فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و {كافة} اسم فاعل من كف، وقيل: مصدر كالعاقبة والعافية، فيكون على حذف مضاف، أي إلا ذا كافة، أي ذا كف للناس، أي منع لهم من الكفر، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك.
وإذا كان اسم فاعل، فقال الزجاج وغيره: هو حال من الكاف في {أرسلناك} والمعنى: إلا جامعًا للناس في الإبلاغ، والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة، كهي في علامة وراوية.
وقال الزمخشري: إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال: ومن جعله حالًا من المجرور متقدمًا عليه فقد أخطأ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني، فلابد من ارتكاب الخطأين. انتهى.
أما كافة بمعنى عامة، فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالًا، ولم يتصرف فيها بغير ذلك، فجعلها صفة لمصدر محذوف، خروج عما نقلوا، ولا يحفظ أيضًا استعماله صفة لموصوف محذوف.
وأما قول الزجاج: إن كافة بمعنى جامعًا، والهاء فيه للمبالغة، فإن اللغة لا تساعد على ذلك، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع.
وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالًا إلى آخره، فذلك مختلف فيه.
ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز، وهو الصحيح.
ومن أمثلة أبي علي زيد: خير ما يكون خير منك، التقدير: زيد خير منك خير ما يكون، فجعل ما يكون حالًا من الكاف في منك، وقدمها عليه، قال الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ** فمطلبها كهلًا عليه شديد

وقال آخر:
تسليت طرًا عنكم بعد بينكم ** بذكركم حتى كأنكم عندي

أي: تسليت عنكم طرًا، أي جميعًا.
وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قول الشاعر:
مشغوفة بك قد شغفت وإنما ** حتم الفراق فما إليك سبيل

وقال الآخر:
غافلًا تعرض المنية للمر ** ء فيدعى ولات حين إباء

أي: شغفت بك مشغوفة، وتعرض المنية للمرء غافلًا.
وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل، فتقديمها عليه دون العامل أجوز، وعلى أن كافة حال من الناس، حمله ابن عطية وقال: قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وتقدير إلى الناس كافة. انتهى.
وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ، إلى آخر كلامه، شنيع؟ لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى، لأن أرسل يتعدى بإلى ويتعدى باللام، كقوله: {وأرسلناك للناس رسولًا} ولو تأول اللام بمعنى إلى، لم يكن ذلك خطأ، لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى، وإلى قد جاءت بمعنى اللام، وأرسل مما جاء متعديًا بهما إلى المجرور.
ثم حكى تعالى مقالتهم في الاستهزاء بالبعث، واستعالجهم على سبيل التكذيب، ولم يجابوا بتعيين الزمان، إذ ذاك مما انفرد تعالى بعلمه، بل أجيبوا بأن ما وعدوا به لابد من وقوعه، وهو ميعاد يوم القيامة، وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة، ويجوز أن يكون سؤالهم عما وعدوا به من العذاب في الدنيا واستعجلوا به استهزاء منهم.
وقال أبو عبيد: الوعد والوعيد والميعاد بمعنى.
وقال الجمهور: الوعد في الخير، والوعيد في الشر، والميعاد يقع لهذا.
والظاهر أن الميعاد اسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه.
وقال الزمخشري: الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان، وهو هاهنا الزمان، والدليل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم. انتهى.
ولا يتعين ما قال، إذ يكون بدلًا على تقدير محذوف، أي قل لكم ميعاد يوم، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه.
وقرأ الجمهور: {ميعاد يوم} بالإضافة.
ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال: أما الإضافة فإضافته تبيين، كما تقول: سحق ثوب وبعير سانية.
وقرأ ابن أبي عبلة، واليزيدي: ميعاد يومًا بتنوينهما.
قال الزمخشري: وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد، أعني يومًا، وأريد يومًا من صفته، أعني كيت وكيت، ويجوز أن يكون انتصابه على حذف مضاف، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم. انتهى.
لما جعل الميعاد ظرف زمان، خرج الرفع والنصب على ذلك، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت.
وقرأ عيسى: ميعاد منونًا، ويوم بالنصب من غير تنوين مضافًا إلى الجملة، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم، واحتمل تخريجًا على الظرف على حذف مضاف، أي إنجاز وعد يوم كذا.
وجاء هذا الجواب على طريق التهديد مطابقًا لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون بيوم القيامة، يفاجئهم فلا يستطيعون تأخرًا عنه ولا تقدمًا عليه.
واليوم: يوم القيامة، وهو السابق إلى الذهن، أو يوم مجيء أجلهم عند حضور منيتهم، أو يوم بدر، أقوال.
و {لن نؤمن بهذا القرآن} يديه يعني الذي تضمن التوحيد والرسالة والبعث المتقدم ذكرها فيه.
{ولا بالذي بين يديه} هو ما نزل من كتب الله المبشرة برسول الله.
يروي أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب، فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتبهم، وأغضبهم ذلك، وقرنوا إلى القرآن ما تقدم من كتب الله في الكفر، ويكون {الذين كفروا} مشركي قريش ومن جرى مجراهم.
والمشهور أن {الذين بين يديه} التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب، وهو مروي عن ابن جريج.
وقالت فرقة: {الذي بين يديه} هي القيامة، قال ابن عطية: وهذا خطأ، قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة، وأنه المتقدم في الزمان، وقد بيناه فيما تقدم. انتهى.
{ولو ترى إذ الظالمون} أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها، وترى في معنى رأيت لإعمالها في الظرف الماضي، ومفعول ترى محذوف، أي حال الظالمين، إذ هم {موقوفون}.
وجواب لو محذوف، أي لرأيت لهم حالًا منكرة من ذلهم وتخاذلهم وتحاورهم، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك.
ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الأتباع، وهم الذين استضعفوا، قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر.
وأتى الضمير بعد لولا ضمير رفع على الأفصح.
وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو: لولاكم، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه.
ولما كان مقامًا، استوى فيه المرءوس والرئيس.
بدأ الأتباع بتوبيخ مضليهم، إذ زالت عنهم رئاستهم، ولم يمكنهم أن ينكروا أنهم ما جاءهم رسول، بل هم مقرون.
ألا ترى إلى قول المتبوعين: {بعد إذ جاءكم}؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم، فقال لهم رؤساؤهم: {أنحن صددناكم} فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكارًا، لأن يكونوا هم الذين صدوهم.
صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام، كأنهم قالوا: نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم، لا لقولنا وتسويلنا.
ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم، وأثبتوا بقولهم: {بل كنتم مجرمين} أن كفرهم هو من قبل أنفسهم، قابلوا إضرابًا بإضراب، فقال الأتباع: {بل مكر الليل والنهار} أي ما كان إجرامنا من جهتنا، بل مكركم لنا دائمًا ومخادعتكم لنا ليلًا ونهارًا، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد.
وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي، كما قالوا: ليل نائم، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار، ونظيره قول القائل: أنا ضربت زيدًا بل ضربه عمرو، فيقول: بل ضربه غلامك، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى: ضربه غلامك.
وقيل: يجوز أن يكون مبتدأ وخبرًا، أي سبب كفرنا.
وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر: بل مكر بالتنوين، الليل والنهار نصب على الظرف.
وقرأ سعيد بن جبير بن محمد، وأبو رزين، وابن يعمر أيضًا: بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة، ومعناه: كدور الليل والنهار واختلافهما، ومعناها: الإحالة على طول الأمل، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله.
وقرأ ابن جبير أيضًا، وطلحة، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج: كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر، أي صددتمونا مكر الليل والنهار، أي في مكرهما، ومعناه دائمًا.
وقال صاحب اللوامح: يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى.
وهذا وهم، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها.
وقال الزمخشري: بل يكون الإغراء مكرًا دائمًا لا يفترون عنه. انتهى.
وجاء {قال الذين استكبروا} بغير واو، لأنه جواب لكلام المستضعفين، فاستؤنف، وعطف {وقال الذين استضعفوا} على ما سبق من كلامهم، والضمير في {وأسروا} للجميع المستكبرين والمستضعفين، وهم {الظالمون الموقوفون} وتقدم الكلام في {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} في سورة يونس، والندامة من المعاني القلبية، فلا تظهر، إنما يظهر ما يدل عليها، وما يدل عليها غيرها، وقيل: هو من الأضداد.
وقال ابن عطية: هذا لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وندامة الذين استكبروا على ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم وندامة الذين استضعفوا على ضلالهم وأتباعهم المضلين.
{وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا} والظاهر عموم الذين كفروا، فيدخل فيه المستكبرون والمتسضعفون، لأن من الكفار من لا يكون له اتباع مراجعة القول في الآخرة، ولا يكون أيضًا تابعًا لرئيس له كافر، كالغلام الذي قتله الخضر.
وقيل: {الذين كفروا} هم الذين سبقت منهم المحاورة، وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا التندم.
{هل يجزون} معناه النفي، ولذلك دخلت إلا بعد النفي. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)}.
في انتصاب {كَافَّةً} وجوه، فقيل: إنه منتصب على الحال من الكاف في {أرسلناك} قال الزجاج أي: وما أرسلناك إلاّ جامعًا للناس بالإنذار، والإبلاغ، والكافة بمعنى: الجامع، والهاء فيه للمبالغة كعلامة.
قال أبو حيان: أما قول الزجاج: إن كافّة بمعنى: جامعًا، والهاء فيه للمبالغة، فإن اللغة لا تساعد عليه؛ لأن كفّ ليس معناه: جمع، بل معناه: منع.
يقال: كف يكف، أي: منع يمنع.
والمعنى: إلاّ مانعًا لهم من الكفر، ومنه الكفّ؛ لأنها تمنع من خروج ما فيه.
وقيل: إنه منتصب على المصدرية، والهاء للمبالغة كالعاقبة، والعافية، والمراد: أنها صفة مصدر محذوف، أي: إلاّ رسالة كافّة.
وقيل: إنه حال من الناس، والتقدير: وما أرسلناك إلاّ للناس كافّة، وردّ بأنه لا يتقدّم الحال من المجرور عليه كما هو مقرّر في علم الإعراب.
ويجاب عنه بأنه قد جوّز ذلك أبو عليّ الفارسيّ، وابن كيسان، وابن برهان، ومنه قول الشاعر:
إذا المرء أعيته السيادة ناشئا ** فمطلبها كهلًا عليه عسير

وقول الآخر:
تسليت طرًّا عنكم بعد بينكم ** بذكراكم حتى كأنكم عندي

وقول الآخر:
غافلًا تعرض المنية للمر ** ء فيدعى ولات حين إباء

وممن رجح كونها حالًا من المجرور بعدها ابن عطية، وقال: قدمت للاهتمام، والتقوّي.
وقيل: المعنى: إلاّ ذا كافّة، أي: ذا منع، فحذف المضاف.
قيل: واللام: في {لِلنَّاسِ} بمعنى إلى، أي: وما أرسلناك إلى الناس إلاّ جامعًا لهم بالإنذار، والإبلاغ، أو مانعًا لهم من الكفر، والمعاصي، وانتصاب {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} على الحال، أي مبشرًا لهم بالجنة، ومنذرًا لهم من النار {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ما عند الله، وما لهم من النفع في إرسال الرسل.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي: متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به، وهو: قيام الساعة أخبرونا به إن كنتم صادقين.
قالوا: هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم، فقال: {قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} أي: ميقات يوم، وهو: يوم البعث.
وقيل: وقت حضور الموت.
وقيل: أراد يوم بدر؛ لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا، وعلى كل تقدير، فهذه الإضافة للبيان، ويجوز في ميعاد: أن يكون مصدرًا مرادًا به الوعد، وأن يكون اسم زمان.
قال أبو عبيدة: الوعد، والوعيد، والميعاد بمعنى.
وقرأ ابن أبي عبلة بتنوين: {ميعاد} ورفعه، ونصب: {يوم} على أن يكون ميعاد مبتدأ، ويومًا ظرف، والخبر لكم.
وقرأ عيسى بن عمر برفع: {ميعاد} منوّنًا، ونصب: {يوم} مضافًا إلى الجملة بعده.
وأجاز النحويون: {ميعاد يوم} برفعهما منوّنين على أن ميعاد مبتدأ، ويوم بدل منه، وجملة: {لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} صفة لميعاد، أي: هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه، ولا تتقدّمون عليه، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدّر الله وقوعه فيه.