتم الابتلاء.
وقيل: {كَانَ} زائدة؛ أي وما له عليهم من سلطان، كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] أي أنتم خير أمّة.
وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان.
وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم.
وقيل: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار؛ فيقول الأول تعال حتى نجرّب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلومًا لهم ذلك.
وقيل: إلا لتعلموا أنتم.
وقيل: أي ليعلم أولياؤنا والملائكة؛ كقوله: {إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أي يحاربون أولياء الله ورسوله.
وقيل: أي ليميز؛ كقوله: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} [الأنفال: 37] وقد مضى هذا المعنى في البقرة وغيرها.
وقرأ الزهري: {إِلاّ لِيُعْلَمَ} على ما لم يسم فاعله.
{وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ} أي أنه عالم بكل شيء.
وقيل: يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه. اهـ.