فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} قال قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا} أي فُضّلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيًا بما نحن عليه من الدِّين والفضل لم يخوّلنا ذلك.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لأن من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أي يوسعه {وَيَقْدِرُ} أي يقتّر، أي إن الله هو الذي يفاضل بين عباده في الأرزاق امتحانًا لهم، فلا يدلّ شيء من ذلك على ما في العواقب، فسَعَة الرزق في الدنيا لا تدلّ على سعادة الآخرة، فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغني عنكم غدًا شيئًا.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} هذا لأنهم لا يتأملون.
ثم قال تأكيدًا: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} قال مجاهد: أي قُرْبى.
والزُّلْفة القربة.
وقال الأخفش: أي إزلافًا، وهو اسم المصدر، فيكون موضع قُرْبَى نصبًا، كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبًا.
وزعم الفراء أن {التي} تكون للأموال والأولاد جميعًا.
وله قول آخر وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأوّل لدلالة الثاني عليه وأنشد الفراء:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راضٍ والرأيُ مختلِفُ

ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللَّذَين وبالّذين؛ للأولاد خاصة، أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقرّبكم تقريبًا.
{إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من آمن وعمل صالحًا فلن يضره مالُه وولدُه في الدنيا.
وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، وجنّبني المالَ والولد، فإني سمعت فيما أوْحيتَ {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}.
قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنّبني المال والولد المطْغِيَيْن أو اللذين لا خير فيهما؛ فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح فنِعم هذا وقد مضى هذا في آل عمران ومريم، والفرقان.
ومَن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي لكن من آمن وعمل صالحًا فإيمانه وعمله يقرِّبانه مني.
وزعم الزجاج أنه في موضع نصب بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في {تقرّبكم}.
النحاس: وهذا القول غلط؛ لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدًا.
وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء، إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قوله يئول إلى ذلك، وزعم أن مثله {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] يكون منصوبًا عنده ب {ينفع}.
وأجاز الفراء أن يكون مَن في موضع رفع بمعنى: ما هو إلا من آمن، كذا قال، ولست أحصِّل معناه.
{فأولئك لَهُمْ جَزَاء الضعف بِمَا عَمِلُواْ} يعني قوله: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.
وقيل: لهم جزاء الأضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الأولى.
أي لهم الجزاء المضعّف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة.
وبهذه الآية استدلّ من فضّل الغنى على الفقر.
وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنِيًّا تقيًّا آتاه الله أجره مرتين بهذه الآية.
{وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} قراءة العامة {جَزَاء الضِّعْفِ} بالإضافة.
وقرأ الزهرِي ويعقوب ونصر بن عاصم {جزاء} منوّنًا منصوبًا {الضعفُ} رفعًا؛ أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على التقديم والتأخير.
{وَجَزَاء الضِّعْفِ} على أن يجازوا الضعف.
و {جزاء الضعفُ} مرفوعان، الضعفُ بدل من جزاء.
وقرأ الجمهور أيضًا {في الْغُرُفَات} على الجمع، وهو اختيار أبي عبيد؛ لقوله: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفًَا} [العنكبوت: 58].
الزمخشري: وقرىء {فِي الغرفاتِ} بضم الراء وفتحها وسكونها.
وقرأ الأعمش ويحيى بن وَثّاب وحمزة وخلف {في الغرفة} على التوحيد؛ لقوله تعالى: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75].
والغرفة قد يراد بها اسم الجمع واسم الجنس.
قال ابن عباس: هي غرف من ياقوت وزبرجد ودُرّ.
وقد مضى بيان ذلك.
{آمِنُونَ} أي من العذاب والموت والأسقام والأحزان.
{والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا} في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا.
{مُعَاجِزِينَ} معانِدين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم.
{أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ} أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ} من القُرى {مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} تسليةً لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم: {أي الفريقين خيرٌ مقامًا وأحسنُ نَديًَّا} بأنَّه لم يُرسلْ قط إلى أهل قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكَّةَ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وكادُوا به نحوَ ما كادُوا به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لمَا رَزَقهم طييِّاتِ الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم.
{وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} إمَّا بناء على انتفاء العذابِ الأُخرويِّ رأسًا أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها {قُلْ} رَدًَّا عليهم وحسمًا لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقًا للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين {إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {وَيَقْدِرُ} على مَن يشاء أنْ يقدرَه عليه من غيرِ أنْ يكونَ لأحدِ الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معًا وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلًا من ذلك حسبما تقتضيهِ مشيئته المبنيّة على الحِكَمِ البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقُرىء ويُقدِّر بالتَّشديدِ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيرًا ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاء ورفعِ الدَّرجاتِ {وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم. وقُرىء بالذَّي أيْ بالشِّيءِ الذَّي {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} استثناء من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحدًا إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل: من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلاَّ أموالَ من الخ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَن والجمعُ باعتبارِ معناها كما أنَّ الإفرادَ في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها، وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمشارِ إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {لَهُمْ جَزَاء الضعف} أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاء إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضِّعفَ ثم جزاء الضِّعفِ ثمَّ جزاء الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشرًا فما فوقَها وقُرىء جزاء الضِّعفُ أي فأولئك لهم الضِّعفُ جزاء وجزاء الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاء الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاء {بِمَا عَمِلُواْ} من الصَّالحاتِ {وَهُمْ في الغرفات} أي غرفات الجنَّة {ءامِنُونَ} من جميع المكارِه.
وقُرىء بفتح الرَّاء وسكونِها. وقُرىء في الغُرفةِ على إرادةِ الجنسِ.
{والذين يَسْعَوْنَ في ءاياتنا} بالردِّ والطَّعنِ فيها {معاجزين} سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا {أُوْلَئِكَ في العذاب مُحْضَرُونَ} لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعًا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ} من القرى {مّن نَّذِيرٍ} أي نذيرًا من النذر {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي المتوسعون في النعم فيها، والجملة في موضع الحال {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} بزعمكم من التوحيد وغيره، والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى: {كافرون} وهو خبر إن، وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم، وقيل: لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على اتباعه المؤمنين به.
وقال بعض الأجلة: الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى: {أُرْسِلْتُمْ} والثاني {كافرون} فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم، وقيل: الجمع الأول {نَّذِيرٍ} لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي، وليس كل قوم منكرًا لجميع الرسل فحمل على المقابلة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ابتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم لع عليه الصلاة والسلام، وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر إتباع الأنبياء عليهم السلام كما جاء في حديث هرقل.
{وَقَالُواْ} الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: لقريش، والظاهر المتبادر هو الأول، والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون:
{نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا} أي أموالنا وأولادنا كثيرة جدًا فأفعل للزيادة المطلقة، وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر استعمالًا والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالًا وأولادًا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك، وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك، وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على الله عز وجل ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفًا لرضاه لما كنا فيما كنا فيه من النعمة، ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة، وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا: نفى كونهم معذبين إما بناء على انتفاء العذاب الأخروي رأسًا وإما بناء على اعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها، وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي: إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون استهانة بهم لظنهم أن المال والولد يدفع العذاب عنهم كما قاله بعض المشركين، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب عنهم كما قاله بعض المشركين، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم، ولعل ما ذكرناه أولًا أنسب بالمقام فتأمل جدًا.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}.
{قُلْ} ردًا لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا {إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أن يبسطه له {وَيَقْدِرُ} على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معًا وقد يضيق عليهما معًا وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل كلًا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لاختص به المطيع وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لاختص به العاصي وليس فليس، والحاصل كما قيل منع كون ذلك دليلًا على ما زعموا لاستواء المعادي والموالي فيه، وقال جمع: أريد أنه تعالى يفعل ذلك حسب مشيئته المبنية على الحكم فلا ينقاس عليه أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وقال ناصر الدين: لو كان ذلك لكرامة أو هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته تعالى، وهو مبني على أن الإيجاب ينافي الاختيار والميئة وقد قال به الخفاجي أخذًا من كلام مولانا جلال الدين ورد به على من رد، ولا يخفى أن دعوى المترفين الإيجاب على الله تعالى فيما هم فيه من بسط الرزق وكذا فيما فيه أعداؤهم من تضييقه غير ظاهرة حتى يرد عليهم بإثبات الميئة التي لا تجامع الإيجاب، وقرأ الأعمش {وَيَقْدِرُ} مشدد هنا وفيما بعد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرق والكرامة ومدار التضييق الهوان والحقارة، ومنهم من تحير واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ** وجاهل جاهل تلقاه مرزوقًا

هذا الذي ترى الأفهام حائرة ** وصير العالم النحرير زنديقا

وعنى هذا القائل بالعالم النحرير نفسه، ولعمري أنه بوصف الجاهل البليد أحق منه بهذا الوصف فالعالم النحرير من يقول:
ومن الدليل على القضاء وحكمه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

{وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى}.
كلام مستأنف من جهته عز وجل خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق كذا في إرشاد العقل السليم، وجوز أن يكون ما تقدم لنفي أن يكون القرب والكرامة مدارًا وعلة لكثرة الرزق وهذا النفي أن تكون كثرة الرزق سببًا للقرب والكرامة ويكون الخطاب للكفرة، والتي واقع على الأموال والأولاد، وحيث أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث وكان المجموع بمعنى جماعة صح الأفراد والتأنيث أي وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التي تقربكم عندنا قربة، ولا حاجة إلى تقدير مضاف في النظم الكريم، وما ذكر تقدير معنى لا إعراب، وعن الزجاج أن في الكلام حذفًا في أوله لدلالة ما في آخره والتقدير وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي الخ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إليه أيضًا، وجوز أن تكون التي صفة لموصوف مفرد مؤنث تقديره بالتقوى أو بالخصلة التي، وجوز الزمخشري أن تكون التي كناية عن التقوى لأن المقرب إلى الله تعالى ليس إلا تلك أي وما أموالكم ولا أولادكم بتلك الموضوعة للتقريب.