فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن الرسالة الإسلامية، هي الكلمة الأخيرة.. الكلمة الحاسمة فيما بين السماء والأرض، فليس بعدها كلام.. إنها الخاتمة.
وصاحب الرسالة، هو خاتم النبيين.. ليس بعده نبى، ولا وراءه بشير ولا نذير من ربّ العالمي.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن لنا أن نقول: إن محمدا هو منتخب الإنسانية كلها، وهو مجتمع كمالاتها، في أرفع درجاتها، وأعلى منازله.
ذلك، لأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- جاء إلى الإنسانية حين بلغت رشدها، وحين أراد اللّه سبحانه وتعالى لها أن تستقلّ بوجودها، وأن تستقيم على الطريق الذي يمليه عليها تفكيره.
إن الإنسانية- وقت البعثة المحمدية- كانت قد جاوزت طور الصبا، وبلغت أشدها ورشدها، وأصبحت بهذا جديرة بأن تستقل بنفسها، وأن تستهدى بما أودع اللّه تعالى فيها من عقل، وبما حملت إليها السماء من وصايا.
كانت رسالات الرسل- عليهم السلام- قبل البعثة المحمدية، رسالات محلية أشبه بالوصاية على الصغار.. يظهر الرسول في جماعة من الجماعات، أو بيت من البيوت، يقيم لهم وجودهم المعوج، ويضىء لهم طريقهم المظلم، ثم لا يلبث أن يخلفه عليهم رسول، يخلفه رسول.. وهكذا.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأراد اللّه سبحانه للناس أن يستقلوا بوجودهم، وأن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم، بعد أن بلغوا رشدهم، وأصبحوا في عداد الرجال- جاءت رسالة الإسلام، يحملها رسولها الأمين.. محمد بن عبد اللّه.. رسول اللّه، وخاتم النبيي.
ومن هنا ندرك السر في أن الرسالة الإسلامية، كانت رسالة عقلية تخاطب العقل، وتجىء لإقناعه عن طريق الحجة القائمة على البراهين الاستدلالية، التي يستقيم عليها تفكير الناس جميعا.. عامتهم وخاصتهم على السوا.
إن الرسالة الإسلامية، لم تستند إلى معجزة قاهرة، تطغى على عقول الناس، وتغتال تفكيرهم، وتشل إرادتهم، وتضعهم أمام أمر ملزم لا فكاك لهم من.
فماذا يفعل العقل إزاء عصا موسى- عليه السلام- وهو يضرب بها البحر، فتنشق من بطنه طريق يبس؟ أو ماذا يقول العقل إزاء هذه العصا حين يضرب بها الحجر- أي حجر- فتسيل منه عيون الماء، وتتفجر ينابيعه؟ وماذا يقول العقل في كلمة عيسى عليه السلام، حين ينطق بها، آمرا الأكمه، أن يبرأ، فيبرأ، وداعيا الأبرص، أن يذهب عنه البرص، فيذهب؟ بل ماذا يقول العقل في تلك الكلمة تخرج من فم عيسى فيحيى بها الموتى؟ إنه لا مكان للعقل هن.
إنه لا مفر له من أن يستسلم ويذعن، إن كان قد بقي معه شيء من الوعى، أو أن يعيش في اضطراب وذهول، ووجوم! أما الرسالة الإسلامية، فقد استندت في محاجتها العقل، وفي إقناعه- إلى الكلمة وما فيها من عقل ومنطق..! فلم تطلب إلى الناس أكثر من أن يفكروا في أنفسهم وبأنفسهم، وأن يستخدموا عقولهم المعطلة، وأن يوجهوا حواسهم إلى هذا الوجود، وأن ينظروا فيما خلق اللّه في السموات والأر.
ثم أن يتقبلوا- في غير عناد- ما ينكشف لهم من آيات اللّه، ودلائل قدرته وعظمته.. فإنهم إن فعلوا، فقد أدوا الأمانة التي حملوها، وهى التفكير، واستخدام العقل الذي أودعه اللّه فيهم! وفي هذا يقول اللّه تعالى لنبيّه الكريم:
{قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (46: سبأ).. هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية، وهذا هو ملاك أمره.
استخدام العقل، واحترام معطياته، وذلك بالتفكير الفردى، والجماعىّ معا، تفكيرا حرّا مطلقا من كل قيد، محررا من كل تلقيات سابقة!.
فالعقل في مواجهة الرسالة الإسلامية، محمول على أن يفكّر، وأن يتحرك في جميع مجالاته، غير مقيّد بشىء، أو مشدود إلى شىء.. إن الرسالة الإسلامية لتغرى العقل إغراء على التفكير، بما تنادى به من دعوات عالية، إلى إيقاظ العقل، وبما تقدّم إليه من صور، وما تفتح له من مجالات، تدعو أكثر الناس بلادة وغباء إلى استخدام عقولهم، واستدعاء تفكيرهم: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (17- 20: الغاشية).. {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماء ماء مُبارَكًا فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ الْخُرُوجُ} (6- 11: ق) إنها دعوة إلى سياحة روحية، وعقلية، وجسدية، في رحاب هذا الوجود، وفي استجلاء محاسنه، وملء العين والقلب من روائعه ومفاتنه.
وإنه بحسب المرء أن يصحب معه عقله في هذه السياحة، فيهتدى إلى الحقّ، ويلتقى على طريق سواء مع محامل الدعوة الإسلامية، من عقيدة وشريعة.. فإن العقل بطبيعته- إذا خلا من آفات العناد والاستكبار- ينشد الحق، ويهتدى إليه، لأنه شرارة من نور الحق، وقبس من أقباسه!.
ذلك، على حين كان العقل قبل الرسالة الإسلامية بمغزل عن معجزات الرسل، وبمنقطع عنها، لأنها لا تستقيم على منطق العقل، ولا تدخل في مجال التفكير، إنها أمور خارقة للعادة، لا تقع إلا على يد رسول مؤيد من عند اللّه، فيقع بها الإعجاز القاهر، ويقوم بها التسليم القائم على الدّهش والحيرة، والعجز.
وذلك الذي صنعته السماء، في التدرج في الدعوة إلى اللّه، هو الأسلوب الحكيم في التربية.. فالصغير لا يحتمل عقله أحكام المنطق، ولا يخضع تفكيره لمعطيات ما بين الأسباب والمسببات من ارتباط.. وإنه لمن الخطأ وسوء التقدير، بل ومن القسوة عليه، أن يؤخذ بمنطق العقل، ويحمل على أحكامه، على حين أن الذي يصلحه ويصلح له، هو أن يخاطب بلغة الحسّ، وبمنطق المادة.. فإذا نما عقله شيئا، كان من التدبير الحكيم أن يخاطب بأسلوب المنطق العقلي والحسّى معا، وأن يزاوج له بينهما، بنسب تكثر فيها العناصر العقلية شيئا فشيئا، كلما نما عقله، واتسعت مداركه، حتى إذا بلغ مبلغ النضج والرشد، أمكن أن يكون عقله هو موضع الاعتبار في مخاطبته ومحاسبت.
والإنسانية- في تقديرنا- بدأت وجودها كما يبدأ كل كائن حى وجوده.. نبتة صغيرة، ثم شجيرة لا زهر فيها، ثم شجرة مزهرة.. ثم شجرة مزهرة مثمرة! وشواهد التاريخ تؤيد هذا وتشهد له.
والإنسانية في زمن البعثة المحمدية كانت- كما قلنا- في آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلي، والكمال الإنسانى.. كانت بمثابة طفل درج في مدارج الحياة حتى بلغ مبلغ الرجال.. وكان عليه بعد هذا أن يستوفى حظه من الحياة، وأن يأخذ مكانه فيها، غير مستند إلى شيء غير ذات.
ودع عنك ما يقال من أن الإنسانية كانت قد ارتكست وردّت على أعقابها زمن البعثة المحمدية، وأن الشرّ كان قد استشرى بالناس، وأن الظلام قد أطبق عليهم، ولفّهم في قطع كثيفة من الجهل والضلال، وأن معالم الحضارات التي أقامتها الإنسانية في وادي النيل على يد الفراعنة، وفي بابل وآشور على يد الكنعانيين والآشوريين، قد ذهبت معالمها، وضلّت في ظلمات الجهل شواهدها، ومحيت آياتها.. وأن لمعات العقل اليوناني التي سطعت في العالم القديم قد ذهب الزمن بها، وعقمت الحياة عن أن تلد سقراط، وأفلاطون، وأرسطو.. مرة أخر.
دع عنك كل هذا، فالدنيا بخير، والحياة ولود، لا يصيبها العقم أبدا، وهى سائرة إلى الأمام، لا ترجع إلى الوراء بحال.. إنها سنّة التطور والارتقاء.. سنة اللّه في خلقه، ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا.
ولا نريد أن نقف طويلا هنا، ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لهذا.
وحسبنا أن نقول إن القرون الطويلة التي عاشتها الإنسانية، والتي تقدر بعشرات الألوف أو مئاتها من السنين- لم تمكّن لها قبل عصرنا هذا من أن تستخدم قوة البخار والكهرباء، ولم تفتح لها الطريق إلى تحطيم الذرّة، وإلى بناء المراكب الكونية، الكوكبية التي تدور في فلك الشمس كما تدور الأقمار حولها.. بل وأكثر من هذا.. فإننا ونحن نكتب هذا الكلام يطلع علينا حدث عجب لم يكن يقع إلا في الأحلام والخيالات، وهو وصول الإنسان إلى القمر، ووضع أقدامه عليه، يمشى فوق أديمه، ويتنقل بين ربوعه..!
إن هذه الفتوحات العظيمة التي حققها العقل الإنسانى في هذا العصر لهى الشهادة التي لا ترد، على أن الحياة الإنسانية تتجه دائما نحو الأمام، وأنها تضيف كل يوم معارف جديدة إلى معارفها السابقة، وأن رصيدها من المعرفة، يزداد مع الأيام، يوما بعد يوم! فإذا قلنا إن عصر النبوة المحمدية، كان هو العصر الذي بلغت فيه الإنسانية رشدها، وتخطت فيه مرحلة الطفولة والصبا، كان لقولنا هذا مستند من واقع عصرنا هذا الذي يعدّ امتدادا لعصر النبوة.. فإن أربعة عشر قرنا منذ البعثة المحمدية إلى يومنا هذا، لا تعدّ في عمر الإنسانية إلا يوما من أيام حياتها، وإلا مرحلة أو بعض مرحلة من مراحل وجوده.
يتحدث الجاحظ في رسالة حجج النبوة عن طبيعة الرسالة المحمدية، وأنها تتجه إلى مجتمع إنسانى يأخذ الأمور بمعيار العقل، وينظر في أعقابها وما تؤول إليه.. فيقول:
وكذلك وعيد محمد بنار الأبد، كوعيد موسى بنى إسرائيل بإلقاء الهلّاس على زرعهم، والهمّ على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوّهم.
فكان تعجيل العذاب الأدنى- أي القريب- في استدعائهم واستحالتهم، وردعهم على ما يريد بهم، وتعديل طباعهم- كتأخير العذاب الشديد على غيرهم.. لأن الشديد المؤخّر- من العذاب- لا يزجر إلا أصحاب النظر في العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب في المذاهب.
ويريد الجاحظ أن يقول: إن دعوة محمد كانت إلى مجتمع عاقل، مدرك، ينظر في عواقب الأمور، كما ينظر العقلاء الراشدون، وليست كذلك دعوة موسى، التي تتعامل مع مجتمع كان في دور الطفولة والصبا، لا يأخذ من الأمور إلا جانبها الواقعي المعجل!.
وننتهى من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى، وهى أن النبىّ الذي يجىء إلى الإنسانية في هذا الطور من حياتها، ينبغى أن يكون أكمل الأنبياء، لأنه على قمة الإنسانية في طورها الذي بلغت فيه رشدها، إذ كان النبىّ في كل عصر، في كل أمة، هو ممثل الإنسانية في هذا العصر، وفي تلك الأمة، وهو خلاصة كل طيب وكريم ونبيل فيها.. وفي هذا يقول النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه «بعثت من خير قرون بنى آدم، قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه»؟
وعلى هذا، فإنه إذا كانت دعوات الأنبياء رحمات وبركات على الناس في أجيالهم وأوطانهم- فإن رسالة محمد صلوات اللّه وسلامه عليه رحمة عامة، وبركة شاملة للناس جميعا.. من كل أمة، ومن كل جنس، على مدى الأيام والدهور.
وإنها رسالة لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنتهى عند زمن الأزمان.. فهى ليست للعرب وحدهم، وليست لعصر النبوة وحده، فما العرب إلا لسانها وترجمانها، وما عصر النبوّة إلا مطلعها ومجلى أنوارها.. {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
إن الرسالة الإسلامية، تدعو الناس جميعا إليها، ورسولها ينادى الناس كلهم، بهذه الكلمة العامة الشاملة، وبهذا النداء المطلق: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} {يا بَنِي آدَمَ}. {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ}. ولم يتجه بدعوته أبدا إلى العرب وحدهم أو قريش وحدها، فلم يقل. يا أيها العرب، أو يا بنى إسماعيل، أو يا أبناء عدنان وقحطان.. كما كان ذلك شأن أنبياء اللّه في رسلهم وأقوامهم، ومن أرسلوا إليهم.. فقد كان كلّ نبىّ يدعو قومه خاصة، ويقصر دعوته عليهم وحدهم.. فيقول يا قوم لا يتجاوزها.
{إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (1، 2: نوح) {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ} (84: هود) {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ} (50: هود) {وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ} (61: هود).
{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (5: الصف).
{وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (6: الصف) وهكذا كان كلّ نبىّ يعمل في محيط قومه، وفي حدود دائرتهم لا يتعداها، إذ كانت تعاليم رسالته وأحكامها، مقيسة عليهم، ودواء لداء متمكن منهم، لا يكاد يصلح لغيرهم.. حتى أن المسيح- عليه السلام- لم يكن ليقيم معجزة من معجزاته إلا في بنى إسرائيل وحدهم.. وحتى إنه أبى- كما تحدث الأناجيل- أن يستجيب لتوسلات المرأة الكنعانية في أن يشفى ابنها المجنون، وردّها قائلا، لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل إنجيل متى.. الإصحاح الخامس عشر.. وليس ذلك ضنّا منه- عليه السلام- بالإحسان، وإنما لأنه لم يكن يريد بمعجزاته إلا إقامة الحجة على قومه، لا أن يشفى الأوجاع، ويبرىء الأمرا.
هذا عن رسل اللّه، ومحامل رسالاته.
أما خاتم النبيين.. محمد صلوات اللّه وسلامه عليه.. وأما رسالة الإسلام خاتم الرسالات السماوية.. فللإنسانية كلها، وللناس جميعا.. أسودهم وأحمرهم على السواء.
كالبحر يهدى للقريب جواهرا منه ويرسل للبعيد سحائبا.
إنها رحمة عامة شاملة، من ربّ الناس إلى الناس.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}.
والرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يقول: «أنا رحمة مهداة» قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
أي يقول المشركون، منكرين، ساخرين: {مَتى هذَا الْوَعْدُ} أي متى يوم القيامة التي تعدنا به في قولك: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ}
متى يكون ذلك؟. أنبئنا به.. إن كنت من الصادقين.
وقوله تعالى: {قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} هذا هو الجواب الذي أمر اللّه النبي أن يلقى به المشركين، ردّا على هذا السؤال الجهول.. إنه يوم عند اللّه، يأتى به متى شاء، لا كما يشاء أصحاب الأهواء، وأرباب الضلالات.. فإذا حانت ساعة هذا اليوم، جاء، دون أن يتقدم ساعة أو يتأخر، ودون أن يتأخروا هم ساعة عن شهوده، أو يستقدموا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}.
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وغيّر أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإِخبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفًا له بتوجيه هذا الإِخبار بالنعمة العظيمة إليه، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض.
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على منكريها من العرب وإثبات عمومها على منكريها من اليهود.
فإن {كافَّة} من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالًا من الناس مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} في سورة البقرة (208)، وعند قوله: {وقاتلوا المشركين كافة} في سورة براءة (36).