فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعندي: أن تعريف صاحب المقاصد لحقيقة الملائكة لا يخلو عن تخليطٍ في ترتيب التعريف لأنه خلط في التعريف بين الذاتيات والعرضيات.
والوجه عندي في ترتيب التعريف أن يقال: أجسام لطيفة نورانية أخيار ذوو قوة عظيمة، ومن خصائصهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة، والعلم بما تتوقف عليه أعمالهم، ومقرهم السماوات ما لم يرسلوا إلى جهة من الأرض.
وهذا التشكل انكماش وتقبض في ذرات نورانيتهم وإعطاء صورة من صور الجسمانيات الكثيفة لذواتهم.
دل على تشكلهم قوله تعالى لهم يوم بدر {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [الأنفال: 12]، وثبت تشكل جبريل عليه السلام للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْية الكلبي، وتشكله له ولعمر بن الخطاب في حديث السؤال عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفَر، ولا يَعرفه منا أحد أي من أهل المدينة حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه الحديث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فارقهم الرجل «هل تدرون من السائل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب.
وثبت حلول جبريل في غار حراء في بدء الوحي، وظهورهُ للنبيء صلى الله عليه وسلم على كرسي بين السماء والأرض بصورته التي رآه فيها في غار حراء كما ذلك في حديث نزول سورة المدثر، ورأى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر ناسًا لا يعرفونهم على خيل يقاتلون معهم.
وجملة {يزيد في الخلق ما يشاء} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن ما ذكر من صفات الملائكة يثير تعجب السامع أن يتساءل عن هذه الصفة العجيبة، فأجيب بهذا الاستئناف بأن مشيئة الله تعالى لا تنحصر ولا تُوقَّت.
ولكل جنس من أجناس المخلوقات مقوماته وخواصه.
فالمراد بالخلق: المخلوقات كُلّها، أي يزيد الله في بعضها ما ليس في خَلققٍ آخر.
فيشمل زيادة قوة بعض الملائكة على بعض، وكل زيادة في شيء بين المخلوقات من المحاسن والفضائل من حصافة عقل وجمال صورة وشجاعة وذلقة لسان ولياقة كلام.
ويجوز أن تكون جملة {يزيد في الخلق ما يشاء} صفة ثانية للملائكة، أي أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في خلقهم ما يشاء كأنه قيل: مثنى وثلاث ورباع وأكثر، فما في بعض الأحاديث من كثرة أجنحة جبريل يبين معنى {يزيد في الخلق ما يشاء}.
وعليه فالمراد بالخلق ما خُلق عليه الملائكة من أن لبعضهم أجنحة زائدة على من لبعض آخر.
وجملة {إن الله على كل شيء قدير} تعليل لجملة {يزيد في الخلق ما يشاء}، وفي هذا تعريض بتسفيه عقول الذين أنكروا الرسالة وقالوا: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} [إبراهيم: 10]، فأجيبوا بقول الرسل {إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على ما يشاء من عباده} [إبراهيم: 11].
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}.
هذا من بقية تصدير السورة ب {الحمد لله فاطر السماوات والأرض} [فاطر: 1]، وهو عطف على {فاطر السماوات والأرض}. إلخ.
والتقدير: وفاتح الرحمة للناس وممسكها عنهم فلا يقدر أحد على إمساك ما فتحه ولا على فتح ما أمسكه.
و{ما} شرطية، أي اسم فيه معنى الشرط.
وأصلها اسم موصول ضُمِّن معنى الشرط.
فانقلبت صلته إلى جملة شرطية وانقلبت جملة الخبر جوابًا واقترنت بالفاء لذلك، فأصل {ما} الشرطية هو الموصولة.
ومحل {ما} الابتداء وجواب الشرط أغنى عن الخبر.
و{من رحمة} بيان لإِبهام {ما} والرابط محذوف لأنه ضمير منصوب.
والفتح: تمثيلية لإِعطاء الرحمة إذ هي من النفائس التي تشبه المدخرات المتنافس فيها فكانت حالة إعطاء الله الرحمة شبيهة بحالة فتح الخزائن للعطاء، فأشير إلى هذا التمثيل بفعل الفتح، وبيانُه بقوله: {من رحمة} قرينة الاستعارة التمثيلية.
والإِمساك حقيقته: أخذ الشيء باليد مع الشدّ عليه بها لئلا يسقط أو ينفلت، وهو يتعدّى بنفسه، أو هو هنا مجاز عن الحبس والمنع ولذلك قوبل به الفتح.
وأما قولهم: أمسك بكذا، فالباء إمّا لتوكيد لصوق المفعول بفعله كقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10]، وإمّا لتضمينه معنى الاعتصام كقوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} [لقمان: 22].
وقد أوهم في القاموس واللسان والتاج أنه لا يتعدى بنفسه.
فقوله هنا: {وما يمسك} حذف مفعوله لدلالة قوله: {ما يفتح الله للناس من رحمة} عليه.
والتقدير: وما يمسكه من رحمة، ولم يُذكر له بيان استغناءً ببيانه من فعل.
والإِرسال: ضد الإِمساك، وتعدية الإِرسال باللام للتقوية لأن العامل هنا فرع في العمل.
و{من بعده} بمعنى: من دونه كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] {فبأي حديث بعد الله} [الجاثية: 6]، أي فلا مرسل له دون الله، أي لا يقدر أحد على إبطال ما أراد الله من إعطاء أو منع والله يحكم لا معقب لحكمه.
وتذكير الضمير في قوله: {فلا مرسل له} مراعاة للفظ {ما} لأنها لا بيان لها، وتأنيثه في قوله: {فلا ممسك لها} لِمراعاة بيان {ما} في قوله: {من رحمة} لقربه.
وعطف {وهو العزيز الحكيم} تذييل رجّح فيه جانب الإِخبار فعطف، وكان مقتضى الظاهر أن يكون مفصولًا لإِفادة أنه يفتح ويمسك لحكمة يعلمها، وأنه لا يستطيع أحد نقضَ ما أبْرَمَه في فتح الرحمة وغيره من تصرفاته لأن الله عزيز لا يمكن لغيره أن يغلبه، فأنّ نقض ما أبرم ضرب من الهوان والمذلّة.
ولذلك كان من شعار صاحب السؤدد أنه يبرم وينقض قال الأعشى:
علقمَ ما أنت إلى عامر ** الناقِض الأوتار والواتر

وضمير {لها} وضمير {له} عائدان إلى {ما} من قوله: {ما يفتح الله للناس من رحمة}، روعي في تأنيث أحد الضميرين معنى {ما} فإنه اسم صادق على {رحمة} وقد بُيّن بها، وروعي في تذكير الضمير الآخر لفظ {ما} لأنه لفظ لا علامة تأنيث فيه.
وهما اعتباران كثيران في مثله في فصيح الكلام، فالمتكلم بالخيار بين أيّ الاعتبارين شاء.
والجمع بينهما في هذه الآية تفنن.
وأوثر بالتأنيث ضمير {ما} لأنها مبيّنة بلفظ مؤنث وهو {من رحمة}.
{يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السماء والأرض}.
لما جرى ذكر رحمة الله التي تعم الناس كلهم أقبل على خطابهم بأن يتذكروا نعمة الله عليهم الخاصة وهي النعمة التي تخص كل واحد بخاصته فيأتلف منها مجموع الرحمة العامة للناس كلهم وما هي إلا بعض رحمة الله بمخلوقاته.
والمقصود من تذكر النعمة شكرها وقدرها قدرها.
ومن أكبر تلك النعم نعمة الرسالة المحمدية التي هي وسيلة فوز الناس الذين يتبعونها بالنعيم الأبدي.
فالمراد بالذكر هنا التذكر بالقلب وباللسان فهو من عموم المشترك أو من إرادة القدر المشترك فإن الذكر باللسان والذكر بالقلب يستلزم أحدُهما الآخرَ وإلا لكان الأول هذيانًا والثاني كتمانًا.
قال عمر بن الخطاب: أفضل من ذكر الله باللسان ذكرُ الله عند أمره ونهيه، أي وفي كليهما فضل.
ووصفت النعمة ب {عليكم} لأن المقصود من التذكر التذكر الذي يترتب عليه الشكر، وليس المراد مطلق التذكر بمعنى الاعتبار والنظر في بديع فضل الله، فذلك له مقام آخر، على أن قوله: {هل من خالق غير الله يرزقكم} قد تضمن الدعوة إلى النظر في دليل الوحدانية والقدرة والفضل.
والاستفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك اقتَرَن ما بعده ب {مِنْ} التي تُزاد لتأكيد النفي، واختير الاستفهام ب {هل} دون الهمزة لِما في أصل معنى {هل} من الدلالة على التحقيق والتصديق لأنها في الأصْل بمعنى قد وتفيد تأكيد النفي.
والاهتمام بهذا الاستثناء قُدّم في الذكر قبل ما هو في قوة المستثنى منه.
وجعل صفة ل {خالق} لأن {غير} صالحة للاعتبارين ولذلك جرت القراءات المشهورة على اعتبار {غير} هنا وصفًا ل {خالق}، فجمهور القراء قرأوه برفع {غير} على اعتبار محلِّ {خالق} المجرور ب {من} لأن محله رفع بالابتداء.
وإنما لم يظهر الرفع للاشتغال بحركة حرف الجر الزائد.
وقرأه حمزة والكسائي وأبو جعفر وخَلف بالجر على إِتْباع اللفظ دون المحل.
وهما استعمالان فصيحان في مثله اهتم بالتنبيه عليهما سيبويه في كتابه.
وجملة {يرزقكم} يجوز أن تكون وصفًا ثانيًا ل {خالق}.
ويجوز أن تكون استئنافًا بيانيًا.
وجُعل النفي متوجهًا إلى القيد وهو جملة الصفة كما هي سُنّته في الكلام المقيّد لأن المقصود التذكير بنعم الله تعالى ليشكروا، ويكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقية عن غيره تعالى لأنه لو كان غيره خالقًا لكان رازقًا إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقية لأن المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك والعدم فيكون خلقه عبثًا ينزه عنه الموصوف بالإِلهية المقتضية للحكمة فكانت الآية مذكرة بنعمتي الإِيجاد والإِمداد.
وزيادة {من السماء والأرض} تذكير بتعدد مصادر الأرزاق؛ فإن منها سماوية كالمطر الذي منه شراب، ومنه طُهور، وسبب نبات أشجار وكَلأٍ، وكالمَنّ الذي ينزل على شجر خاص من أندية في الجوّ، وكالضياء من الشمس، والاهتداء بالنجوم في الليل، وكذلك أنواع الطير الذي يُصَاد، كلّ ذلك من السماء.
ومن الأرض أرزاق كثيرة من حبوب وثمار وزيوت وفواكه ومعادن وكلأٍ وكمأة وأسماك البِحار والأنهار.
وفي هذا القيد فائدة أخرى وهي دفع توهم الغفّل أن أرزاقًا تأتيهم من غير الله من أنواع العطايا التي يعطيها بعضهم بعضًا، والمعاوضات التي يعاوضها بعضهم مع بعض فإنها لكثرة تداولها بينهم قد يلهيهم الشغل بها عن التدبر في أصول منابعها فإن أصول موادها من صنع الله تعالى فآل ما يُعطاه الناس منها إلى أنه من الله على نحو ما عرض للذي حاجَّ إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم: {ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] فهذا رجل محكوم بقتله ها أنا ذا أعفو عنه فقد أحييتُه، وهذا رجل حيّ ها أنا ذا آمر به فيقتل فأنا أميت.
فانتقل إبراهيم إلى أن قال له: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} [البقرة: 258].
{السماء والأرض لاَ إله إِلاَّ هُوَ}.
هذا نتيجة عقب ذكر الدليل إذ رتّب على انفراده بالخالقية والرازقية انفراده بالإِلهية لأن هذين الوصفين هما أظهر دلائل الإِلهية عند الناس فجملة {لا إله إلا هو} مستأنفة.
وفرع عليه التعجيب من انصرافهم عن النظر في دلائل الوحدانية بجملة {فأنى تؤفكون}.
و{أنَّى} اسم استفهام يجيء بمعنى استفهام عن الحالة أو عن المكان أو عن الزمان.
والاستفهام عن حالة انصرافهم هو المتعين هنا وهو استفهام مستعمل في التعجيب من انصرافهم عن الاعتراف بالوحدانية تبعًا لمن يصرفهم وهم أولياؤهم وكبراؤهم.
و{تؤفكون} مبنيّ للمجهول من أَفَكَه من باب ضربه، إذا صرفه وعدل به، فالمصروف مأفوك.
وحذف الفاعل هنا لأن آفكيهم أصناف كثيرون، وتقدم في قوله تعالى: {قاتلهم الله أنى يؤفكون} في سورة براءة (30).
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}.
عطف على جملة {اذكروا نعمت الله عليكم} [فاطر: 3] أي وإن استمرّوا على انصرافهم عن قبول دعوتك ولم يشكروا النعمة ببعثك فلا عجب فقد كذب أقوام من قبلهم رسلًا من قبل.
وهو انتقال من خطاب الناس إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لمناسبة جريان خطاب الناس على لسانه فهو مشاهد لخطابهم، فلا جرم أن يوجه إليه الخطاب بعد توجيهه إليهم إذ المقام واحد كقوله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك} [يوسف: 29].
وإذ قد أبان لهم الحجة على انفراد الله تعالى بالإِلهية حين خاطبهم بذلك نُقِلَ الإِخبار عن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أنكروا قبوله منه فإنه لما استبان صدقه في ذلك بالحجة ناسب أن يُعرَّض إلى الذين كذبوه بمثل عاقبة الذين كذبوا الرسل من قبله وقد أدمج في خلال ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه إياه بأنه لم يكن مقامه في ذلك دون مقام الرسل السابقين.
وجيء في هذا الشرط بحرف {إِنْ} الذي أصله أن يعلق به شرط غير مقطوع بوقوعه تنزيلًا لهم بعد ما قدمت إليهم الحجة على وحدانية الله المصدقة لما جاءهم به الرسول عليه الصلاة والسلام فكذبوه فيه، منزلة من أيقن بصدق الرسول فلا يكون فرض استمرارهم على تكذيبه إلا كما يفرض المحال.
وهذا وجه إيثار الشرط هنا بالفعل المضارع الذي في حيّز الشرط يتمخض للاستقبال، أي إن حدث منهم تكذيب بعد ما قرع أسماعهم من البراهين الدامغة.
والمذكور جوابًا للشرط إنما هو سبب لجواب محذوف إذ التقدير: وإن يكذبوك فلا يحزنك تكذيبهم إذ قد كذبت رسل من قبلك فاستُغني بالسبب عن المسبب لدلالته عليه.
وإنما لم يعرّف {رسل} وجيء به منكّرًا لما في التنكير من الدلالة على تعظيم أولئك الرسل زيادة على جانب صفة الرسالة من جانب كثرتهم وتنوع آيات صدقهم ومع ذلك كذبهم أقوامهم.
وعطف على هذه التسلية والتعريض ما هو كالتأكيد لهما والتذكير بعاقبة مضمونها بأن أمر المكذبين قد آل إلى لقائهم جزاء تكذيبهم من لدن الذي ترجع إليه الأمور كلها، فكان أمر أولئك المكذبين وأمر أولئك الرسل في جملة عموم الأمور التي أرجعت إلى الله تعالى إذ لا تخرج أمورهم من نطاق عموم الأمور.
وقد اكتسبت هذه الجملة معنى التذييل بما فيها من العموم.
و{الأمور} جمع أمر وهو الشأن والحال، أي إلى الله ترجع الأحوال كلها يتصرف فيها كيف يشاء، فتكون الآية تهديدًا للمكذبين وإنذارًا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا}.