فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ}.
أتبع إبطال أن تكون الأموال والأولاد بذاتهما وسيلة قرب لدى الله تعالى ردًّا على مزاعم المشركين بما يشبه معنى الاستدراك على ذلك الإِبطال من إثبات انتفاع بالمال للتقرب إلى رضَى الله إن استعمل في طلب مرضاة الله تفضيلًا لما أشير إليه إجمالًا من أن ذلك قد يكون فيه قربة إلى الله بقوله: {إلا من آمن وعمل صالحًا} [سبأ: 37] كما تقدم.
وقوله: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} تقدم نظيره قريبًا تأكيدًا لذلك وليبنَى عليه قوله: {وما أنفقتم من شيء} الآية.
فالذي تقدم ردٌّ على المشركين، والمذكور هنا ترغيب للمؤمنين، والعبارات واحدة والمقاصد مختلفة.
وهذا من وجوه الإِعجاز أن يكون الكلام الواحد صالحًا لغرضين وأن يتوجه إلى طائفتين.
ولما كان هذا الثاني موجهًا إلى المؤمنين أشير إلى تشريفهم بزيادة قوله: {من عباده} أي المؤمنين، وضمير {له} عائد إلى {من} أي ويقدر لمن يشاء من عباده.
ومفعول {يقدر} محذوف دلّ عليه مفعول {يبسط}.
وكان ما تقدم حديثًا عن بسط الرزق لغير المؤمنين فلم ينعموا بوصف {من عباده} لأن في الإِضافة تشريفًا للمؤمنين، وفي هذا امتنان على الذين يبسط عليهم الرزق بأن جمع الله لهم فضل الإِيمان وفضل سعة الرزق، وتسلية للذين قدر عليهم رزقهم بأنهم نالوا فضل الإِيمان وفضل الصبر على ضيق الحياة.
وفي تعليق {له} ب {يقْدر} إيماء إلى أن ذلك القَدْر لا يخلو من فائدة للمقدور عليه رزقُه، وهي فائدة الثواب على الرضى من قسم له والسلامة من الحساب عليه يوم القيامة.
وفي الحديث «ما من مصيبة تصيب المؤمن إلا كُفِّر بها عنه حتى الشوكةُ يُشاكُها».
ولولا هذا الإِيماء لقيل: ويقدر عليه، كما قال: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللَّه} [الطلاق: 7].
وأما حال الكافرين فإنهم ينعم على بعضهم برزق يحاسبون عليه أشد الحساب يوم القيامة إذ لم يشكروا رازقهم، ويُقدر على بعضهم فلا يناله إلا الشقاء.
وهذا توطئة لقوله: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} حثًا على الإِنفاق.
والمراد الإِنفاق فيما أذن فيه الشرع.
وهذا تعليم للمسلمين بأن نعيم الآخرة لا ينافي نعيم الدنيا، قال تعالى: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا} [البقرة: 201، 202].
فأما نعيم الدنيا فهو مسبب عن أحوال دنيوية رتبها الله تعالى ويسّرها لمن يسّرها في علمه بغيبه، وأما نعيم الآخرة فهو مسبب عن أعمال مبينة في الشريعة وكثير من الصالحين يحصل لهم النعيم في الدنيا مع العلم بأنهم منعَّمون في الآخرة كما أنعم على داود وسليمان وعلى كثير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكثير من أئمة الدين مثل مالك بن أنس والشافعي والشيخ عبد الله بن أبي زيد وسحنون.
فأما اختيار الله لنبيئه محمد صلى الله عليه وسلم حالة الزهادة في الدنيا فلتحصل له غايات الكمال من التمحّض لتلقي الوحي وجميل الخصال ومن مساواة جمهور أصحابه في أحوالهم، وقد بسطناه بيانًا في رسالة طعام رسول الله عليه السلام.
وأعقب ذلك بترغيب الأغنياء في الإِنفاق في سبيل الله فجعل الوعد بإخلاف ما ينفقه المرء كناية عن الترغيب في الإِنفاق لأن وعد الله بإِخلافه معَ تأكيد الوعد يقتضي أنه يحب ذلك من المنفقين.
وأكد ذلك الوعد بصيغة الشرط وبجعل جملة الجواب اسمية وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بقوله: {فهو يخلفه} ففي هذا الوعد ثلاثة مؤكدات دالة على مزيد العناية بتحقيقه لينتقل من ذلك إلى الكناية عن كونه مرغوبه تعالى.
و {من شيء} بيان لما في {ما} من العموم، وجملة {وهو خير الرازقين} تذييل للترغيب والوعد بزيادة، لبيان أن ما يخلفه أفضل مما أنفقه المنفق.
{خير} بمعنى أخير لأن الرزق الواصل من غيره تعالى إنما هو من فضله أجراه على يد بعض مخلوقاته فإذا كان تيسيره برضى من الله على المرزوق ووعد به كان ذلك أخلق بالبركة والدوام، وظاهر الآية أن إخلاف الرزق يقع في الدنيا وفي الآخرة.
والمراد بالإِنفاق: الإِنفاق المرغب فيه في الدين كالإِنفاق على الفقراء والإِنفاق في سبيل الله بنصر الدين.
رَوى مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: يا بن آدم أَنفق أُنفق عليك».
قال ابن العربي: قد يعوّض مثله أو أزيد، وقد يعوض ثوابًا، وقد يدخر له وهو كالدعاء في وعد الإِجابة. اهـ.
قلت: وقد يعوّض صحة وقد يعوّض تعميرًا.
ولله في خلقه أسرار.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}.
عطف على جملة {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم} [سبأ: 31] الآية استكمالًا لتصوير فظاعة حالهم يوم الوعد الذي أنكروه تبعًا لما وصف من حال مراجعة المستكبرين منهم والمستضعفين؛ فوصف هنا افتضاحهم بتبرؤ الملائكة منهم وشهادتهم عليهم بأنهم يعبدون الجن.
وضمير الغيبة من {نحشرهم} عائد إلى ما عاد عليه ضمير {وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا} [سبأ: 35] الذي هو عائد إلى {الذين كفروا} من قوله: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن} [سبأ: 31].
والكلام كله منتظم في أحوال المشركين، وجميع: فعيل بمعنى مفعول، أي مجموع وكثر استعماله وصفًا لإِفادة شمول أفراد ما أجري هو عليه من ذوات وأحوال، أي يجمعهم المتكلم، قال لبيد:
عريت وكان بها الجميعُ فأبكروا ** منها وغودر نُؤيها وثُمامها

وتقدم عند قوله تعالى: {فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون} في سورة هود (55).
فلفظ {جميعًا} يعم أصناف المشركين على اختلاف نحلهم واعتقادهم في شركهم فقد كان مشركو العرب نِحَلا شتّى يأخذ بعضهم من بعض وما كانوا يحققون مذهبًا منتظم العقائد والأقوال غير مخلوط بما ينافي بعضه بعضًا.
والمقصد من هذه الآية إبطال قولهم في الملائكة إنهم بنات الله، وقولهم: {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} كما في سورة الزخرف (20).
وكانوا يخلطون بين الملائكة والجن ويجعلون بينهم نسبًا، فكانوا يقولون: الملائكة بنات الله من سَروات الجن.
وقد كان حَيّ من خزاعة يقال لهم: بنو مُليح، بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية، يعبدون الجن والملائكة، والاقتصار على تقرير الملائكة واستشهادهم على المشركين لأن إبطال إلهية الملائكة يفيد إبطال إلهية ما هو دونها ممن أُعيد من دون الله بدلالة الفحوى، أي بطريق الأولى فإن ذلك التقرير من أهم ما جعل الحشر لأجله.
وتوجيه الخطاب إلى الملائكة بهذا الاستفهام مستعمل في التعريض بالمشركين على طريقة المَثل إياك أعنِي واسمَعِي يا جارة.
والإِشارة بهؤلاء إلى فريق كانوا عبدوا الملائكة والجن ومن شايعهم على أقوالهم من بقية المشركين.
وتقديم المفعول على {يعبدون} للاهتمام والرعاية على الفاصلة.
وحكي قول الملائكة بدون عاطف لوقوعه في المحاورة كما تقدم غير مرة ولذلك جيء فيه بصيغة الماضي لأن ذلك هو الغالب في الحكاية.
وجواب الملائكة يتضمن إقرارًا مع التنزه عن لفظ كونهم معبودين كما يتنزه من يَحكي كفر أحد فيقول قال: هُو مشرك بالله، وإنما القائل قال: أنا مشرك بالله.
فمورد التنزيه في قول الملائكة {سبحانك} هو أن يكون غير الله مستحقًا أن يعبد، مع لازم الفائدة وهو أنهم يعلمون ذلك فلا يضرون بأن يكونوا مَعبودين.
والولي: الناصر والحَليف والصديق، مشتق من الوَلْي مصدر وَلِيَ بوزن عَلِم.
وكلٌّ من فاعل الوَلْي ومفعوله وليّ لأن الوَلاية نسبة تستدعي طرفين ولذلك كان الولي فعيلًا صالحًا لمعنى فاعل ولمعنى مفعول.
فيقع اسم الولِيّ على المُوالِي بكسر اللام وعلى المُوالَى بفتحها وقد ورد بالمعنيين في القرآن وكلام العرب كثيرًا.
فمعنى {أنت ولينا} لا نوالي غيرك، أي لا نرضى به وليًّا، والعبادةُ ولاية بين العابد والمعبود، ورضَى المعبود بعبادة عابده إياه ولايةٌ بين المعبود وعابده، فقول الملائكة {سبحانك} تبرؤ من الرضى بأن يعبدهم المشركون لأن الملائكة لما جعلوا أنفسهم موالين لله فقد كذبوا المشركين الذين زعموا لهم الإِلهية، لأن العابد لا يكون معبودًا.
وقد تقدم الكلام على لفظ ولي عند قوله تعالى: {قل أغير اللَّه أتخذ وليًا} في سورة الأنعام (14) وفي آخر سورة الرعد.
ومِن زائدة للتوكيد ودون اسم لمعنى غير، أي أنت ولينا وهم ليسوا أولياء لنا ولا نرضى بهم لكفرهم ف {من دونهم} تأكيد لما أفادته جملة {أنت ولينا} من الحَصر لتعريف الجزأين.
و {بل} للإِضراب الانتقالي انتقالًا من التبرؤ منهم إلى الشهادة عليهم وعلى الذين سَوّلوا لهم عبادة غير الله تعالى، وليس إضراب إبطال لأن المشركين المتحدث عنهم كانوا يعبدون الملائكة، والمعنى: بل كان أكثر هؤلاء يعبدون الجن وكان الجنّ راضين بعبادتهم إياهم.
وحاصل المعنى: أنا منكرون عبادتهم إيانًا ولم نأمرهم بها ولكن الجن سوّلت لهم عبادة غير الله فعبدوا الجن وعبدوا الملائكة.
وجملة {أكثرهم} للمشركين وضمير {بهم} للجن، والمقام يردّ كل ضمير إلى معاده ولو تماثلت الضمائر كما في قول عباس بن مرداس يوم حنين:
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمَّعوا

أي أحرز جَمْع المشركين ما جَمَّعه المسلمون من مغانم.
وقرأ الجمهور {نحشرهم} و {نقول} بنون العظمة.
وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب فيهما، والضمير عائد إلى {ربي} من قوله: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} [سبأ: 39].
{فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}.
{بِهِم مُّؤْمِنُونَ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ}.
الأظهر أن هذا من خطاب الله تعالى المشركين والجنَّ.
والفاء فصيحة ناشئة عن المقاولة السابقة.
وهي كلام موجه من جانب الله تعالى إلى الملائكة والمقصود به: التعريض بضلال الذين عبدوا الملائكة والجن لأن الملائكة يعلمون مضمون هذا الخبر فلا نقصد إفادتهم به.
والمعنى: إذ علمتم أنكم عبدتم الجن فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعًا ولا ضرًا.
ويجوز أن يكون من خطاب الملائكة للفريقين بعد أداء الشهادة عليهم توبيخًا لهم وإظهارًا للغضب عليهم تحقيقًا للتبرؤ منهم، والفاء أيضًا فصيحة وهي ظاهرة.
وقُدم الظرف على عامله لأن النفع والضر يومئذٍ قد اختص صغيرهما وكبيرهما بالله تعالى خلاف ما كان في الدنيا من نفع الجن عُبَّادهم ببعض المنافع الدنيوية ونفع المشركين الجن بخدمة وساوسهم وتنفيذ أغراضهم من الفتنة والإِضلال، وكذلك الضر في الدنيا أيضًا.
والمِلك هنا بمعنى: القدرة، أي لا يقدر بعضكم على نصر أو نفع بعض.
وتقدم عند قوله تعالى: {قل فمَن يملك من اللَّه شيئًا إن أراد أن يهلك المسيحَ ابن مريم} في سورة العقود (17).
وقدم النفع في حَيز النفي تأييسًا لهم لأنهم كانوا يرجون أن يشفعوا لهم يومئذٍ و {يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18].
وعطف نفي الضر على نفع النفع للدلالة على سلب مقدرتهم على أي شيء فإن بعض الكائنات يستطيع أن يضر ولا يستطيع أن ينفع كالعقرب.
{وَلاَ ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم}.
عطف على قوله: {ثم نقول للملائكة} [سبأ: 40].
وقد وقع الإِخبار عن هذا القول بعد الإِخبار عن الحوار الذي يجري بين الملائكة وبين المشركين يومئذٍ إظهارًا لاستحْقاقهم هذا الحكم الشديد، ولكونه كالمعلول لقوله: {لا يملك بعضكم لبعض نفعًا ولا ضرًا}.
والذوق: مجاز لمطلق الإِحساس، واختياره دون الحقيقة لشهرة استعماله.
ووصف النار بالتي كانوا يكذبون بها لما في صلة الموصول من إيذان بغلطهم وتنديمهم.
وقد علق التكذيب هنا بنفس النار فجيء باسم الموصول المُناسب لها ولم يعلق بالعذاب كما في آية سورة السجدة (20) {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} لأن القول المخبر عنه هنا هو قول الله تعالى وحكمه وقد أذن بهم إلى جهنم وشاهدوها كما قال تعالى آنفًا: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} [سبأ: 33] فإن الذي يرى هو ما به العذاب، وأما القول المحكي في سورة السجدة (20) فهو قول ملائكة العذاب بدليل قوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} وتقديم المجرور للاهتمام والرعاية على الفاصلة. اهـ.