فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم.
قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول العرب: نهاره صائم وليله قائم.
وأنشد لجرير:
لقد لُمْتِنَا يا أمَّ غَيْلان في السُّرَى ** ونمِت وما ليلُ المَطِيّ بنائم

وأنشد سيبويه:
فنام ليلي وتجلّى همي

أي نمت فيه.
ونظيره: {والنهار مُبْصِرًا} [غافر: 61].
وقرأ قتادة: {بل مَكْرٌ الليلَ والنهارَ} بتنوين {مكر} ونصب {الليل والنهار} والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف.
وقرأ سعيد بن جبير {بَلْ مكَرُّ} بفتح الكاف وشدّ الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف.
ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دلّ عليه {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ} كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدّنا مكر الليلِ والنهار.
وروي عن سعيد بن جبير {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} قال: مرّ الليلُ والنهار عليهم فغفلوا.
وقيل: طول السلامة فيهما كقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} [الحديد: 16].
وقرأ راشد {بل مَكَرَّ الليل والنهار} بالنصب، كما تقول: رأيته مَقْدَمُ الحاج، وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدَمَ زيد، لم يجز؛ ذكره النحاس.
{إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} أي أشباهًا وأمثالًا ونظراء.
قال محمد بن يزيد: فلانٌ نِدُّ فلانٍ، أي مثله.
ويقال نَدِيد؛ وأنشد:
أينما تجعلون إليّ ندًّا ** وما أنتم لذي حسب نديد

وقد مضى هذا في البقرة.
{وَأَسَرُّواْ الندامة} أي أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء.
قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسًا وأهوال مَعْشرٍ ** علّي حراصا لو يُسِرّون مَقْتَلي

وروي يُشِرون، وقيل: {وَأَسَرّوا النَّدامَةَ} أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم.
قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولّد عنها، حسبما تقدّم بيانه في سورة يونس، وآل عمران.
وقيل: إظهارهم الندامة قولُهم: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 102].
وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها؛ كما قال: {وَأَسَرُّواْ النجوى} [طه: 62].
{وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} الأغلال جمع غُلَّ، يقال: في رقبته غُلّ من حديد.
ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غلٌّ قَمِل، وأصله أن الغُلّ كان يكون من قِدّ وعليه شعر فيَقْمَل.
وغَللتُ يده إلى عنقه؛ وقد غُلَّ فهو مغلول، يقال: مالَه أُلَّ وغُلَّ.
والغُلّ أيضًا والغُلّة: حرارة العطش، وكذلك الغليل؛ يقال منه: غُلَّ الرجلُ يُغَلَّ غَلَلًا فهو مغلول، على ما لم يسمَّ فاعله؛ عن الجوهري.
أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين.
قيل من غير هؤلاء الفريقين.
وقيل يرجع {الَّذِينَ كَفَرُوا} إليهم.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} ثم ابتدأ فقال: {وَجَعَلْنَا الأغلال} بعد ذلك في أعناق سائر الكفار.
{هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل: إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل: الذي بين يديه القيامة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} المنكرون للبعث {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي في موقفِ المحاسبة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ {يَقُولُ الذين استضعفوا} بدل من يرجع الخ أي يقول الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ {لَوْلاَ أَنتُمْ} أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} باتباع الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السُّؤال كأنَّه قيل: فماذا قال الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا: {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام {وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} إضرابًا على إضرابِهم وإبطالًا له {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعًا أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي. وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أنَّ التَّنوينَ عوضٌ عن المُضافِ إليه أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ. وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تمكرون الاغواء مكرًا دائبًا لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تمكرون الإغواء مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكرًا دائمًا قولُه تعالى: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قولِه تعالى: {لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكًا} فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٌ من الله تعالى وأيُّ نعمةٍ، وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم {وَجَعَلْنَا الاغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي في أعناقِهم. والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا يُجزون إلاَّ جزاء ما كانُوا يعملون أو إلاَّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ}.
وهم مشركو العرب {لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب القديمة كما روي عن قتادة والسدى وابن جريج، ومرادهم نفي الإيمان بجميع ما يدل على البعث من الكتب السماوية المتضمنة لذكل؛ ويروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته عليه الصلاة والسلام في كتبهم فأغضبهم ذلك فقالوا ما قالوا، وضعف بأنه ليس في السياق والسباق ما يدل عليه، وقيل الذي بين يديه القيامة.
وخطأ ابن عطية قائله بأن ما بين اليد في اللغة المتقدم.
وتعقب بأنه قد يراد به ما مضى وقد يراد به ما سيأتي.
نعم يضعف ذلك أن ما بين يدي الشيء يكون من جنسه لكن محصل كلامهم على هذا أنهم لم يؤمنوا بالقرآن ولا بما دل عليه، وأما ادعاء أن الأكثر كونه لما مضى فقد قيل أيضًا إنه غير مسلم، وحكى الطبرسي أن المراد بالذين كفروا اليهود وحينئذ يراد بما بين يديه الإنجيل، ولا يخفى أن هذا القول مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وليس في السباق والسياق ما يدل عليه {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه، ومفعول {تَرَى} إذ أو محذوف و {إِذْ} ظرف له أي أي حال الظالمين و {لَوْ} للتمني مصروفًا إلى غيره تعالى لا جواب لها أو هو مقدر أي لرأيت أمرًا فظيعًا أو نحوه، و {الظالمون} ظاهر وضع موضع الضمير للتسجيل وبيان علة استحقاقهم، والأصل ولو ترى إذ هم موقوفون عند ربهم أي في موقف المحاسبة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي يتحاورون ويتراجعون القول، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى: {يَقُولُ الذين استضعفوا} استئناف لبيان تلك المحاورة أو بدل من {يُرْجَعُ} الخ أي يقول الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} في الدنيا واستتبعوهم في الغي والضلال {لَوْلاَ أَنتُمْ} صددتمونا عن الهدى {لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
{قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا لما اعترض عليهم الأتباع ووبخوهم؟ فقيل قالوا: {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم أي لسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين الإيمان بعد إذ صممتم على الدخول فيه بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وأيثاركم الكفر على الإيمان.
ووقوع إذ مضافًا إليها الظرف شائع في كلامهم كوقوعها مضافة وذلك من باب الاتساع في الظروف لاسيما الزمانية، وبهذا يجاب عما قيل إن إذ من الظروف اللازمة للظرفية فكيف وقعت هاهنا مجرورة مضافًا إليها.
وقال صاحب الفرائد إن إذ هاهنا جردت عن معنى الظرفية وانسلخت عنه رأسًا وصيرت اسمًا صرفًا لأن المراد من وقت مجيء الهدى هو الهدى لا الوقت نفسه فلذا أضيف إليها.
{وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا}.
إضرابًا عن اضرابهم وإبطالًا له {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} أي بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعًا أو جعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي، وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن الإضافة على معنى في.
وتعقب بأنها مع أن المحققين لم يقولوا بها يفوت باعتبارها المبالغة، ويعلم مما أشرنا إليه أن {مَكَرَ} فاعل لفعل محذوف، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار أو مكر الليل والنهار سبب كفرنا.
وقرأ قتادة ويحيى ابن يعمر {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} بالتنوين ونصب الظرفين أي بل صدنا مكركم أو مكر عظيم في الليل والنهار.
وقرأ محمد بن جعفر وسعيد بن جبير وأبو رزين وابن يعمر أيضًا {مَكْرُ الليل والنهار} بفتح الميم والكاف وتشديد الراء والرفع مع الإضافة أي بل صدنا كرور الليل والنهار واختلافهما، وأرادوا على ما قيل الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله عز وجل.
وقرأ ابن جبير أيضًا وراشد القاري وطلحة كذلك إلا أنهم نصبوا {مَكَرَ} على الظرف أي بل صددتمونا مكر الليل والنهار أي في مكرهما أي دائمًا، وجوز أن يكون مفعولًا مطلقًا أي تكرون الإغراء مكرًا دائمًا لا تفترون عنه، وجوز صاحب اللوامح كونه ظرفًا لتأمروننا بعد.
وتعقبه أبو حيان بأنه وهم لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها، وقوله تعالى: {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} بدل من الليل والنهار أو تعليل للمكر، وجعله في الإرشاد ظرفًا له أي بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} على أن مكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر وأما أمور آخر مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك.
وجملة {قَالَ الذين استضعفوا} الخ عطف على جملة {يَقُولُ الذين استضعفوا} [سبأ: 31] الخ وإن تغايرتا مضيًا واستقبالًا.
ولما كان هذا القول رجوعًا منهم إلى الكلام دون قول المستكبرين {أنحن صددناكم} [سبأ: 32] فإنه ابتداء كلام وقع جوابًا للاعتراض عليهم جيء بالعاطف هاهنا ولم يجىء به هناك على ما اختاره بعضهم، وقيل: إن النكتة في ذلك أنه لما حكى قول المستضعفين بعد قوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} [سبأ: 13] كان مظنة إن يقال: فماذا قال الذين استكبروا للذين استضعفوا وهل كان بين الفريقين تراجع؟ فقيل: قال الذين استكبروا كذا، وقال الذين استضعفوا كذا فأخرج محموع القولين مخرج الجواب وعطف بعض الجواب على بعض فتدبر، والانداد جمع ند هو شائع فيمن يدعى أنه شريك مطلقًا لكن ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره الجاري فيه على مسلك المفسرين إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وبخطه الشريف النوراني رأيته أنه مخصوص بمن يدعي الألوهية كفرعون وإضرابه لأن بذلك ندعن الله تعالى وشرد عن رحمته سبحانه، وقال الشيخ: لأنه شرد عن العبودية له جل شأنه {وَأَسَرُّواْ} أي أضمر الظالمون من الفريقين المستكبرين والمستضعفين {الندامة} على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال نظرًا للمستكبرين ومن الضلال فقط نظرا للمستضعفين، والقول بحصول ندامتهم على الاضلال أيضًا باعتبار قبوله تكلف، ولم يظهروا ما يدل عليها من المحاورة وغيرها {لَمَّا رَأَوُاْ} لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق واشتغلوا عن إظهارها بشغل شاغل، وقيل: اخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، وتعقب بأنه كيف يتأتى هذا مع قول المستضعفين لرؤساهم لولا أنتم لكنا مؤمنين وأي ندامة أشد من هذا، وأيضًا مخافة التعيير في ذلك المقام بعيدة، وقيل: أسروا الندامة بمعنى اظهروها فإن اسر من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب فمعنى أسره جعله سرًا أو إزال سره ونظيره أشكيت؛ وأنشد الزمخشري لنفسه:
شكوت إلى الإيام سوء صنيعها ** ومن عجب باك فشكى إلى المبكي

فما زادت الأيام إلا شكاية ** وما زالت الأيام نشكى ولا تشكي

وتعقب ابن عطية هذا القول بأنه لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد، وأنت تعلم أن المثبت مقدم على النافي فلا تغفل.
{وَجَعَلْنَا} أي القيود {الاغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} وهم المستكبرون والمستضعفون والأصل في أعناقهم إلا أنه أظهر في مقام الإضماء للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب اغلالهم، واستظهر أبو حيان عموم الموصول فيدخل فيه الفريقان المذكوران وغيرهم لأن من الكفار من لا يكون له اتباع تراجعه القول في الآخرة ولا يكون هو تبابعًا لرئيس له كالغلام الذي قتله الخضر عليه السلام {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا يجوزون إلا مثل الذي كانوا يعملونه من الشر، وحاصله لا يجزون إلا شرا، وجزي قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يشير إليه قول الراغب يقال جزيته كذا وبكذا، وجوز كون ما في محل النصب بنزع الخافض وهو إما الباء أو عن أو على فإنه رود تعدية جزي بها جميعًا، وقيل: إن هذا التعدي لتضمينه معنى القضاء ومتى صح ما سمعت عن الراغب لم يحتج إلى هذا. اهـ.