فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64]، وقرىء الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو: جمع غيب، والغيب هو: الأمر الذي غاب وخفي جدًّا.
{قُلْ جَاء الحق} أي: الإسلام، والتوحيد.
وقال قتادة: القرآن.
وقال النحاس: التقدير صاحب الحقّ، أي: الكتاب الذي فيه البراهين، والحجج.
وأقول: لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه.
{وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي: ذهب الباطل ذهابًا لم يبق منه إقبال، ولا إدبار، ولا إبداء، ولا إعادة.
قال قتادة: الباطل هو: الشيطان، أي: ما يخلق لشيطان ابتداء، ولا يبعث، وبه قال مقاتل، والكلبي.
وقيل: يجوز أن تكون ما استفهامية، أي: أيّ شيء يبديه، وأيّ شيء يعيده؟ والأوّل أولى.
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطريق الحقة الواضحة {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} أي: إثم ضلالتي يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له: تركت دين آبائك، فضللت، فأمره الله: أن يقول لهم هذا القول: {وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} من الحكمة، والموعظة، والبيان بالقرآن {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة.
قرأ الجمهور: {ضللت} بفتح اللام، وقرأ الحسن، ويحيى بن وثاب بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم} يقول: من القوّة في الدنيا.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال: يقوم الرجل مع الرجل، أو وحده، فيفكر ما بصاحبه من جنة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة {مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ} يقول: إنه ليس بمجنون.
وأخرج هؤلاء عنه أيضًا في قوله: {مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ} أي: من جعل، فهو لكم، يقول: لم أسألكم على الإسلام جعلًا، وفي قوله: {قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} قال: بالوحي، وفي قوله: {وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ} قال: الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك.
وأخرج هؤلاء أيضًا عنه في قوله: {وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ} قال: ما يخلق إبليس شيئًا، ولا يبعثه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله: {إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} قال: إنما أوخذ بجنايتي.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)}.
ثم ذكر سبحانه حالًا من أحوال الكفار، فقال: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} والخطاب لرسول الله، أو لكل من يصلح له قيل: المراد فزعهم عند نزول الموت بهم.
وقال الحسن: هو: فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو: فزعهم إذا خرجوا من قبورهم.
وقال السدّي: هو: فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا فرارًا ولا رجوعًا إلى التوبة.
وقال ابن مغفل: هو: فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: هو: الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم، فيخبر الناس بما لقي أصحابه، فيفزعون.
وجواب لو محذوف، أي: لرأيت أمرًا هائلًا، ومعنى {فَلاَ فَوْتَ} فلا يفوتني أحد منهم، ولا ينجو منهم ناجٍ.
قال مجاهد: فلا مهرب {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهر الأرض، أو من القبور، أو من موقف الحساب.
وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه، ولا يفوتونه.
قيل: ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع الذي بمعنى: الإجابة، يقال: فزع الرجل: إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر.
{وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ} أي: بمحمد، قاله قتادة، أو بالقرآن.
وقال مجاهد: بالله عزّوجلّ.
وقال الحسن: بالبعث {وأنى لَهُمُ التناوش} التناوش التناول، وهو تفاعل من التناوش الذي هو: التناول، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد، يعني: في الآخرة، وقد تركوه في الدنيا، وهو معنى {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم.
قال ابن السكيت: يقال: للرجل إذا تناول رجلًا ليأخذ برأسه، أو بلحيته ناشه ينوشه نوشًا، وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشًا من علا ** نوشًا به تقطع أحواز الفلا

أي: تناول ماء الحوض من فوق، ومنه المناوشة في القتال، وقيل: التناوش الرجعة، أي: وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا؛ ليؤمنوا، ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تئوب إليّ مي ** وليس إلى تناوشها سبيل

وجملة: {وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا.
قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، والأعمش: {التناؤش} بالهمز، وقرأ الباقون بالواو، واستبعد أبو عبيد، والنحاس القراءة الأولى، ولا وجه للاستبعاد، فقد ثبت ذلك في لغة العرب، وأشعارها، ومنه قول الشاعر:
قعدت زمانًا عن طلابك للعلا ** وجئت نئيشًا بعد ما فاتك الخير

أي: وجئت أخيرًا.
قال الفراء: الهمز، وترك الهمز متقارب {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} أي: يرمون بالظنّ، فيقولون: لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} أي: من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل.
وقيل: المعنى: يقولون في القرآن أقوال باطلة: إنه سحر، وشعر، وأساطير الأوّلين.
وقيل: يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون.
وقرأ أبو حيوة، ومجاهد، ومحبوب عن أبي عمرو: {يقذفون} مبنيًا للمفعول، أي: يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئًا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه، والجملة إما معطوفة على: {وقد كفروا به} على أنها حكاية للحال الماضية، واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من النجاة من العذاب، ومنعوا من ذلك وقيل: حيل بينهم، وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم، وأهليهم، أو حيل بينهم، وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي: بأمثالهم، ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، والأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة، وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ في شَكّ مُّرِيبِ} تعليل لما قبلها، أي: في شك موقع في الريبة، أو ذي ريبة من أمر الرسل، والبعث، والجنة، والنار، أو في التوحيد، وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال: أراب الرجل إذا صار ذا ريبة، فهو مريب، وقيل: هو من الريب الذي هو الشك، فهو كما يقال عجب عجيب، وشعر شاعر.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَلاَ فَوْتَ} قال: فلا نجاة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} قال: هو جيش السفياني قيل: من أين أخذوا؟ قال: من تحت أقدامهم.
وقد ثبت في الصحيح: أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة، وعائشة، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة، وصفية، وأبي هريرة، وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها: فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} الآية.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وأنى لَهُمُ التناوش} قال: كيف لهم الردّ؟ {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} قال: يسألون الردّ، وليس بحين ردّ.
وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال: أتيت ابن عباس قلت: ما التناوش؟ قال: تناول الشيء، وليس بحين ذاك. اهـ.

.قال القاسمي:

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
أمر بتبكيت المشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة فيهما. وقوله: {قُلِ اللَّهُ} أي: الذي تعترفون بأنه هو الخالق، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]. أي: فحينئذ قامت الحجة عليهم منهم.
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي: وإن أحد الفريقين من الموحدين الرازقَ من السماوات والأرض بالعبادة، ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة على ذرة، لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال.
قال الزمخشري: وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من مُوالٍ أو منافٍ، قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي دَرْجِهِ بعدَ تقدمةِ ما قدم من التقرير البليغ، دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى، ومن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وقل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك، وإن أحدنا لكاذب.
ومنه بيت حسان:
اَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ** فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاء

. انتهى.
قال الناصر: وهذا تفسير مهذب وافتنان مستعذب، رددته على سمعي فزاد رونقًا بالترديد، واستعاده الخاطر، كأني بطيء الفهم حين يفيد، ولا ينبغي أن ينكر بعد ذلك على الطريقة التي أكثر تعاطيها متأخرو الفقهاء في مجادلاتهم ومحاوراتهم، وذلك قولهم: أحد الأمرين لازم على الإبهام، فهذا المسلك من هذا الوادي غير بعيد، فتأمله، والله الموفق. انتهى.
قال الشهاب: وهذا فن من فنون البلاغة يسمى الكلامَ المنصف. وقيل إن الآية على اللف والنشر المرتب. ونظر فيه بأنه لو قصد اللف بأن يكون على هدى راجعًا لقوله: {وَإِنَّا} و: {أوْ في ضَلالٍ} راجعًا ل: {إِيَّاكُمْ} كان العطف بالواو لا بأو، وكونها بمعنى الواو كما في قوله:
سِيَّاْنَ كَسْرُ رَغِيْفِهِ أَوْ ** كَسْرُ عَظْمٍ مِنْ عِظَاْمِهْ

بعيد جدًا. إلا أنه قيل: لو جعل فيه إيماء لذلك لم يبعد. وإيثار على، في الهدى، وفي في مقابله، للدلالة على استعلاء صاحب الهدى وتمكنه واطلاعه على ما يريد، كالواقف على مكان عال، أو الراكب على جواد، وانغماس الضال في ضلاله حتى كأنه في مهواة مظلمة.
{قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: قل لهؤلاء المشركين: لا تُسألون عما أجرمنا من جرم، وركبنا من إثم، ولا نُسأل نحن عما تعملون من عمل. قال ابن كثير: معناه التبري منهم. أي: لستم منا ولا نحن منكم، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده، ولإفراد العبادة له، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم، وإن كذبتم فنحن براء منكم وأنتم براء منا. كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]. وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1- 3]. انتهى.
وما ذكره معنى دقيق، قلَّ من يتفطن له، أسميه التفسير بالأشباه والنظائر، وهو حمل آية موجزة أو مجملة على آية تشبهها مطولة أو مبينة، ولا يدرك هذا إلا الراسخ في فن التأويل، الولع بتدبر التنزيل، ومن لطائف الآية ما ذكره الزمخشري والمنتصف كذا، من أن هذا القول أدخلُ في الإنصاف من الأول، حيث أسند الإجرام إلى النفس، وأراد به الزلات والصغائر التي لا يخلو عنها مؤمن، وأسند العمل إلى المخاطبين، وأراد به الكفر والمعاصي والكبائر. فعبر عن الهفوات بما يعبر به عن العظائم، وعن العظائم بما يعبر به عن الهفوات، التزامًا للإنصاف، وزيادة على ذلك، أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي، الذي يعطي تحقيق المعنى، وعن العمل المنسوب إلى الخصم بما لا يعطي ذلك. والله أعلم.
{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا} أي: يوم القيامة في صعيد واحد {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي: يقضي بالعدل؛ لأن أحد فريقينا على هدى والآخر على ضلال، فيتبين يومئذ المهتدي منا من الضال، ويجزى كلّا بعمله، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14- 16]. ولهذا قال سبحانه: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي: الحاكم العادل العليم بالقضاء بين خلقه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولا يحتاج إلى شهود تعرّفه المحق من المبطل.
{قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء} أي: جعلتموهما لله أندادًا، وصيرتموهما له عدلًا، قال أبو السعود: أريد بأمرهم بإراءة الأصنام، مع كونها بمرأى منه صلّى الله عليه وسلم. إظهار خطئهم العظيم وإطلاعهم على بطلان رأيهم؛ أي: أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العباد، وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم.
وقد جوّز المعربُ في رأى هنا أن تكون علمية متعدية بهمزة النقل، إلى ثلاثة مفاعيل: ياء المتكلم والموصول وشركاءه. وعائد الموصول محذوف؛ أي: ألحقتموهم. وأن تكون بصرية تعدت بالنقل لاثنين: ياء المتكلم والموصول، وشركاء حال. ولا ضعف في هذا كما قاله ابن عطية. بل فيه توبيخ لهم، إذ لم يرد حقيقته؛ لأنه كان يراهم ويعلمهم، فهو مجاز وتمثيل. والمعنى: ما زعمتموه شريكًا إذا برز للعيون، وهو خشب وحجر، تمت فضيحتكم. وقوله تعالى: {كَلاَّ} ردع لهم عن المشاركة، بعد إبطال المقايسة: {بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: الموصوف بالغلبة القاهرة والحكمة الباهرة. فأين شركاؤهم التي هي أخس الأشياء وأذلها، من هذه الرتبة العالية. والضمير إما لله عز وعلا، أو لشأن. قاله أبو السعود.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: وما أرسلناك إلا إرسالةً عامة لجميع الخلائق من المكلفين، تبشر من أطاعك بالجنة، وتنذر من عصاك بالنار، كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: فيحملهم جهلهم على ما هم فيه من الغي والضلال كقوله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. قال ابن عباس- فيما رواه ابن أبي حاتم- إن الله تعالى فضّل محمدًا صلّى الله عليه وسلم على أهل السماء، وعلى الأنبياء. قالوا: يا ابن عباس! فبمَ فضّله الله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}. فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسير شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة»، وفي الصحيح أيضًا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بعثت إلى الأحمر والأسود»، قال مجاهد: يعني الجن والإنس. وقال غيره: يعني العرب والعجم. والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته، هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا، وأي زمان وجدوا، مما لم يتفق في شرع قبله قط، ولهذا ختمت النبوات بنبوته صلّى الله عليه وسلم، كما تقرر في موضعه.