فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمرًا بنفسه نفاه بقوله تعالى: {وما} أي: والحال أنه ما {كان} أصلًا {له عليهم} أي: الذين اتبعوه ولا غيرهم، وأغرق فيما هو الحق من النفي بقوله تعالى: {من سلطان} أي: تسلط قاهر بشيء من الأشياء بوجه من الوجوه، لأنه مثلهم في كونه عبدًا عاجزًا مقهورًا ذليلًا خائفًا مدحورًا قال القشيري: هو مسلط ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه والمعنى: أن الأمر لله وحده {إلا} أي: لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا، وملكناه قيادهم بقهرنا، وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال: {لنعلم} أي: بما لنا من العظمة {من يؤمن} أي: يوجد الإيمان لله {بالآخرة} أي: ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تمييزه تعلقًا تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقًا به في عالم الغيب {ممن هو منها} أي: الآخرة {في شك} فهو لا يجدد لها إيمانًا أصلًا لأن الشك ظرف له محيط به، وإنما استعار إلا موضع لكن إشارة إلى أنه مكنه تمكينًا تامًا صار به كمن له سلطان حقيقي.
تنبيه:
قال الرازي: إن علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد محيط لكل معلوم، وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالمًا لا يتغير، ولكن يتغير تعلق علمه، فإن العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله تعالى في الأزل أن العالم سيوجد، فإذا وجد علمه موجودًا بذلك العلم وإذا عدم علمه معدومًا، كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمر وتظهر فيها صورته، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها، وإنما التغيير في الخارجيات، وكذا هنا قوله: {إلا لنعلم} أي: ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر، والإيمان من المؤمن، وكان علم الله تعالى أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو وقال البغوي: المعنى إلا لنميز المؤمن من الكافر، وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلومًا عنده بالغيب وقوله تعالى: {وربك} أي: المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك واجتنابه عن أمتك {على كل شيء} من المكلفين وغيرهم {حفيظ} أي: حافظ أتم حفظ تحقيق ذلك إن الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز.
ولما بين تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى، عاد إلى خطابهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قل} أي: يا أعلم الخلق بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا من لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة {ادعوا الذين زعمتم} أي: أنهم آلهة كما تدعون الله تعالى لاسيما في وقت الشدائد، وحذف مفعولي زعم وهما ضميرهم وآلهة تنبيهًا على استهجان ذلك واستبشاعه وليس المذكور في الآية مفعول زعم ولا قائمًا مقام المفعول لفساد المعنى، وبين حقارتهم بقوله تعالى: {من دون الله} أي: الذي حاز جميع، العظمة والمعنى: ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعارًا بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال: {لا يملكون مثقال ذرة} من خير أو شر {في السموات ولا في الأرض} أي: في أمر ما، وذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب، وبعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية، والجملة استئناف لبيان حالهم.
ولما كان هذا ظاهرًا في نفي الملك الخاص عن ثبوت المشاركة نفى المشاركة أيضًا بقوله تعالى مؤكدًا تكذيبًا لهم فيما يدعونه: {وما لهم} أي: الآلهة {فيهما} أي: في السموات والأرض ولا في غيرهما، ولا في فيما فيهما، وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من شرك} أي: شركة لا خلقًا ولا ملكًا {وماله} أي: الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ظهير} أي: معين على شيء مما يريده من تدبير أمرهما وغيرهما فكيف يصح مع هذا لعجز أن يدعوا كما يدعي، ويرجوا كما يرجي ويعبدوا كما يعبد.
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة وكان المقصود منها أثرها لا عينها نفاه بقوله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده} أي: فلا تنفعهم شفاعة كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند الله {إلا لمن أذن له} أي: وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة، أو أكثر في أن يشفع في غيره وفي أن يشفع فيه غيره، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بضم الهمزة والباقون بفتحها وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} غاية لمفهوم الكلام من أن ثم انتظارًا للإذن وتوقعًا وتمهلًا وفزعًا من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملئ من الزمان وطول من التربص، ومثل هذه الحال دل عليها قوله عز من قائل {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الروح والملائكة صفًا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا}.
كأنه قيل: يتوقعون ويتربصون مليًا فزعين ذاهلين حتى إذا فزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوبهم أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض {ماذا قال ربكم} أي: في الشفاعة ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن بذلك قلوبهم {قالوا} قال: القول {الحق} أي: الثابت الذي لا يمكن أن يبدل، بل يطابق الواقع فلا يكون شيء يخالفه وهو الإذن في الشفاعة لمن ارتضى منهم وهم المؤمنون {وهو العلي الكبير} أي: ذو العلو فلا رتبة إلا دون رتبته والكبرياء، فليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء صفقت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: {ماذا قال ربكم} قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي من السماء» وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر وتكلم بالوحي أخذت السماء رجفة، أو قال: رعدة شديدة خوفًا من الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل عليه السلام على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل: فيقول جبريل عليه السلام {قال الحق وهو العلي الكبير} فيقولون كلهم مثل ما يقول جبريل عليه السلام، فينتهي جبريل عليه السلام بالوحي حيث أمره الله تعالى» وقال مقاتل والكلبي والسدي: كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل: ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحيًا، فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم كلم جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات من أشراط الساعة، فصعقوا مما سمعوا خوفًا من قيام الساعة، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رءوسهم ويقول بعضهم لبعض {ماذا قال ربكم قالوا الحق} يعني الوحي {وهو العلي الكبير} وقال الحسن وابن زيد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة عليهم السلام: ماذا قال ربكم في الدعاء قالوا: الحق فأقروا به حيث لم ينفعهم الإقرار. اهـ.

.قال القاسمي:

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} خلقًا وملكًا، وتصرفًا بما شاء: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} أي: في النشأة الآخرة. قال الشهاب: السماوات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره. وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله: {الَّذِي} الخ، أنه محمود على نعم الدنيا، ولمّا قيّد الثاني بكونه في الآخرة، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى: أنه المحمود على نعم الدنيا فيها، وعلى نعم الآخرة فيها. أو هو من باب الاحتباك، وأصله: الحمد لله الخ في الدنيا، وله ما في الآخرة والحمد فيها، فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة. وقوله تعالى: {وّلّهُ الْحّمْدُ} معطوف على الصلة، أو اعتراض، إن كانت جملة: {يَعْلَمُ} حالية: {وَهُوَ الْحَكِيمْ} أي: الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته: {الْخَبِيرُ} أي: بخلقه وأعمالهم وسرائرهم، ثم ذكر مما يحيط به علمًا قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي: من الأمطار، والمياه، والكنوز، والدفائن، والأموات: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: من الشجر، والنبات، وماء العيون، والغلة، والدواب: {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء} أي: من الأمطار، والثلوج، والبرد، والصواعق، والأرزاق، والملائكة، والمقادير: {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: من الملائكة، وأعمال العباد: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي: لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي مكة: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي: ساعة الجزاء، إنكارًا لها: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي: الساعة. ردٌّ لكلامهم وتأكيدٌ لما نفوه، باليمين بالله عز وجل: {عَالِمِ الْغَيْبِ} بالجر صفة، والرفع خبر محذوف، وقرئ: علَّامِ، بالجر. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد؛ لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته، لما أنه في حكم الاستشهاد على الأمر، لاسيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى؛ فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية، وأولها مسارعة إلى القلب، إذا قيل عالم الغيب: {لَا يَعْزُبُ} أي: لا يغيب بضم الزاي وكسرها: {عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، وإن تناهى في الصغر، فالعظام وأجزاء البدن، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة؛ لسعة علمه وعظم قدرته، جل شأنه.
لطائف:
الأولى- عامة القراء على رفع: {أَصْغَرُ} و: {أَكَبَرُ} وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء والخبر: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} والثاني النسق على: {مْثَقالَ}. وعلى هذا فيكون قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} تأكيدًا للنفي في: {لاَ يَعْزُبُ} كأنه قال: لكنه في كتاب مبين، ويكون في محل الحال، وقرأ بعض السلف بفتح الراءين، وفيه وجهان: أحدهما- أن: {لَا} هي لا التبرئة، بني اسمها معها. والخبر قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ}. والثاني- النسق على: {ذَرَّةٍ} لامتناعه من الصرف.
الثانية- يشير قوله تعالى: {وَلاَ أصْغَرُ مِنَ ذَلِكَ} إلى أن: {مِثْقَالَ} لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضًا.
الثالثة- قال الكرخي: فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر الأكبر؛ فإن من علم الأصغر من الذرة لابد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان، وأما الأكبر فلا يُنسى فلا حاجة إلى إثباته، فأعلم أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك؛ فإن الأكبر مكتوب فيه أيضًا. وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} علة لقوله تعالى: {لَتَأْتيَنَّكُمْ} وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء: {أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: عيش هنيء في الآخرة.
{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي: بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك {مُعَاجِزِينَ} أي: مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} وهو أسوأ العذاب و: {مِّن} للبيان: {أَلِيمٌ} بالرفع صفة عذاب، وبالجر صفة ل: رجز، قراءتان. وقد جوز في قوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} أن يكون مبتدأ، وجملة: {أُوْلَئِكَ} الخ خبره وأن يعطف على: {الَّذِينَ} قبله. أي: ويجزي الذين سعوا. وتكون جملة: {أُوْلَئِكَ} التي بعدها مستأنفة، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدهم بالسعي، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم، والجدّ البليغ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.
{وَيَرَى} أي: يعلم: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: دينه وشرعه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: من قريش: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} يعنون النبي صلّى الله عليه وسلم: {يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: فرقتم كل تفريق، بحيث صرتم ترابًا ورفاتًا: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: فيما قاله: {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي: جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أي: المتناهي أمره؛ فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد، ونبذ الهوى والفساد، فيرمي الداعي بالفرية والجنون، لَمُغرق في الجهالة، ومبعد أي: بعد في الضلالة، ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب، بقوله سبحانه: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء} أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفًا لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلم وبما جاء به، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. أفاده الزمخشري.
والكسْف: بسكون السين، بمعنى القطع، إما جمع كسفة، أو فعل بمعنى مفعول، أو مخفف من المصدر، وقرأ حفص: {كِسَفًا} بالفتح: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله: {لَآيَةً} أي: دلالة واضحة: {لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي: راجع إلى ربه مطيع له، فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم، كما قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81]، وقال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل، والملك، وسعة السلطان، ووفرة الجند، وكثرة العَدَد، والعُدَد، ببركة إنابتهما، وقيامهما بشكر الرب تعالى، عِدةً للنبي صلّى الله عليه وسلم، وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك، وتذكيرًا بقدرته على كل شيء، فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي: رجّعي معه التسبيح و: {يَا جِبَالُ} بدل من: {فَضْلًا} أو من: {آتَيْنَا} بتقدير قولنا، أو قلنا يا جبال أوّبي معه: {وَالطَّيْرَ} بالرفع والنصب، عطفًا على لفظ الجبال ومحلها، وجوز انتصابه مفعولًا معه، وأن يعطف على: {فَضْلًا} بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري: فإن قلت أي: فرق بين هذا النظم، وبين أن يقال: وآتينا داود منا فضلًا، تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية، حيث جعلت الجبال منزلة منزّلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارًا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى.
{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعًا واسعاتٍ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي: وقلنا له ولأهله ذلك: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فأجازيكم به.