فصل: تفسير الآيات (9- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (9- 11):

قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر تعالى أنه لابد من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذب، وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى الذي يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم فيحول بينه وبين النفوذ، وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض المحيي لميت الحبوب الهوى، وكان الإتيان به في وقت دون آخر دالًا على القدرة بالاختيار، قال عاطفًا على جملة {إن وعد الله حق} المبني على النظر، وهو الإخراج من العدم مبينًا لقدرته على ما وعد به: {والله} أي الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها {الذي} ولما كان المراد الإيجاد من العدم، عبر بالماضي مسندًا إليه لأنه الفاعل الحقيقي فقال: {أرسل الرياح} أي أوجدها من العدم مضطربة فيها، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لا ثابتة كالأرض، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض.
ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضًا، قال مسندًا إلى الرياح لأنها السبب، معبرًا بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة، وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة تنبيهًا للسامع على ذلك وحثًّا له على تدبره وتصوره: {فتثير} أي بتحريكه لها إذا أراد {سحابًا} أي أنه أجرى سبحانه سنته أن تظهر حكمته بالتدريج.
ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت، عبر بالمضارع.
ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان، التفت على الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال: {فسقناه} أي السحاب معبرًا بالماضي تنبيهًا على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال: {إلى بلد ميت}.
ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال: {فأحيينا به الأرض} ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون، قال رافعًا للمجاز بكل تقدير وموضحًا كل الإيضاح للتصوير: {بعد موتها} ولما أوصل الأمر إلى غايته، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله: {كذلك} أي مثل الإحياء لميت النبات {النشور} حسًّا للأموات، ومعنى للقلوب والنبات، قال القشيري: إذا أراد إحياء قلب يرسل أولًا رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشىء فيه سحاب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يأتي مطر الحق فينبت في القلب أزهار البسط وأنوار الروح، ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الإنس.
ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقًا من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسه الناس لاسيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزًّا} [مريم: 81] قال مستنتجًا من ذلك: {من كان} أي في وقت من الأوقات {يريد العزة} أي أن يكون محتاجًا إليه غيره وهو غني عن غيره غالبًا غير مغلوب {فلله} أي وحده {العزة جميعًا} أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها ومن طلب الشيء من غير صاحب خاب؛ قال ابن الجوزي: وقد روي عن أنس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أرادة عزة الدارين فليطع العزيز».
ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال: {إليه} أي لا إلى غيره {يصعد الكلم الطيب} أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سرًا علنًا لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه.
ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالًا على علوه بتغيير السياق: {والعمل الصالح يرفعه} هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم العمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل- انتهى، وقد قيل:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ** حتى يصدق ما يقول فعال

فإذا وزنت مقاله بفعاله ** فتوازنا فإخاء ذاك جمال

ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال: {والذين يمكرون} أي يعملون على وجه الستر المكرات {السيئات} أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة {لهم عذاب شديد} كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة.
ولما كان ما ذكر من مكرهم موجبًا لتعرف حاله هل أفادهم شيئًا؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال: {ومكر أولئك} أي البعداء من الفلاح {هو} أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقًا لقوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر {يبور} أي يكسد ويفسد ويهلك، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك: حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيىء وحذف وضعه المكر السيىء ودل عليه برفعه للعمل الصالح.
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق، أتبعه ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبينًا لبعض آيات الأنفس عاطفًا على ما عطف عليه {والله الذي أرسل الرياح} الذي هو من آيات الآفاق، منبهًا على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال: {خلقكم من تراب} أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجًا لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلًا ورأسًا، وإليه الإشارة بقوله: {ثم} أي بعد ذلك من الزمان والرتبة خلقكم {من نطفة} أي جعلها أصلًا ثانيًا مثليًا من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجًا منه ثم بعد إنهاء التدبير زمانًا ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار {ثم جعلكم أزواجًا} بين ذكور وإناث، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل الطبائع، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة.
ولما كان الحمل أيضًا مكذبًا لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع، أشار إليه بقوله مؤكدًا ردًا عليهم إعلامًا بأن ذلك إنما هو بقدرته: {وما تحمل} أي في البطن بالحبل {من أنثى} دالًا بالجار على كمال الاستغراق.
ولما كان الوضع أيضًا كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال: {ولا تضع} أي حملًا {إلا} مصحوبًا {بعلمه} في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصًا بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه، فلا يكون إلا بقدرته، فما شاء أتمه، وما شاء أخرجه.
ولما كان ما بعد الولادة أيضًا دالًا على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة، دل عليه بقوله دالًا بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد: {وما يعمر من معمر} أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حسًا، قال قتادة: ستين، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه {ولا بنقص من عمره} أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلًا في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصًا لولاه لطال عمره، فالمعمر المذكور المراد به الفعل، والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر.
ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال: {إلا في كتاب} مكتوب فيه عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله.
ولما كان ذلك أمرًا لا يحيط به العد، ولا يحصره الحد، فكان في عداد ما ينكره الجهلة، قال مؤكدًا لسهولته: {إن ذلك} أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل {على الله} أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده، خاصة {يسير}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}.
هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار وذلك لأن الهواء قد يسكن، وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى اليسار، وفي حركاته المختلفة قد ينشىء السحاب، وقد لا ينشيء، فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر ومؤثر مقدر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال تعالى: {والله الذي أَرْسَلَ} بلفظ الماضي وقال: {فَتُثِيرُ سحابا} بصيغة المستقبل، وذلك لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعل الله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زمانًا ولا جزًا من الزمان، فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان وكأنه فرغ من كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال، ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهو يؤلف في زمان فقال: {تُثِيرُ} أي على هيئتها.
المسألة الثانية:
قال: {أُرْسِلَ} إسنادًا للفعل إلى الغائب وقال: {سقناه} بإسناد الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله: {فَأَحْيَيْنَا} وذلك لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال، ثم لما عرف قال: أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض فنفي الأول كان تعريفًا بالفعل العجيب، وفي الثاني كان تذكيرًا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء وقوله: {سقناه}، {وَأَحْيَيْنَا} بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرناه من الفرق بين قوله: {أُرْسِلَ} وبين قوله: {تُثِيرُ}.
المسألة الثالثة:
ما وجه التشبيه بقوله: {كَذَلِكَ النشور} فيه وجوه: أحدها: أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة وثانيها: كما أن الريح يجمع القطع السحابية كذلك يجمع بين أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء وثالثها: كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت.
المسألة الرابعة:
ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فنقول لما ذكر الله أنه فاطر السموات والأرض، وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} [فاطر: 1] ذكر من الأمور الأرضية الرياح وإرسالها بقوله: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح}.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}.
لما بين برهان الإيمان إشارة إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إنهم ما كانوا في طاعة أحد ولم يكن لهم من يأمرهم وينهاهم، فكانوا ينحتون الأصنام وكانوا يقولون إن هذه آلهتنا، ثم إنهم كانوا ينقلونها مع أنفسهم وأية عزة فوق المعية مع المعبود فهم كانوا يطلبون العزة وهي عدم التذلل للرسول وترك الأتباع له، فقال إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة، فهي كلها لله ومن يتذلل له فهو العزيز، ومن يتعزز عليه فهو الذليل وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال في هذه الآية: {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} وقال في آية أخرى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فقوله: {جَمِيعًا} يدل على أن لا عزة لغيره فنقول قوله: {فَلِلَّهِ العزة} أي في الحقيقة وبالذات وقوله: {وَلِرَسُولِهِ} أي بواسطة القرب من العزيز وهو الله وللمؤمنين بواسطة قربهم من العزيز بالله وهو الرسول، وذلك لأن عزة المؤمنين بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم ألا ترى قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31].