فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}.
لما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها، فقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} المراد بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ، وهو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود.
قرأ الجمهور: {لسبأ} بالجرّ والتنوين على أنه اسم حيّ، أي: الحيّ الذين هم: أولاد سبأ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لسبأ} ممنوع الصرف بتأويل القبيلة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، ويقوّي القراءة الأولى قوله: {فِى مساكنهم} ولو كان على تأويل القبيلة لقال: في مساكنها، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ ** قد عضّ أعناقها جلد الجواميس

ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ** يبنون من دون مسيله العرما

وقرأ قنبل، وأبو حيوة، والجحدري: {لسبأ} بإسكان الهمزة، وقرىء بقلبها ألفًا.
وقرأ الجمهور: {فِى مساكنهم} على الجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، ووجه الاختيار: أنها كانت لهم منازل كثيرة، ومساكن متعدّدة.
وقرأ حمزة، وحفص بالإفراد مع فتح الكاف.
وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، ووجه الإفراد: أنه مصدر يشمل القليل، والكثير، أو اسم مكان، وأريد به معنى: الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي: التي يقال لها الآن: مأرب، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، ومعنى قوله: {ءايَةً} أي: علامة دالة على كمال قدرة الله، وبديع صنعه، ثم بين هذه الآية، فقال: {جَنَّتَانِ} وارتفاعهما على البدل من آية قاله الفراء، أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج، أو على أنهما مبتدأ، وخبره: {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} واختار هذا الوجه ابن عطية، وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، وقرأ ابن أبي عبلة: {جنتين} بالنصب على أنهما خبر ثان، واسمها: آية، وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله، قد أحاطتا به من جهتيه، وكانت مساكنهم في الوادي، والآية هي: الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما، وعلى رأسها المكتل، فيمتلىء من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها.
وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة، ولا ذبابًا، ولا برغوثًا، ولا قملة، ولا عقربًا، ولا حية، ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم.
قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ} أي: قيل لهم ذلك، ولم يكن ثم أمر، ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم.
وقيل: إنها قالت لهم الملائكة، والمراد بالرزق هو: ثمار الجنتين.
وقيل: إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم {واشكروا لَهُ} على ما رزقكم من هذه النعم، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه، وجملة: {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} مستأنفة لبيان موجب الشكر.
والمعنى: هذه بلدة طيبة لكثرة أشجارها، وطيب ثمارها.
وقيل: معنى كونها طيبة: أنها غير سبخة، وقيل: ليس فيها هوامّ.
وقال مجاهد: هي: صنعاء.
ومعنى: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} أن المنعم عليهم ربّ غفور لذنوبهم.
قال مقاتل: المعنى: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم ربّ غفور للذنوب.
وقيل: إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام.
وقرأ ورش بنصب بلدة، وربّ على المدح، أو على تقدير اسكنوا بلدة، واشكروا ربًا.
ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم، فقال: {فَأَعْرِضُواْ} عن الشكر، وكفروا بالله، وكذبوا أنبياءهم قال السدّي: بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيًا، فكذبوهم، وكذا قال وهب.
ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم، فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن، فردموا ردمًا بين جبلين، وحبسوا الماء.
وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا، وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذًا، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم، فغرقها، ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة وهي: السكر التي تحبس الماء، وكذا قال قتادة، وغيره.
وقال السدّي: العرم اسم للسدّ.
والمعنى: أرسلنا عليهم سيل السدّ العرم.
وقال عطاء: العرم اسم الوادي.
وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السدّ عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد: فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه.
قال ابن الأعرابي: العرم من أسماء الفأر.
وقال مجاهد، وابن أبي نجيح: العرم ماء أحمر أرسله الله في السدّ، فشقه، وهدمه.
وقيل: إن العرم اسم المطر الشديد.
وقيل: اسم للسيل الشديد، والعرامة في الأصل: الشدّة، والشراسة، والصعوبة.
يقال: عرم فلان: إذا تشدّد، وتصعب، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: العرم السيل الذي لا يطاق.
وقال المبرّد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين.
{وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ} أي: أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة، والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما، ولهذا قال: {ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قرأ الجمهور بتنوين: {أكل} وعدم إضافته إلى {خمط} وقرأ أبو عمرو بالإضافة.
قال الخليل: الخمط الأراك، وكذا قال كثير من المفسرين.
وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرّة ذات شوك.
وقال الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله.
وقال المبرّد: كل شيء تغير إلى ما لا يشتهى يقال له: خمط، ومنه اللبن إذا تغير، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو.
والخمط نعت لأكل، أو بدل منه، لأن الأكل هو: الخمط بعينه.
وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب: مثل ثوب خزّ، ودار آجرّ، والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه.
قال الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة، أو التهكم بهم، والأثل هو: الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال: إلاّ أنه أعظم من الطرفاء طولًا، الواحدة أثلة، والجمع أثلاث.
وقال الحسن: الأثل الخشب.
وقال أبو عبيدة: هو: شجر النطار، والأوّل أولى، ولا ثمر للأثل.
والسدر شجر معروف.
قال الفراء: هو: السمر.
قال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بريّ لا ينتفع به، ولا يصلح للغسول، وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى: الضال.
والثاني سدر ينبت على الماء، وثمره النبق، وورقه غسول يشبه شجر العناب، قيل: ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعًا يطيب أكله، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري.
قال قتادة: بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت بدلها الأراك، والطرفاء والسدر.
ويحتمل: أن يرجع قوله: {قَلِيلٌ} إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من التبديل، أو إلى مصدر {جزيناهم} والباء في {بِمَا كَفَرُواْ} للسببية، أي: ذلك التبديل، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها {وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور} أي: وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة، ونزول النقمة إلاّ الشديد الكفر المتبالغ فيه.
قرأ الجمهور: {يجازى} بضم التحتية، وفتح الزاي على البناء للمفعول.
وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وحفص بالنون، وكسر الزاي على البناء للفاعل، وهو: الله سبحانه، والكفور على القراءة الأولى مرفوع، وعلى القراءة الثانية منصوب، واختار القراءة الثانية أبو عبيد، وأبو حاتم قالا: لأن قبله {جزيناهم} وظاهر الآية: أنه لا يجازى إلاّ الكفور مع كون أهل المعاصي يجازون، وقد قال قوم: إن معنى الآية: أنه لا يجازى هذا الجزاء، وهو الاصطلام، والإهلاك إلاّ من كفر.
وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل عمل عمله.
وقال طاووس: هو: المناقشة في الحساب، وأما المؤمن، فلا يناقش.
وقال الحسن: إن المعنى: إنه يجازي الكافر مثلًا بمثل، ورجح هذا الجواب النحاس.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا} هذا معطوف على قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} أي: وكان من قصتهم: أنا جعلنا بينهم، وبين القرى التي باركنا فيها بالماء، والشجر، وهي: قرى الشام {قُرًى ظاهرة} أي: متواصلة، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم.
قال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن والشام.
قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية.
وقيل: هي بين المدينة والشام.
وقال المبرّد: القرى الظاهرة هي المعروفة، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة، أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر، أي: معروف {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي: جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارًا معينًا واحدًا، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون.
قال الفرّاء: أي: جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد، والماء، ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد، والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد.
والحاصل: أن الله سبحانه عدّد عليهم النعم، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم، وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله: {سِيرُواْ فِيهَا} هو على تقدير القول، أي: وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة، فهو أمر تمكين أي: ومكناهم من السير فيها متى شاءوا {لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} مما يخافونه، وانتصاب {ليالي} و {أيامًا} على الظرفية.
وانتصاب {آمنين} على الحال.
قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جياع، ولا ظمأ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضًا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه.
ثم ذكر سبحانه: أنهم لم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكد.
{فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وكان هذا القول منهم بطرًا وطغيانًا لما سئموا النعمة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار، والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى: أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء، والشجر، والأمن، والمفاوز، والقفار، والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك، وخرّب تلك القرى المتواصلة، وذهب بما فيها من الخير، والماء، والشجر، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا: {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا} [البقرة: 61] الآية مكان المنّ والسلوى، وكقول النضر بن الحارث {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] الآية.
قرأ الجمهور {ربنا} بالنصب على أنه منادى مضاف، وقرءوا أيضًا: {باعد} وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن، وهشام عن ابن عامر: {بعد} بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلًا ماضيًا، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى من بعد الأسفار، وقرأ أبو صالح، ومحمد بن الحنفية، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ويعقوب: {ربنا} بالرفع: {باعد} بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء، والخبر.
والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطرًا، وأشرًا، وكفرًا للنعمة.