فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

{وَلَهُ الحمد فِي الآخرة} يحتمل أن يكون الحمد الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، وعلى هذا حمله الزمخشري، ويحتمل عندي أن يكون الحمد الأول للعموم والاستغراق، فجمع الحمد في الدنيا والآخرة، ثم جرد منه الحمد في الآخرة كقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ثم أن الحمد في الآخرة يحتمل أن يريد به الجنس أو يريد به قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] أو {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74].
{مَا يَلِجُ فِي الأرض} أي يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات وغيره {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من المطر والملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} روي: أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب {لاَ يَعْزُبُ} أي لا يغيب ولا يخفى {وَلاَ أَصْغَرُ} معطوف على مثقال؛ وقال الزمخشري: هو مبتدأ، لأن حرف الاستثناء من حروف العطف، ولا خلاف بين القراء السبعة في رفع أصغر وأكبر في هذا الموضع، وقد حكى ابن عطية الخلاف فيه عن بعض القراء السبعة، وإنما الخلاف في [يونس: 61] {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} يعني اللوح المحفوظ {لِّيَجْزِيَ} متعلق بقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أو بقوله: {لاَ يَعْزُبُ} أو بمعنى قوله: {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}.
{والذين سَعَوْا} مبتدأ وخبره الجملة بعده، وقال ابن عطية: هو معطوف على الذين الأول، وقد ذكر في [الحج: 51] معنى سعوا، ومعاجزين {أَلِيمٌ} بالرفع قراءة حفص صفة لعذاب وبالخفض قراءة نافع وغيره صفة لرجز.
{وَيَرَى} معطوف على ليجزي أو مستأنف، وهذا أظهر {الذين أُوتُواْ العلم} هم الصحابة أو من أسلم من أهل الكتاب، أو على العموم {الحق} مفعول ثاني ليرى، لأن الرؤية هنا بالقلب بمعنى العلم والضمير ضمير فصل.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي قال بعضهم لبعض: هل ندلكم على رجل يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} معنى {مُزِّقْتُمْ} أي: بليتم في القبور، وتقطعت أوصالكم، {كُلَّ مُمَزَّقٍ} مصدر، والخلق الجديد: هو الحشر في القيامة، والعامل في {إِذَا} معنى {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} لأن معناه: تبعثون إذا مزقتم، وقيل: العامل فيه فعل مضمر مقدر قبلها وذلك ضعيف، و {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} معمول {يُنَبِّئُكُمْ} وكسرت اللام التي في خبرها، ومعنى الآية أن ذلك الرجل يخبركم أنكم تبعثون بعد أن بليتم في الأرض، ومرادهم استبعاد الحشر.
{أفترى عَلَى الله} هذا من جملة كلام الكفار، ودخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت الهمزة مفتوحة غير ممدودة {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب} هذا ردّ عليهم: أي أنه لم يفتر على الله الكذب وليس به جنة، بل هؤلاء الكفار في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم العذاب، ويحتمل أن يريد بالعذاب عذاب الآخرة، أو العذاب في الدنيا بمعنادة الحق، ومحاولة ظهور الباطل.
{أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السماء والأرض} الضمير في يروا للكفار المنكرين للبعث، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخلفهم، لأنهما محيطتان بهم، والمعنى ألم يروا إلى السماء والأرض فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم، ويحتمل أن يكون المعنى تهديد لهم ثم فسره بقوله: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السماء} أي أفلم يروا إلى السماء والأرض أنهما محيطتان بهم، فيعملون أنهم لا مهرب لهم من الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} الإشارة إلى إحاطة السماء بهم، أو إلى عظمة السماء والأرض بأن فيهما آية تدل على البعث.
{ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} تقديره: قلنا يا جبال، والجملة تفسير لفضلًا، ومعنى أوّبي: سبّحي، وأصلحه من التأويب، وهو الترجيع، لأن كان يرجِّع التسبيح فترجعه معه: وقيل: هو من التأويب بمعنى السير بالنهار، وقيل: كان ينوح فتساعده الجبال بصداها، والطير بأصواتها {والطير} بالنصب عطف على موضع يا جبال، وقيل: مفعول معه، وقيل: معطوف على فضللًا، وقرئ بالرفع عطفًا على لفظ: يا جبال {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} أي جعلناه له لينًا بغير نار كالطين والعجين، وقيل: لأن له الحديد لشدّة قوته.
{سَابِغَاتٍ} هو الدروع الكاسية {وَقَدِّرْ فِي السرد} معنى {السرد} هنا نسج الدروع، وتقديرها أن لا يعمل الحلقة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها، وقيل: لا يجعل المسمار دقيقًا ولا غليظًا {واعملوا صَالِحًا} خطاب لداود وأهله.
{وَلِسُلَيْمَانَ الريح} بالنصب على تقدير وسخرنا، وقرئ بالرفع رواية أبي بكر عن عاصم على الابتداء {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي كانت تسير به بالغداة مسيرة شهر، وبالعشي مسيرة شهر فكان يجلس على سريره وكان من خشب، يحمل فيها روي أربعة آلاف فارس، فترفعه الريح ثم تحمله {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} قال ابن عباس: كانت تسيل له باليمن عين من نحاس، يصنع منها ما أحب، والقِطر: النحاس، وقيل: القطر الحديد والنحاس وما جرى مجرى ذلك: كان يسيل له منه أربعة عيون، وقيل: المعنى أن الله أذاب له النحاس بغير نار كما صنع بالحديد لداود {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} يعني نار الآخرة، وقيل: كان معه ملك يضربهم بسوط من نار.
{مَّحَارِيبَ} هي القصور، وقيل: المساجد وتماثيل قيل: إنها كانت على غير صور الحيوان وقيل على صور الحيوان وكان ذلك جائزًا عندهم {كالجواب} جمع جابية وهي البركة التي يجتمع فيها الماء {رَّاسِيَاتٍ} أي ثابتات في مواضعها لعظمها {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} حكاية ما قيل لآل داود، وانتصب شكرًا على أنه مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، تقديره: شاكرين، أو مصدر من المعنى لأن العمل شكر تقديره: اشكروا شكرًا، أو مفعول به {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود أو مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
{دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} المنسأة هي العصا، وقرئ بهمز وبغير همز، ودابة الأرض هي الارضة، وهي السوسة التي تأكل الخشب وغيره، وقصة الآية أن سليمان عليه السلام دخل قبة من قوارير، وقام يصلي متكئًا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك سنة، لم يعلم أحد بموته، حتى وقعت العصا فخر إلى الأرض. واختصرنا كثيرًا مما ذكره الناس في هذه القصة لعدم صحته {تَبَيَّنَتِ الجن} من تبين الشيء إذا ظهر، وما بعدها بدل من الجنّ، والمعنى ظهر للناس أنة الجن لا يعلمون الغيب، وقيل: تبينت بمعنى علمت، وأن وما بعدها مفعول به على هذه. والمعنى: علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، وتحققوا أن ذلك بعد التباس الأمر عليهم، أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب، وأنهم كاذبون في دعوة ذلك {فِي العذاب المهين} يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في أنواع الأعمال، والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} سبأ: قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه، وقيل: باسم أمها، وقيل: باسم موضعها، والأول أشهر، لأنه ورد في الحديث وكانت مساكنهم بين الشام واليمن {جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ} كان لهم واد، وكانت الجنتان عن يمينه وشماله، وجنتان بدل من آية أو مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف {كُلُواْ} تقديره: قيل: لهم كلوا من رزق ربكم، قالت لهم ذلك الأنبياء، وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبيًا فكذبوهم {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام.
{فَأَعْرَضُواْ} أي أعرضوا عن شكر الله، أو عن طاعة الأنبياء {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} كان لهم سدّ يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان، فأرسل الله على السد الجرذ، وهي دويبة خربته فيبست الجنتان، وقيل: لما خرب السدّ حمل السيل الجنتين وكثيرًا من الناس، واختلف في معنى العرم: فقيل هو السدح، وقيل هو اسم ذلك الوادي بعينه، وقيل معناه الشديد، فكأنه صفة للسيل من العرامة، وقيل هو الجرذ الذي خرب السدّ، وقيل: المطر الشديد {أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} الأكل بضم الهمزة المأكول، والخمط شجر الأراك، وقيل: كل شجرة ذات شوك، والأثل شجر ثشبه الطرفا والسدر شجر معروف، وإعراب خمط بدل من أكل، أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط، لأن الأثل لا أكل له، والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل: أبدلهم الله منها جنتين بضد وصفهما في الحسن والأرزاق.
{وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور} معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور؛ لأن المؤمن قد يسمح الله له ويتجاوز عنه.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء اليل وهلاك جناتهم، ويعني بالقرئ التي باركنا فيها الشام، والقرى الظاهرة قرى متصلة من بلادهم إلى لشام، ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها، وقيل: مرتفعة في الآكام، وقال ابن عطية: خارجة عن المدن كما تقول بظاهر المدينة أي خارجها {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي: قسمنا مراحل السفر، وكانت القرى متصلة، فكان المسافر يبيت في قرية ويصبح في أخرى، ولا يخاف جوعًا ولا عطشًا، ولا يحتاج إلى حمل زاد، ولا يخاف من أحد.
{فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قرئ {بَاعِدْ} وقرأ ابن كثير وأبو عمر {بَعِّدْ} بالتخفيف والتشديد على وجه الطلب، والمعنى أنهم بطروا النعمة وملّوا العافية، وطلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزوّدوا للأسفار، فعجل الله إجابتهم، وقرئ {باعَد} بفتح العين على الخبر، والمعنى أنهم قالوا إن الله باعد بين قراهم، وذلك كذب وجحد للنعمة {وظلموا أَنفُسَهُمْ} يعني بقولهم {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} أو بذنوبهم على الاطلاق {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم، قيل تفرقوا أيدي سبأ، وفي الحديث: «إن سبأ أبو عشرة من القبائل، فلما جاء السير على بلادهم تفرقوا فتيامَنَ منهم ستة وتشاءمَ أربعة».
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي وجد ظنه فيهم صادقًا يعني قوله: {لأُغْوِيَنَّهُمْ} [ص: 82]، وقوله: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].
{قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ} تعجيز للمشركين وإقامة حجة عليهم ويعني بالذين زعمتم آلهتهم، ومفعول زعمتم محذوف أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتم أنهم شفعاء، وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشًا {مِن شِرْكٍ} أي نصيب والظهير المعين.
{وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} المعنى لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن الله له أن يشفع، فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه، وقيل: المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله أن يشفع فيه، والمعنى أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله، ففي ذلك ردّ على المشركين الذين كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} تظاهرت الأحاديث عن رسول الله أن هذه الآية في الملائكة عليهم السلام، فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعًا عظيمًا، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم فيقولون: قال الحق، ومعنى {فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} زال عنها الفزع، والضمير في {قُلُوبِهِمْ} وفي {قَالُواْ} للملائكة، فإن قيل كيف ذلك ولم يتقدم لهم ذكر يعود الضمير عليه؟ فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دل عليهم لفظ الشفاعة، فإن قيل: بم اتصل قوله: {حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} ولأي شيء وقعت حتى غائية؟ فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظارًا للإذن، وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة، ويقرب هذا في المعنى من قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38] ولم يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم: هي من الكفار بعد الموت، ومعنى {فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} رأوا الحقيقة، فقيل لهم: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ}؟ فيقولون: قال الحق فيقرّون حيث لا ينفعهم الإقرار، والصحيح أنها في الملائكة لورود ذلك في الحديث، ولأن القصد الردّ على الكفار الذين عبدوا الملائكة، فذكره شدّة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له. اهـ.

.قال النسفي:

{الحمد} إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق {لِلَّهِ} بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلًا فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلًا {الذى لَهُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض} خلقًا وملكًا وقهرًا فكان حقيقًا بأن يحمد سرًا وجهرًا {وَلَهُ الحمد في الآخرة} كما هو له في الدنيا إذ النعم في الدارين من المولى، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سرورًا بالنعيم وتلذذًا بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] {وَهُوَ الحكيم} بتدبير ما في السماء والأرض {الخبير} بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض {يَعْلَمْ} مستأنف {مَا يَلْجُ} ما يدخل {فِى الأرض} من الأموات والدفائن {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات وجواهر المعادن {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من الأمطار وأنواع البركات {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد إليها من الملائكة والدعوات {وَهُوَ الرحيم} بإنزال ما يحتاجون إليه {الغفور} لما يجترئون عليه.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي منكرو البعث {لاَ تَأْتِينَا الساعة} نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة {قُلْ بلى} أوجب ما بعد النفي ب بلى على معنى أن ليس الأمر إلا إتيانها {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ثم أعيد إيجابه مؤكدًا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله: {عالم الغيب} لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق.
{عالم الغيب} مدني وشامي أي هو عالم الغيب {علامِ الغيب} حمزة وعلي على المبالغة {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} وبكسر الزاي: عليّ.
يقال: عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدار أصغر نملة {فِى السماوات وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ} من مثقال ذرة {وَلا أَكْبَرُ} من مثقال ذرة {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} إلا في اللوح المحفوظ، {وَلاَ أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ} بالرفع عطف على {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ويكون إلا بمعنى لكن، أو رفعًا بالابتداء والخبر {فِى كتاب} واللام في {لّيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لما قصروا فيه من مدارج الإيمان {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق ب {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تعليلًا له.
{والذين سَعَوْا في ءاياتنا} جاهدوا في رد القرآن {معاجزين} مسابقين ظانين أنهم يفوتوننا.
{مُعَجِزِينَ} مكي وأبو عمرو أي مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين الله إلى العجز {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ} برفع {أَلِيمٌ} مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب.
قال قتادة: الرجز سوء العذاب، وغيرهم بالجر صفة لرجز.