فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
{وما آتيناهم} أهل مكة، {من كتب} قال السدي: من عندنا، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به.
وقال ابن زيد: فنقضوا أن الشرك جائز، وهو كقوله: {أم أنزلنا عليهم سلطانًا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} وقال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابًا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: من أين كذبوا، ولم يأتهم كتاب، ولا نذير بذلك؟ وقيل: وصفهم بأنهم قومٍ آمنون، أهل جاهلية، ولا ملة لهم، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول.
كما قال: {أم آتيناهم كتابًا من قبله فهم به مستمسكون} فليس لتكذيبهم وجه مثبت، ولا شبهة تعلق.
كما يقول أهل الكتاب، وإن كانوا مبطلين: نحن أهل الكتاب والشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله.
وقيل: المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله، يقول بعضهم سحر، وبعضهم افتراء، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم، ولا إلى خبر من يقبل خبره.
فإنا آتيناهم كتبًا يدرسونها، ولا أرسلنا إليهم رسولًا ولا نذيرًا فيمكنهم أن يدعوا، إن أقوالهم تستند إلى أمره.
وقرأ الجمهور: {يدرسونها} مضارع درس مخففًا؛ أبو حيوة: بفتح الدال وشدها وكسر الراء، مضارع ادّرس، افتعل من الدرس، ومعناه: تتدارسونها.
وعن أبي حيوة أيضًا: يدرسونها، من التدريس، وهو تكرير الدرس، أو من درس الكتاب مخففًا، ودرّس الكتاب مشددًا التضعيف باعتبار الجمع.
ومعنى {قبلك} قال ابن عطية: أي وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء، ولا يباشر أهل عصرهم، ولا من قرب من آبائهم.
وقد كانت النذارة في العالم، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود.
ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه، وإنما المعنى: من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل، والله تعالى يقول: {إنه كان صادق الوعد وكان رسولًا نبيًا} ولكن لم يتجرد للنذارة، وقاتل عليها، إلا محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى.
{وكذب الذين من قبلهم} توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم، وما آل إليه أمرهم، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة، وسيحل بهم ما حل بأولئك.
وأن الضميرين في: {بلغوا} وفي: {ما آتيناهم} عائدان على {الذين من قبلهم} ليتناسقا مع قوله تعالى: {فكذبوا} أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم.
وقال ابن عباس، وقتادة، وابن زيد: الضمير في {بلغوا} لقريش، وفي {ما آتيناهم} للأمم {الذين من قبلهم}.
والمعنى: وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك؟ وقيل: الضمير في {بلغوا} عائد على {الذين من قبلهم} وفي {آتيناهم} على قريش، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشًا من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به.
وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات، والزمخشري ذكر الثاني، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث، قال: أي {الذين من قبلهم} ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان، وذلك لأن كتاب محمد، عليه السلام، أكمل من سائر الكتب وأوضح، ومحمد، عليه السلام، أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفي، وبيانه أشفى، ويؤيد ما ذكرنا، {وما آتيناهم من كتب يدرسونها} تغني عن القرآن.
فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب، وكان أولى. انتهى.
وعن ابن عباس: فليس أنه أعلم من أمّته، ولا كتاب أبين من كتابه.
والمعشار مفعال من العشر، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع، ومعناهما: العشر والربع.
وقال قوم: المعشار عشر العشر.
قال ابن عطية: وهذا ليس بشيء. انتهى.
وقيل: والعشر في هذا القول عشر المعشرات، فيكون جزأ من ألف جزء.
قال الماوردي: وهو الأظهر، لأن المراد به المبالغة في التقليل.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {فكذبوا رسلي} وهو مستغنى عنه بقوله: {وكذب الذين من قبلهم}؟ قلت: لما كان معنى قوله: {وكذب الذين من قبلهم} وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه، جعل تكذيب الرسل مسببًا عنه، ونظيره أن يقول القائل: أقدم فلان على الكفر، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن ينعطف على قوله: {ما بلغوا} كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو، فيفضل عليه.
{فكيف كان نكير} للمكذبين الأوّلين، فليحذروا من مثله. انتهى.
وفكيف: تعظيم للأمر، وليست استفهامًا مجردًا، وفيه تهديد لقريش، أي أنهم معرضون لنكير مثله، والنكير مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعل، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، وحذفت إلى من نكير تخفيفًا لأنها أجزأته.
{قل إنما أعظكم بواحدة} قال: هي طاعة الله وتوحيده.
وقال السدي: هي لا إله إلاّ الله.
قال قتادة: هي أن تقوموا.
قال أبو علي: {أن تقوموا} في موضع خفض على البدل من واحدة.
وقال الزمخشري: {بواحدة} بخصلة واحدة، وهو فسرها بقوله: {أن تقوموا} على أن عطف بيان لها. انتهى.
وهذا لا يجوز، لأن بواحدة نكرة، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله.
وعطف البيان فيه مذهبان: أحدهما: أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة، وهو مذهب الكوفيين، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب، وإنما هو وهم من قائله.
وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله: {إن مقام إبراهيم}.
عطف بيان من قوله: {آيات بينات} وذلك لأجل التحالف، فكذلك هذا.
والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر، والنهوض فيه بالهمة، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده.
والمعنى: إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به.
وإنما قال: {مثنى وفرادى} لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، وتخليط الكلام، والتعصب للمذاهب، وقلة الإنصاف، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة، فلا يوقف فيها على تحقيق.
وأما الاثنان، إذا نظرا نظر إنصاف، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له، فلا يكاد الحق أن يعدوهما.
وأما الواحد، إذا كان جيد الفكر، صحيح النظر، عاريًا عن التعصب، طالبًا للحق، فبعيد أن يعدوه.
وانتصب {مثنى وفرادى} على الحال، وقدم مثنى، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، إذا انقدح الحق بين الاثنين، فكر كل واحد منهما بعد ذلك، فيزيد بصيرة.
قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة ** فيزداد بعض القوم من بعضهم علما

{ثم تتفكروا} عطف على {أن تقوموا} فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيما نسبوه إليه.
فإن الفكرة تهدي غالبًا إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر، والوقف عند أبي حاتم عند قوله: {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} نفي مستأنف.
قال ابن عطية: وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به. انتهى.
واحتمل أن يكون تتفكروا معلقًا، والجملة المنفية في موضع نصب، وهو محط التفكر، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلًا، وأثبتهم ذهنًا، وأصدقهم قولًا، وأنزههم نفسًا، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب.
والظاهر أن ما للنفي، كما شرحنا.
وقيل: ما استفهام، وهو استفهام لا يراد به حقيقته، بل يئول معناه إلى النفي، التقدير: أي شيء بصاحبكم من الجنون، أي ليس به شيء من ذلك.
ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه {نذير} {بين يدي عذاب شديد} أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به، وبين يدي يشعر بقرب العذاب.
{قل ما سألتكم من أجر} الآية: في التبري من طلب الدنيا، وطلب الأجر على النور الذي أتى به، والتوكل على الله فيه.
واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ، والعائد من الصلة محذوف تقديره: سألتكموه، و {فهو لكم} الخبر.
ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط.
وقوله: {ما سألتكم من أجر فهو لكم} على معنيين: أحدهما: نفي مسألة للأجر، كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئًا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئًا، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن، ويؤيده {إن أجري إلا على الله}.
والثاني: أن يريد بالأجر ما في قوله: {قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا} وفي قوله: {لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودّة في القربى} لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم، وكذلك المودة في القرابة، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم، قاله الزمخشري، وفيه بعض زيادة.
قال ابن عباس: الأجر: المودة في القربى.
وقال قتادة: {فهو لكم} أي ثمرته وثوابه، لأني سألتكم صلة الرحم.
وقال مقاتل: تركته لكم.
{وهو على كل شيء شهيد} مطلع حافظ، يعلم أني لا أطلب أجرًا على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.
والقذف: الرمي بدفع واعتماد، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله: {فاقذفيه في اليم} {وقذف في قلوبهم الرعب} قال قتادة: {يقذف بالحق} يبين الحجة ويظهرها.
وقال ابن القشيري: يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها، لأنه {علام الغيوب} وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق.
وأصل القذف: الرمي بالسهم، أو الحصى والكلام.
وقال ابن عباس: يقذف الباطل بالحق، والظاهر أن بالحق هو المفعول، فالحق هو المقذوف محذوفًا، أي يقذف، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل، فتكون الباء إمّا للمصاحبة، وإمّا للسبب، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّيًا بنفسه، فإذا جعلت بالحق هو المفعول، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها.
وقرأ الجمهور: علام بالرفع، فالظاهر أنه خبر ثان، وهو ظاهر قول الزجاج، قال: هو رفع، لأن تأويل قل رب علام الغيوب.
وقال الزمخشري: رفع محمول على محل إن واسمها، أو على المستكن في يقذف، أو هو خبر مبتدأ محذوف. انتهى.
أمّا الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو.
وأمّا قوله على المستكن في يقذف، فلم يبين وجه حمله، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف.
وقال الكسائي: هو نعت لذلك الضمير، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب.
وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وزيد بن علي، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، وحرب عن طلحة: علام بالنصب؛ فقال الزمخشري: صفة لربي.
وقال أبو الفضل الرازي، وابن عطية: بدل.
وقال الحوفي: بدل أو صفة؛ وقيل: نصب على المدح.
وقرىء: الغيوب بالجر، أمّا الضم فجمع غيب، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو؛ وأمّا الفتح فمفعول للمبالغة، كالصبور، وهو الشيء الذي غاب وخفي جدًا.
ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع، أخبر أن الحق قد جاء، وهو القرآن والوحي، وبطل ما سواه من الأديان، فلم يبق لغير الإسلام ثبات، لا في بدء ولا في عاقبة، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله، كما قال: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وقال قتادة: الباطل: الشيطان، لا يخلق شيئًا ولا يبعثه.
وقال الضحاك: الأصنام لا تفعل ذلك.
وقال أبو سليمان: لا يبتدىء الصنم من عنده كلامًا فيجاب، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة.
وقيل: الباطل: الذي يضاد الحق، فالمعنى: ذهب الباطل بمجيء الحق، فلم يبقى منه بقية، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة، فصار قولهم: لا يبدي ولا يعيد، مثلًا في الهلاك، ومنه قول الشاعر:
أفقر من أهيله عبيد ** فاليوم لا يبدي ولا يعيد

والظاهر أن ما نفي، وقيل: استفهام ومآله إلى النفي، كأنه قال: أي شيء يبدىء الباطل، أي إبليس، ويعيده، قاله الزجاج وفرقة معه.