فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أعيد خطاب الناس إعذارًا لهم وإنذارًا بتحقيق أن وعد الله الذي وعده من عقابه المكذبين في يوم البعث هو وعد واقع لا يتخلف وذلك بعد أن قدّم لهم التذكير بدلائل الوحدانية المشتملة عليْها، مع الدلالة على نعم الله عليهم ليعلموا أنه لا يستحق العبادة غيره وأنه لا يتصف بالإِلهية الحق غيره.
وبعد أن أشار إليهم بأن ما أنتجته تلك الدلائل هو ما أنبأهم به الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلمون صدقه فيما أنبأهم من توحيد الله وهو أكبر ما قرع آذانهم وأحرج شيء لنفوسهم، فإذا تأيّد بالدليل البرهاني تمهّد السبيل لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبرهم به من وعد الله وهو يوم البعث لأنه لما تبين صدقه في الأولى يعلم صدقه في الثانية بحكم قياس المساواة.
والخطاب للمشركين، أوْ لَهم وللمؤمنين لأن ما تلاه صالح لموعظة الفريقين كل على حسب حاله.
وتأكيد الخبر ب {إنَّ} إمّا لأن الخطاب للمنكرين، وإمّا لتغليب فريق المنكرين على المؤمنين لأنهم أحوج إلى تقوية الموعظة.
والوعد مصدر، وهو الإِخبار عن فعل المخبِر شيئًا في المستقبل، والأكثر أن يكون فيما عدا الشر، ويُخص الشر منه باسم الوعيد، يعمهما وهو هنا مستعمل في القدر المشترك.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} الآية في سورة البقرة (268).
وإضافته إلى الاسم الأعظم توطئة لكونه حقًّا لأن الله لا يأتي منه الباطل.
والحق هنا مقابل الكذب.
والمعنى: أن وعد الله صادق.
ووصفه بالمصدر مبالغة في حقيته.
والمراد به: الوعد بحلول يوم جزاء بعد انقضاء هذه الحياة كما دل عليه تفريع {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} الآية.
والغُرور بضم الغين ويقال التغرير: إيهام النفع والصلاح فيما هو ضرّ وفساد.
وتقدم عند قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا} في سورة آل عمران (196) وعند قوله: {زخرف القول غرورًا} في سورة الأنعام (112).
والمراد بالحياة: ما تشتمل عليه أحوال الحياة الدنيا من لهو وترف، وانتهائها بالموت والعدم مما يسول للناس أن ليس بعد هذه الحياةِ أخرى.
وإسناد التغرير إلى الحياة ولو مع تقدير المضاف إسناد مجازي لأن الغَارَّ للمرء هو نفسه المنخدعة بأحوال الحياة الدنيا فهو من إسناد الفعل إلى سببه والباعث عليه.
والنهي في الظاهر موجه إلى الناس والمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس، فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإِسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة.
ونظيره كثير في كلام العرب كقولهم: لا أعرفنَّك تفعل كذا، ولا أرَيَنَّك ههنا، {ولا يجرمنكم شنآن قوم} [المائدة: 2]، وتقدم نظيره في قوله تعالى: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} آخر آل عمران (196).
وكذلك القول في قوله تعالى: {ولا يغرنكم بالله الغرور}.
والغرور بفتح الغين: هو الشديد التغرير.
والمراد به الشيطان، قال تعالى: {فدلاهما بغرور} [الأعراف: 22].
وهو يغير الناس بتزيين القبائح لهم تمويهًا بما يلوح عليها من محاسن تلائم نفوس الناس.
والباء في قول {بالله} للملابسة وهي داخلة على مضاف مقدر أي، بشأن الله، أي يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غرّ يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عُدّي إليه بواسطة حرف الجرّ، فقد يعدّى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: 6] وقوله في سورة الحديد (14): {وغركم بالله الغرور} وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف، أي بحال من أحواله.
وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإِيجاز.
وليست هذه الباء باء السببية.
وقد تضمنت الآية غرورين: غرورًا يغتَرّه المرء من تلقاء نفسه ويزيّن لنفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيرًا ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفى مضارّه في بادىء الرأي ولا يظنّ أنه من الشيطان.
وغرورًا يتلقاه ممن يغرّه وهو الشيطان، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإِنس والجن، فتُرِك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل والأهم، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان.
وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى: {من كان يريد العزة فللّه العزة جميعًا} [فاطر: 10].
{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}.
لما كان في قوله: {ولا يغرنكم بالله الغرور} [فاطر: 5] إبهام مّا في المراد بالغَرور عُقب ذلك ببيانه بأن الغَرور هو الشيطان ليتقررَ المسند إليه بالبيان بعد الإِبهام.
فجملة {إن الشيطان لكم عدو} تتنزل من جملة {ولا يغرنكم بالله الغرور} منزلة البيان من المبيَّن فلذلك فصلت ولم تعطف، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغَرور أن الغرور هو الشيطان.
وأُظهر اسم الشيطان في مقام الإِضمار للإِفصاح عن المراد بالغَرور أنه الشيطان وإثارةُ العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحًا وتضمّنًا، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} [البقرة: 36].
وتلك عداوة مودَعة في جبلَّتِه كعداوة الكلب للهرّ لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسَّنة مزينة، وشواهد ذلك تظهر للإِنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27].
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لقصد تحقيقه لأنهم بغفلتهم عن عداوة الشيطان كحال من ينكر أن الشيطان عدوّ.
وتقديم {لكم} على متعلَّقة للاهتمام بهذا المتعلّق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوًّا لأنهم إذا علموا أنه عدوّ لهم حقّ عليهم اتخاذه عدوًّا وإلا لكانوا في حماقة.
وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان.
والكلام على لفظ عدوّ تقدم عند قوله تعالى: {فإن كان من قوم عدو لكم} في سورة النساء (92).
واللام في لكم لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإِضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافًا إليه صرح باللام ليحصل معنى الإِضافة.
وإنما أمر الله باتخاذ العدوّ عدوًا ولم يندب إلى العفو عنه والإِغضاء عن عداوته كما أمر في قوله: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدوّ لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت: 34] ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1] الآية، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملّة لأن مناوأتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة: 34] فعداوة الشيطان لما كانت جبلّية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوًّا لأنه إذا لم يتخذ عدوًّا لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته.
ومن لوازم اتخاذه عدوًّا العملُ بخلاف ما يدعو إليه لتجنب مكائده ولمقته بالعمل الصالح.
فالإِيقاع بالناس في الضرّ لا يسلم منه أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمِر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وَطَره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئزُّ وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوِسَه إلى أن يبلغ حدّ الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: {إيه يا بنَ الخطاب ما رآك الشيطان سالكًا فَجًّا إلا سلك فجًَّا غير فَجِّك} وورد في الصحيح «إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان» الحديث.
وورد «أنه ما رِيءَ الشيطانُ أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة».
وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوًّا بتحذير من قبُول دعوته وحثَ على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضرّ أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير.
وهذا يؤكد الأمرَ باتخاذه عدوًّا لأن أشدّ الناس تضررًا به هم حزبه وأولياؤه.
وجملة {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} تعليل لجملة {فاتخذوه عدوًا}.
وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو عن تلك الغاية ولو في وقت مّا.
وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضًا في معنى التذييل لما قبلها كله.
ومقتضى وقوع فعل {يدعو} في حيّز القصر أن مفعوله وهو قوله: {حزبه} هو المقصود من القصر، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه، والشيطان يدعو الناس كلّهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يركن إلى دعوته إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى له: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [الحجر: 42].
وحكى الله عن الشيطان بقوله: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [الحجر: 39، 40] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف.
والتقدير: إنما يدعو حزبه دعوة بالغة مقصده.
والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة.
واللام في قوله: {ليكونوا من أصحاب السعير} يجوز أن تكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعيًا لغاية إيقاع الآدميين في العذاب نكاية بهم، وهي علة للدعوة مخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفاءها من جملة كيده وتزيينه، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8] قال ابن عطية: لأنه لم يدْعُهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك.
و{السعير}: النار الشديدة، وغلب في لسان الشرع على جنهم.
{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}.
استئناف ابتدائي يفيد مفاد الفذلكة والاستنتاج مما تقدم.
وهذا الاستئناف يومىء إلى أن الذين كفروا هم حزب الشيطان لأنه لما ذكر أن حزبه من أصحاب السعير وحكم هنا بأن الذين كفروا لهم عذاب شديد علم أن الذين كفروا من أصحاب السعير إذ هو العذاب الشديد فعلم أنهم حزب الشيطان بطريقة قياس مطويّ، فالذين كفروا هم حزب الشيطان لعكوفهم على متابعته وإن لم يُعلنوا ذلك لاقتناعه منهم بملازمة ما يمليه عليهم.
وأما المؤمنون العصاة فليسوا من حزبه لأنهم يعلمون كيده ولكنهم يتبعون بعض وسوسته بدافع الشهوات وهم مع ذلك يلعنونه ويتبرأون منه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم».
وذكر {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} تتميم بأن الذين لم يكونوا من حزبه قد فازوا بالخيرات.
وقد أشارت الآية إلى طرفين في الضلال والاهتداء وطوت ما بين ذينك من المراتب ليُعلم أن ما بين ذلك ينالهم نصيبهم من أشبه أحوالهم بأحوال أحد الفريقين على عادة القرآن في وضع المسلم بين الخوف والرجاء، والأمل والرهبة.
{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}.
لما جرى تحذير الناس من غرور الشيطان وإيقاظهم إلى عداوته للنوع الإِنساني، وتقسيم الناس إلى فريقين: فريق انطلت عليه مكائد الشيطان واغتروا بغروره ولم يناصبوه العداء، وفريق أخذوا حذرهم منه واحترسوا من كيده وتجنبوا السير في مسالكه، ثم تقسيمُهم إلى كافر معذب ومؤمن صالح مُنعم عليه، أعقب ذلك بالإِيماء إلى استحقاق حزب الشيطان عذاب السعير، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يَخلُصوا من حبائل الشيطان من أمة دعوته بأسلوب الملاطفة في التسلية ففُرع على جميع ما تقدم قولُه: {أفمن زين له سوء عمله فراءه حسنًا} إلى قوله: {بما يصنعون} فابتداؤه بفاء التفريع ربط له بما تقدم ليعود الذهن إلى ما حكي من أحوالهم، فالتفريع على قوله: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6]، ثم بإبراز الكلام المفرّع في صورة الاستفهام الإِنكاري، واجتلاب الموصول الذي تومىء صلته إلى علة الخَبَر المقصود، فأشير إلى أن وقوعه في هذه الحالة ناشىء من تزيين الشيطان له سوء عمله، فالمزيِّن للأعمال السيئة هو الشيطان قال تعالى: {وزين لهم الشيطان أعمالهم} [النمل: 24] فرأوا أعمالهم السيئة حسنة فعكفوا عليها ولم يقبلوا فيها نصيحة ناصح، ولا رسالة مرسَل.
و{مَنْ} موصولة صادقة على جمع من الناس كما دل عليه قوله في آخر الكلام {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} بل ودل عليه تفريع هذا على قوله: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6] و{مَن} في موضع رفع الابتداء والخبر عنه محذوف إيجازًا لدلالة ما قبله عليه وهو قوله: {الذين كفروا لهم عذاب شديد} [فاطر: 7] عَقِب قوله: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} فتقديره بالنسبة لما استحقه حزب الشيطان من العذاب: أفأنت تَهدي من زيّن له سوء عمله فرآه حسنًا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وتقديره بالنسبة إلى تسلية النبي: لا يحزنك مصيره فإن الله مطلع عليه.