فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} تقرير لبيان العزة، وذلك لأن الكفار كانوا يقولون نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده، لأن البعد من الملك ذلة، فقال تعالى: إن كنتم لا تصلون إليه، فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب فمن قبل كلامه وصعد إليه فهو عزيز ومن رد كلامه في وجهه فهو ذليل، وأما هذه الأصنام لا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا علم لها فكل أحد يمسها وكذلك يرى علمكم فمن عمل صالحًا رفعه إليه، ومن عمل سيئًا رده عليه فالعزيز من الذي عمله لوجهه والذليل من يدفع الذي عمله في وجهه، وأما هذه الأصنام فلا تعلم شيئًا فلا عزيز يرفع عندها ولا ذليل، فلا عزة بها بل عليها ذلة، وذلك لأن ذلة السيد ذلة للعبد ومن كان معبوده وربه وإلهه حجارة أو خشبًا ماذا يكون هو!.
المسألة الثالثة:
في قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} وجوه: أحدها: كلمة لا إله إلا الله هي الطيبة وثانيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر طيب ثالثها: هذه الكلمات الأربع وخامسة وهي تبارك الله والمختار أن كل كلام هو ذكر الله أو هو لله كالنصيحة والعلم، فهو إليه يصعد.
المسألة الرابعة:
قوله تعالى: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} وفي الهاء وجهان:
أحدهما: هي عائدة إلى الكلم الطيب أي العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب ورد في الخبر «لا يقبل الله قولًا بلا عمل».
وثانيهما: هي عائدة إلى العمل الصالح وعلى هذا في الفاعل الرافع وجهان: أحدهما: هو الكلم الطيب يرفع العمل الصالح، وهذا يؤيده قوله تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [النحل: 97] وثانيهما: الرافع هو الله تعالى.
المسألة الخامسة:
ما وجه ترجيح الذكر على العمل على الوجه الثاني حيث يصعد الكلم بنفسه ويرفع العمل بغيره، فنقول الكلام شريف، فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ} [الإسراء: 70] أي بالنفس الناطقة والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره، والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة إن كان عن صدق أمن عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان ظاهرًا أمن في نفسه ودمه وأهله وحرمه في الدنيا ولا كذلك العمل بالجوارح، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 82] ووجه آخر: القلب هو الأصل وقد تقدم ما يدل عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» وما في القلب لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل، فالقول أقرب إلى القلب من الفعل، ألا ترى أن الإنسان لا يتكلم بكلمة إلا عن قلب، وأما الفعل قد يكون لا عن قلب كالعبث باللحية ولأن النائم لا يخلو عن فعل من حركة وتقلب وهو في أكثر الأمر لا يتكلم في نومه إلا نادرًا، لما ذكرنا إن الكلام بالقلب ولا كذلك العمل، فالقول أشرف.
المسألة السادسة:
قال الزمخشري المكر لا يتعدى فبم انتصاب السيئات؟ وقال بأن معناه الذين يمكرون المكرات السيئات فهو وصف مصدر محذوف، ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال تعالى: {الذين يَعْمَلُونَ السيئات} [العنكبوت: 4] وفي قوله: {الذين يَعْمَلُونَ السيئات} يحتمل ما ذكرناه أن يكون السيئات وصفًا لمصدر تقديره الذين يعملون العملات السيئات، وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} إشارة إلى بقائه وارتقائه {وَمَكْرُ أولئك} أي العمل السيئ {وَهُوَ يَبُورُ} إشارة إلى فنائه.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}.
قد ذكرنا مرارًا أن الدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا في الأفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] فلما ذكر دلائل الآفاق من السموات وما يرسل منها من الملائكة والأرض وما يرسل فيها من الرياح شرع في دلائل الأنفس، وقد ذكرنا تفسيره مرارًا وذكرنا ما قيل من أن قوله: {مِّن تُرَابٍ} إشارة إلى خلق آدم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} إشارة إلى خلق أولاده، وبينا أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل {خَلَقَكُمْ} خطاب مع الناس وهم أولاد آدم كلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء، والغذاء بالآخرة ينتهي إلى الماء والتراب، فهو من تراب صار نطفة.
وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ} إشارة إلى كمال العمل، فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد، كيف والأم الحاملة لا تعلم منه شيئًا، فلما ذكر بقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ} كمال قدرته بين بقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} كمال علمه ثم بين نفوذ إرادته بقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كتاب} فبين أنه هو القادر العالم المريد والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة، فكيف يستحق شيء منها العبادة، وقوله: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي الخلق من التراب ويحتمل أن يكون المراد التعمير والنقصان على الله يسير، ويحتمل أن يكون المراد أن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير والأول أشبه فإن اليسير استعماله في الفعل أليق. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: {يَصْعَدُ}؛ وَالصُّعُودُ هُوَ الْحَرَكَةُ إلَى فَوْقَ، وَهُوَ الْعُرُوجُ أَيْضًا.
وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ عَرْضٌ، وَلَكِنْ ضَرَبَ صُعُودَهُ مَثَلًا لِقَبُولِهِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الثَّوَابِ فَوْقَ، وَمَوْضِعَ الْعَذَابِ أَسْفَلَ.
وَالصُّعُودُ رِفْعَةٌ وَالنُّزُولُ هَوَانٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ التَّوْحِيدُ الصَّادِرُ عَنْ عَقِيدَةٍ طَيِّبَةٍ.
الثَّانِي: مَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ.
الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ}: هُوَ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ: {يَرْفَعُهُ}: قِيلَ الْفَاعِلُ فِي يَرْفَعُهُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ أَيْ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، كَمَا أَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ.
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الَّذِي يُصْعِدُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، وَقَدْ قَالَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ.
فَالْأَوَّلُ حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّافِعُ الْخَافِضُ.
وَالثَّانِي مَجَازٌ؛ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ سَائِغٌ.
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كَلَامَ الْمَرْءِ بِذِكْرِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يَنْفَعْ؛ لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إذَا وَقَعَ شَرْطًا فِي الْقَوْلِ أَوْ مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّهُ لَا قَبُولَ لَهُ إلَّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ وَلَا مُرْتَبِطًا بِهِ فَإِنَّ كَلِمَهُ الطَّيِّبَ يُكْتَبُ لَهُ، وَعَمَلُهُ الصَّالِحُ يُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَتَقَعُ الْمُوَازَنَةُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يُحْكَمُ لَهُ بِالْفَوْزِ وَالرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَكَرُوا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ، فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعُمُومٍ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ.
وَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي الصَّلَاةِ بِشُرُوطِهَا، فَلَا يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا بِثُبُوتِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ مَا انْعَقَدَتْ بِهِ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ.
وَقَدْ تَعَلَّقَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ».
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ مُتَعَارِضَةٌ فَتَبْقَى الصَّلَاةُ عَلَى صِحَّتِهَا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ}.
مَيّت ومَيْت واحد، وكذا مَيِّتَة ومَيْتة؛ هذا قول الحُذّاق من النحويين.
وقال محمد بن يزيد: هذا قول البصريين، ولم يستثن أحدًا، واستدلّ على ذلك بدلائل قاطعة.
وأنشد:
ليس من مات فاستراح بِمَيْتٍ ** إنما الْميت ميّت الأحياء

إنما المَيْت من يعيش كئيبًا ** كاسِفًا بالُه قليل الرجاء

قال: فهل ترى بين مَيّت ومَيْت فرقا، وأنشد:
هَيْنون لَيْنون أيسارٌ بنو يَسَر ** سُواس مَكْرُمة أبناء أَيْسار

قال: فقد أجمعوا على أن هَيْنون وَلَيْنون واحد، وكذا مَيّت ومَيْت، وسَيّد وسَيْد.
قال: {فَسُقْنَاهُ} بعد أن قال: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} وهو من باب تلوين الخطاب.
وقال أبو عبيدة: سبيله فَتَسُوقُه، لأنه قال: {فَتُثِيرُ سَحَابًا}.
الزمخشري: فإن قلت: لم جاء {فتثير} على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحابَ، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية؛ وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تُستغرب، أو تهمّ المخاطب أو غير ذلك؛ كما قال تأبَّط شَرًّا:
بأني قد لقيت الغول تهوى ** بسَهْب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دَهش فخرت ** صريعًا لليدين وللجران

لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يُبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدّة.
وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل: فسقنا وأحيينا معدولًا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه.
وقراءة العامة {الرياح} وقرأ ابن مُحَيْصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي {الريح} توحيدًا.
وقد مضى بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفى.
{كَذَلِكَ النشور} أي كذلك تُحيون بعد ما متُّم؛ من نشر الإنسان نشورًا.
فالكاف في محل الرفع؛ أي مثل إحياء الموت نشر الأموات.
وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أمَا مررتَ بوادي أهلِك مُمْحِلًا ثم مررت به يهتّز خَضِرًا» قلت: نعم يا رسول الله قال: «فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه» وقد ذكرنا هذا الخبر في الأعراف وغيرها.
قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة.
وكذا قال غيره من أهل العلم.
أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها؛ لأن العزة إذا كانت تؤدّي إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلّة، والعزةُ التي لا ذُلّ معها لله عز وجل.
{جَمِيعًا} منصوب على الحال.
وقدّر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزّةَ والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يُعِزه في الآخرة والدنيا.
قلت: وهذا أحسن، وروي مرفوعًا على ما يأتي.
{فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره؛ فتكون الألف واللام للعهد عند العالمِين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ} [يونس: 65].
ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبّه ذوي الأقدار والهمم مِن أين تنال العزة ومن أين تُستحق؛ فتكون الألف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة.
فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لله رفعه الله» ومن طلبها من غيره وَكَله إلى من طلبها عنده.
وقد ذكر قومًا طلبوا العزة عند من سواه فقال: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139].
فأنبأك صريحًا لا إشكال فيه أن العزة له يُعِزّ بها من يشاء ويُذِل من يشاء.
وقال صلى الله عليه وسلم مفسّرًا لقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا}: «من أراد عز الدارين فليطع العزيز» وهذا معنى قول الزجاج، ولقد أحسن من قال:
وإذا تذلّلت الرقاب تواضعًا ** منا إليك فعزّها في ذلها

فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصِد بالعزة الله سبحانه والاعتزازَ به؛ فإنه من اعتز بالعبد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله.
قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} وتم الكلام.
ثم تبتدىء {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه.
ويجوز أن يكون المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب؛ فيكون الكلام متصلًا على ما يأتي بيانه.
والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضًا.
ولا يتصوّر ذلك في الكلام لأنه عَرض، لكن ضرب صعوده مثلًا لقبوله؛ لأن موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل.
وقال الزجاج: يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه؛ فهو بمعنى العلم.
وخص الكلام والطيب بالذكر لبيان الثواب عليه.
وقوله: {إِلَيْهِ} أي إلى الله يصعد.
وقيل: يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيرِه حكم.
وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء.
و{الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيّبة وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوةَ قوله ** حتى يُزَيِّن ما يقول فَعَالُ

فإذا وزنت فَعاله بمقاله ** فتوَازَنَا فإخاء ذاك جَمالُ

وقال ابن المُقَفّع: قول بلا عمل، كثرِيد بلا دسم، وسحابٍ بلا مطر، وقوسٍ بلا وتر.
وفيه قيل:
لا يكون المقال إلا بفعلٍ ** كلُّ قولٍ بلا فعالٍ هَبَاءُ

إنّ قولًا بلا فعالٍ جمِيل ** ونِكاحًا بلا وَلِيّ سواء

وقرأ الضحاك {يُصعد} بضم الياء.
وقرأ جمهور الناس {الكلِم} جمع كلمة.
وقرأ أبو عبد الرحمن {الكلام}.
قلت: فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلِم وبالعكس؛ وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة؛ فوضع الكلام موضع الكلم، والله أعلم.