فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}.
هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن فعل قريش وقولها أي هذه يا محمد سيرة الأمم فلا يهمنك أمر قومك، والقرية المدينة، والمترف المنع البطال الغني القليل تعب النفس والجسم فعادتهم المبادرة بالتكذيب، وقوله: {وقالوا نحن أكثر أموالًا وأولادًا} يحتمل أن يعود الضمير على المترفين ويكون ذلك من قولهم مع تكذيبهم، ثم لما كانت قريش مثلهم أمره الله تعالى بأن يقول {إن ربي} الآية، ويحتمل أن يعود الضمير في {قالوا} لقريش ويكون كلام المترفين قد تم، ثم تطرد الآية بعد، وقولهم {نحن أكثر أموالًا وأولادًا} معناه الاحتجاج أي أن الله لم يعطنا هذا وقدره لنا إلا لرضاء عنا وعن طريقنا ونحن لا نعذب البتة اذ الله الذي تزعم أنت علمه بجميع الأشياء وإحاطته قد قدر علينا النعم، فهو إذن راض عنا، وقال بعض المفسرين معنى قولهم {وما نحن بمعذبين} أي بالفقر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ليس كالأول في القوة فأمر الله تعالى نبيه أن يقول: إن الأمر ليس كما ظنوا بل بسط الرزق وقدره معلق بالمشيئة في كافر ومؤمن وليس شيء من ذلك دليلًا على رضى الله تعالى والقرب منه لأنه قد يعطي ذلك إملاء واستدراجًا، وكثير من الناس لا يعلم ذلك كأنتم أيها الكفار، وقرأت فرقة {ويقدر} وقرأت فرقة {ويُقَدّر} بضم الباء وفتح القاف وشد الدال وهي راجعة إلى معنى التضييق الذي هو ضد البسط، ثم أخبرهم بأن أموالهم وأولادهم ليست بمقربة من الله {زلفى} والزلفى مصدر بمعنى القرب، وكأنه قال تقربكم عندنا تقريبًا، وقرأ الضحاك {زلَفًى} بفتح اللام وتنوين الفاء، وقوله تعالى: {إلا من آمن} استثناء منقطع، و {من} في موضع نصب بالاستثناء، وقال الزجاج {من} بدل من الضمير في {تقربكم} وقال الفراء {من} في موضع رفع، وتقدير الكلام ما هو المقرب إلا من آمن، وقرأ الجمهور {جزاء الضعفِ} بالإضافة، وقرأ قتادة {جزاء الضعفُ} برفعها، وحكى عنه الداني {جزاء} بالنصب {الضعفَ} بنصب الفاء، و {الضعف} هنا اسم جنس أي بالتضعيف إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم أكثر إلى سبعمائة بحسب الأعمال. ومشيئة الله تعالى فيها، وقرأ جمهور القراء {في الغرفات} بالجمع، وقرأ حمزة وحده {في الغرفة} على اسم الجنس يراد به الجمع، ورويت عن الأعمش وهما في القراءة حسنتان، قال أبو علي: وقد يجيء هذا الجمع بالألف والتاء {الغرفات} ونحوه للتكثير ومنه قول حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

فلم يرد إلا كثرة جفان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت، وقرأ الأعمش والحسن وعاصم بخلاف في {الغرْفات} بسكون الراء.
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)}.
لما ذكر تعالى المؤمنين العاملين الصالحات وذكر ثوابهم عقب بذكر ضدهم وذكر جزائهم ليظهر تباين المنازل، وقرأت فرقة {معاجزين} وقرأت فرقة: {معجزين} وقد تقدم تفسيرها في صدر السورة، و {محضرون} من الإحضار والإعداد، ثم كرر القول ببسط الرزق وقدره تأكيدًا وتبيينًا وقصد به ها هنا رزق المؤمنين وليس سوقه على المعنى الأول الذي جلب للكافرين، بل هذا هنا على جهة الوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على النفقة في الطاعات، ثم وعد بالخلف في ذلك وهو بشرط الاقتصاد والنية في الطاعة ودفع المضرات وعد منجز إما في الدنيا وإما في الآخرة، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله لي أنفق أنفق عليك» وفي البخاري أن ملكًا ينادي كل يوم اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول ملك آخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا، وقال مجاهد المعنى إن كان خلف فهو موليه وميسره، وقد لا يكون الخلف، وأما قوله: {خير الرازقين} فمن حيث يقال في الإنسان إنه يرزق عياله، والأمير جنده، لكن ذلك من مال يملك عليهم والله تعالى من خزائن لا تفنى ومن إخراج من عدم إلى وجود، وقرأ الأعمش {ويُقدّر} بضم الياء وشد الدال.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}.
هذه آية وعيد للكفار، والمعنى واذكر يوم نحشرهم، وقرأ جمهور القراء {نحشرهم جميعًا ثم نقول} بالنون فيهما، ورواها أبو بكر عن عاصم، وقرأ حفص عن عاصم {ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول} بالياء فيهما، وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو، والقول للملائكة هو توقيف تقوم منه الحجة على الكفار عبدتهم وهذا نحو قوله تعالى لعيسى عليه السلام {أأنت قلت للناس} [المائدة: 116] وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة {سبحانك} أي تنزيهًا لك عما فعل هؤلاء الكفرة، ثم برءوا أنفسهم بقولهم {أنت ولينا من دونهم} يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن يعبدهم البشر، ثم قرروا البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم تنف الملائكة عبادة البشر. إياها وإنما قررت أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة، ثم ذنبت الجن، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم، فهذا نوع من العبادة، وقد يجوز إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها، ثم قال تعالى: {فاليوم} وفي الكلام حذف تقديره فيقال لهم أي من عبد ومن عبد اليوم {لا يملك بعضكم لبعض نفعًا} وقوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا} ذكر الله تعالى في هذه الآية أقوال الكفرة وأنواع كلامهم عندما يقرأ عليهم القرآن ويسمعون حكمته وبراهينه البينة، فقائل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يقدح في الأوثان ودين الآباء، وقائل طعن عليه بأن هذا القرآن مفترى أي مصنوع من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ويدعي أنه من عند الله، وقائل طعن عليه بأن ما عنده من الرقة واستجلاب النفوس واستمالة الأسماع إنما هو سحر به يخلب ويستدعى، تعالى الله عن أقوالهم وتقدست شريعته عن طعنهم.
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
معنى هذه الآية أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله فيقول بعضهم سحر، وبعضهم افتراء، وذلك منهم تسور لا يستندون فيه إلى إثارة علم ولا إلى خبر من يقبل خبره، فإنا ما آتيناهم كتبًا يدرسونها ولا أرسلنا إليهم نذيرًا فيمكنهم أن يدعوا أن أقوالهم تستند إلى أمره، وقرأ جمهور الناس {يدْرسونها} بسكون الدال، وقرأ أبو حيوة {يدَّرِسونها} بفتح الدال وشدها وكسر الراء- والمعنى وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ولا يباشر أهل عصرهم ولا من قرب من آبائهم، وإلا فقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع شعيب وصالح وهود ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه، فإنما معنى هذه الآية {من نذير} يختص بهؤلاء الذين بعثناك إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل، والله تعالى يقول: إنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًّا ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم مثل لهم بالأمم المكذبة قبلهم، وقوله: {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} يحتمل ثلاثة معان: أحدها أن يعود الضمير في {بلغوا} على قريش، وفي {آتيناهم} على الأمم {الذين من قبلهم} والمعنى من قوة والنعم والظهور في الدنيا، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، والثاني أن يعود الضمير في {بلغوا} على الأمم المتقدمة وفي {آتيناهم} على قريش، والمعنى من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به، والثالث أن يعود الضميران على الأم المتقدمة، والمعنى من شكر النعمة وجزاء المنة والمعشار، ولم يأت هذا البناء إلا في العشرة والأربعة فقالوا: مرباع ومعشار وقال قوم: المعشار عشر العشر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بشيء، والنكير مصدر كالإنكار في المعنى وكالعديد في الوزن وسقطت الياء منه تخفيفًا لأنها آخر آية، و {كيف} تعظيم للأمر وليست استفهامًا مجردًا، وفي هذا تهديد لقريش أي أنّهم معرضون لنكير مثله. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)}.
{وما أرسلنا} الآية: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما مني به من قومه قريش، من الكفر والافتخار بالأموال والأولاد.
وإن ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم، فلا يهمنك أمرهم.
و {من نذير} عام، أي تنذرهم بعذاب الله إن لم يوحدوه.
و {قال مترفوها} جملة حالية، ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل، لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبدًا مشغولة منهمكة بخلاف الفقراء.
فإنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهم أقبل للخير، ولذلك هم أتباع الأنبياء، كما جاء في حديث هرقل.
وبما متعلق بكافرون، وبه متعلق بأرسلتم، وما عامة في ما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله وإفراده بالعبادة والأخبار بأنهم رسله إليهم، والبعث والجزاء على الأعمال.
والظاهر أن الضمير في {وقالوا} عائد على المترفين؛ وقيل: عائد على قريش، ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله: {قل} لأن من تقدم من المترفين الهالكين لا يخاطبون، فلا يقول إلا الموجودون، وقوله: {وما أموالكم ولا أولادكم} واحتجوا على رضا الله عنهم بإحسانه تعالى إليهم، فلو لم يتكرم عليهم ما بوسع علينا، وأما أنتم فلهوانكم عليه حرمكم أيها التابعون للرسل.
ثم نقول: إن يعذبوا نفيًا عامًا، لأن الأنبياء قد ينذرون بعذاب عاجل في الدنيا، أو آجل في الآخرة، فنفوا هم جميع ذلك.
فإما أن يكونوا منكرين للآخرة، فقد نفوا تعذيبهم فيها، لأنها إذ لم تكن، فلا يكون فيها عذاب.
وإما أن يكونوا مقرين بها حقيقة، أو على سبيل الفرض، فيقولون: كما أنعم علينا في الدنيا، ينعم علينا في الآخرة على حالة الدنيا قياسًا فاسدًا، فأبطل الله ذلك بأن الرزق فضل منه يقسم علينا في الآخرة على حالة الدنيا، كما شاء.
{لمن يشاء} فقد يوسع على العاصي ويضيق على الطائع، وقد يوسع عليهما، والوجود شاهد بذلك، فلا تقاس التوسعة في الدنيا، لأن ذلك في الآخرة إنما هو على الأعمال الصالحة.
وقرأ الأعمش: ويقدر في الموضعين مشددًا؛ والجمهور: مخففًا، ومعناه: ويضيق مقابل يبسط.
{ولكن أكثر الناس} مثل هؤلاء الكفرة، {لا يعلمون} أن الرزق مصروف بالمشيئة، وليس دليلًا على الرضا ثم أخبر تعالى أن أموالهم وأولادهم التي افتخروا بها ليست بمقربة من الله، وإنما يقرب الإيمان والعمل الصالح.
وقرأ الجمهور: {بالتي} وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون التي هي التقوى، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب. انتهى.
فجعل التي نعتًا لموصوف محذوف وهي التقوى.
انتهى، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف.
والظاهر أن التي راجع إلى الأموال والأولاد، وقاله الفراء.
وقال أيضًا، هو والزجاج: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى}. انتهى.
ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف، إذ يصح أن يكون التي لمجموع الأموال والأولاد.
وقرأ الحسن: باللاتي جمعًا، وهو أيضًا راجع للأموال والأولاد.
وقرى بالذي، وزلفى مصدر، كالقربى، وانتصابه على المصدرية من المعنى، أي يقربكم.
وقرأ الضحاك: زلفًا بفتح اللام وتنوين الفاء، جمع زلفة، وهي القربة.
{إلا من آمن} الظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء، أي لكن من آمن؛ {وعمل صالحًا} فإيمانه وعمله يقربانه.
وقال الزجاج: هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب، فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز: رأيتك زيدًا؛ وقول أبي إسحاق هذا قول الفراء. انتهى.
ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم، لكن البدل في الآية لا يصح.
ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا؟ لو قلت: مازيد بالذي يضرب إلا خالدًا، لم يصح.
وتخيل الزجاج أن الصلة، وإن كانت من حيث المعنى منفية، أنه يصح البدل، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له.
وقد اتبعه الزمخشري فقال: إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم، والمعنى: أن الأموال لا تقرب أحدًا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله؛ والأولاد لا تقرب أحدًا إلا من علمهم الخير وفقهم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة.
انتهى، وهو لا يجوز.