فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
وفي الحديث «لا يقبل الله قولًا إلا بعمل، ولا يقبل قولًا وعملًا إلا بنيّة، ولا يقبل قولًا وعملًا ونية إلا بإصابة السنة» قال ابن عباس: فإذا ذكر العبدُ الله وقال كلامًا طيّبًا وأدّى فرائضه، ارتفع قوله مع عمله، وإذا قال ولم يؤدّ فرائضه ردّ قوله على عمله.
قال ابن عطية: وهذا قول يردّه معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس.
والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلامًا طيبًا فإنه مكتوب له متقبَّل منه، وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك.
وأيضًا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأوّل أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه.
كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل أعمالَه كَلِمٌ طيّب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف؛ فيكون قوله: {والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} موعظة وتذكرة وحَضًّا على الأعمال.
وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها؛ كالتوحيد والتسبيح فمقبولة.
قال ابن العربيّ: إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع؛ لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه.
وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطًا في قبول القول أو مرتبطًا، فإنه لا قبول له إلا به، وإن لم يكن شرطًا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السّيىء يكتب عليه، وتقع الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران.
قلت: ما قاله ابن العربيّ تحقيق.
والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيّب.
وقد جاء في الآثار أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان العمل موافقًا لقوله صعدا جميعًا، وإن كان عمله مخالفًا وقف قوله حتى يتوب من عمله.
فعلى هذا العملُ الصالح يرفع الكلم الطيّب إلى الله.
والكناية في {يرفعه} ترجع إلى الكلم الطيب.
وهذا قول ابن عباس وشَهْر بن حَوْشَب وسعيد بن جُبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك.
وعلى أن {الكلِم الطيب} هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد.
أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب؛ فالكناية تعود على العمل الصالح.
وروي هذا القول عن شَهْر بن حَوْشَب قال: {الكلم الطيب} القرآن {والعمل الصالح يرفعه} القرآن.
وقيل: تعود على الله جل وعز؛ أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكَلِم الطيّب؛ لأن العمل تحقيق الكلِم، والعامل أكثر تعبًا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام؛ لأن الله هو الرافع الخافض.
والثاني والأوّل مجاز، ولكنه سائغ جائز.
قال النحاس: القول الأوّل أولاها وأصحها لعلوّ من قال به، وأنه في العربية أولى؛ لأن القرّاء على رفع العمل.
ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيّب، لكان الاختيار نصف العمل.
ولا نعلم أحدًا قرأه منصوبًا إلا شيئًا رُوي عن عيسى بن عمر أنه قال: قرأه أناس {والعملَ الصالحَ يرفعه الله}.
وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تُطلب من الله تعالى؛ ذكره القشيريّ.
الثانية: ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ}.
وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك؛ من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع.
وقد تعلق من رآى ذلك بقوله عليه السلام: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود» فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: «إن الأسود شيطان» خرجه مسلم.
وقد جاء ما يعارض هذا، وهو ما خرّجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
قوله تعالى: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان عن لَيْث بن أبي سليم عن شَهْر بن حَوْشَب الأشعري في قوله عز وجل: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} قال: هم أصحاب الرياء؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة.
وقال الكلبي: يعني الذين يعملون السيئات في الدنيا.
مقاتل: يعني الشرك، فتكون {السّيئات} مفعولة.
ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل.
وبارت السوق أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيِّم وقوله: {وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] أي هلكى.
والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة.
وقد مضى في سبأ.
قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب.
{ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم.
{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} قال: أي زوّج بعضكم بعضًا، فالذكر زوج الأنثى ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدّتها.
{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أي جعلكم أزواجًا فيتزوّج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شيء عن تدبيره.
{وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} سماه معمّرًا بما هو صائر إليه.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: {وَمَا يُعَمَّر مِنْ مُعَمَّر} إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرًا كم هو يومًا كم هو ساعة؛ ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفى أجله.
وقاله سعيد بن جبير أيضًا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره؛ فالهاء على هذا للمعمر.
وعن سعيد أيضًا: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره.
وعن قتادة: المعمّر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة.
ومذهب الفرّاء في معنى {وَمَا يُعَمَّر مِنْ مُعَمَّرٍ} أي ما يكون من عمره {وَلاَ يُنْقص من عمرِهِ} بمعنى معمر آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب.
فالكناية في {عمره} ترجع إلى آخر غير الأوّل.
وكنَّى عنه بالهاء كأنه الأوّل، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف آخر.
وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب.
وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «من أحبّ أن يُبْسَط له في رزقه ويُنْسأ له في أثره فليصِلْ رحمه» أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة.
فبيّن ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن اطلع على الأوّل دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان.
وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] والكناية على هذا ترجع إلى العمر.
وقيل: المعنى وما يعمَّر من معمَّر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب؛ أي بقضاء من الله جل وعز.
روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل.
وروي نحوه عن ابن عباس.
فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمّر، ويجوز أن تكون لغير المعمر.
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه.
وقراءة العامة {يُنْقَص} بضم الياء وفتح القاف.
وقرأت فرقة منهم يعقوب {يَنقُص} بفتح الياء وضم القاف، أي لا ينقص من عمره شيء.
يقال: نقص الشيءُ بنفسه ونقصه غيرُه، وزاد بنفسه وزاده غيره، متعدّ ولازم.
وقرأ الأعرج والزهري {مِن عُمْره} بتخفيف الميم وضمها الباقون وهما لغتان مثل السُّحْق والسُّحُق.
و{يَسِيرٌ} أي إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شيء منها ولا يعزب والفعل منه: يَسُر ولو سميت به إنسانًا انصرف؛ لأنه فعيل. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والله الذي أَرْسَلَ الرياح} مبتدأٌ وخبرٌ. وقُرئ الرِّيحَ وصيغتُه المضارعِ في قوله تعالى: {فَتُثِيرُ سحابا} لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضارًا لتلكَ الصُّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على كمال القدرةِ والحكمةِ ولأنَّ المرادَ بيانُ إحداثِها لتلك الخاصَّيةِ ولذلك أُسند إليها أو للدِّلالةِ على استمرارِ الإثارةِ {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ} وقُرئ بالتَّخفيفِ {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض} أي بالمطرِ النَّازلِ منه المدلولِ عليه بالسَّحابِ فإنَّ بينهما تلازمًا في الذِّهنِ كما في الخارجِ أو بالسَّحابِ فإنَّه سببُ السَّببِ {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي يُبسها. وإيرادُ الفعلينِ على صيغةِ الماضِي للدِّلالةِ على التَّحقيقِ. وإسنادُها إلى نونِ العظمةِ المنبيءِ عن اختصاصِهما به تعالى لما فيهما من مزيدِ الصُّنعِ ولتكميل المُماثلةِ بين إحياءِ الأرضِ وبين البعثِ الذي شُبِّه به بقوله تعالى: {كَذَلِكَ النشور} في كمال الاختصاصِ بالقُدرةِ الرَّبانيةِ. والكافُ في حيِّزِ الرَّفعِ على الخبرية أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي تشاهدونَه إحياءٌ الأمواتِ في صحَّة المقدوريَّةِ وسهولةِ التأتِّي من غيرِ تفاوتٍ بينهما أصلًا سوى الألفِ في الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي وقيل في كيفيَّةِ الإحياءِ يُرسل الله تعالى من تحت العرشِ ماءً فينبتُ منه أجسادُ الخلقِ {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} هم المشركونَ الذينَ كانُوا يتعزَّزون بعبادةِ الأصنامِ كقولِه تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} والذين كانوا يتعزَّزون بهم من الذينَ آمنُوا بألسنتِهم كما في قوله تعالى: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} والجمعُ بين كانَ ويريدُ للدِّلالةِ على دَوام الإرادةِ واستمرارِها.
{فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} أي له تعالى وحَدهُ لا لغيرِه عزَّةُ الدُّنيا وعزَّةُ الآخرةِ أي فليطلبها منْهُ لا من غيرِه فاستُغني عن ذكرِه بذكرِ دليلِه إيذانًا بأنَّ اختصاصَ العزَّةِ تعالى موجبٌ لتخصيصِ طلبها به تعالى. وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} بيان لما يُطلب به العزَّةُ وهو التَّوحيدُ والعملُ الصَّالحُ. وصعودُهما إليه مجازٌ عن قبولِه تعالى إيَّاهُما أو صعودُ الكَتَبةِ بصحيفتهما. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عبارةٌ عن كمالِ الاعتدادِ به كقولِه تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} أي إليه يصلُ الكلمُ الطَّيبُ الذي به يُطلب العزَّةَ لا إلى الملائكةِ الموكَّلين بأعمال العبادِ فَقطَ وهو يعزُّ صاحَبهُ ويُعطي طِلْبتَه بالذَّاتِ. والمستكّنُّ في يرفعه للكلم فإنَّ مدارَ قبولِ العملِ هو التَّوحيدُ ويُؤيده القراءةُ بنصبِ العملِ أو للعملِ فإنَّه يحققُ الإيمانَ ويقويه ولا يُنال الدَّرجاتُ العاليةُ إلا به. وقُرئ يُصعد من الإصعادِ على البناءين والمُصعدُ هو الله سبحانَه أو المتكلِّم به أو الملكُ وقيل الكلمُ الطَّيبُ يتناول الذِّكرَ والدُّعاءَ والاستغفارَ وقراءةَ القُرآن. وعنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلَه إلا الله والله أكبرُ إذَا قالَها العبدُ عرجَ بها الملكُ إلى السَّماءِ فحيا بها وجَه الرحمن فإذا لم يكُن عملٌ صالحٌ لم تُقبل، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: ما من عبدٍ مسلمٍ يقولُ حمسَ كلماتٍ سبحان الله والحمدُ لله ولا إلَه إلاَّ الله والله أكبرُ وتبارك الله إلا أخذهنَّ ملكٌ فجعلهنَّ تحتَ جناحِه ثم صعدَ بهنَّ فما يمرُّ بهنَّ على جمعٍ من الملائكةِ إلا استغفرُوا لقائلهنَّ حتَّى يحيى بهنَّ وجَه ربِّ العالمين.
ومصداقُه قوله عزَّ وجلَّ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب}. إلخ.
{والذين يَمْكُرُونَ السيئات} بيانٌ لحال الكَلِمِ الخَبيثِ والعملِ السَّيِّء وأهلِهما بعد بيانِ حالِ الكَلمِ الطَّيبِ والعملِ الصَّالحِ. وانتِّصابُ السَّيئاتِ على أنَّها صفةٌ للمصدرِ المحذوفِ أي يمكرون المكَرَاتِ السَّيئاتِ وهي مكَراتُ قُريشٍ بالنبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دارِ النَّدوةِ وتداورِهم الرَّأيِ في إحدى الثَّلاثِ التي هي الإثباتُ والقتلُ والإخراجُ {لَهُمْ} بسببَ مكراتِهم {عَذَابٌ شَدِيدٌ} لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُؤبه عندَهُ لمَا يمكرونَ {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} وضعَ اسمُ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ بكمالِ تميُّزهم بما هُم فيه من الشَّرِّ والفسادِ عن سائرِ المُفسدينَ واشتهارِهم بذلك. وما فيه من معنى البُعد للتنبيه على تَرامي أمرهِم في الطُّغيانِ وبُعد منزلِتهم في العُدوانِ. أي ومكرُ أولئكَ المُفسدين الذينَ أرادُوا أنْ يمكرُوا به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {هُوَ يَبُورُ} أي هو يهلكُ ويفسدُ خاصَّةً لا مَن مكرُوا بهِ ولقد أبارَهُم الله تعالى بعد إبارةِ مكراتِهم حيثُ أخرجَهم من مكَّةَ وقتلَهم وأثبتَهم في قَليبِ بدرٍ فجمعَ عليهم مكراتِهم الثَّلاثَ التي اكتفَوا في حقِّه عليه الصَّلاةُ والصَّلامُ بواحدةٍ منهن.
{والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} دليلٌ آخرُ على صحَّةِ البعثِ والنُّشورِ أي خلقكم ابتداءً منه في ضمنِ خلقِ آدمَ عليه السَّلامُ خلقًا إجماليًَّا كما مرَّ تحقيقُه مرارًا {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي ثم خلقكَم منها خلقًا تفصيليًا {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} أي أصنافًا أو ذُكرانًا وإناثًا. وعن قَتادةَ جعل بعضَكم زَوْجًا لبعضٍ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} إلا ملتبسةً بعلمِه تابعةً لمشيئتِه {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} أي من أحدٍ وإنما سُمِّي معمَّرًا باعتبارِ مصيرِه أي وما يُمدُّ في عمرِ أحدٍ {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي من عمرِ أحدٍ على طريقةِ قولِهم لا يُثيب الله عبدًا ولا يُعاقبه إلا بحقَ لكنْ لا عَلى معنى لا يُنقص عمره بعد كونِه زائدًا على معنى لا يُجعل من الابتداءِ ناقصًا. وقيل الزِّيادةُ والنَّقصُ في عمرٍ واحدٍ باعتبارِ أسبابِ مختلفةٍ أُثبتتْ في اللَّوحِ مثلِ أنْ يكتبَ فيه إنْ حجَّ فلانٌ فعمرُه ستُّونَ وإلا فأربعونَ وإليه أشارَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه: «الصَّدقة والصِّلةُ تُعمِّرانِ الدِّيارَ وتزيدانِ في الأعمارِ» وقيلَ: المرادُ بالنَّقصِ ما يمرُّ من عمرِه وينقصُ فإنَّه يكتب في الصَّحيفةِ عمرُه كذا وكذا سنة ثم يُكتب تحتَ ذلك ذهبَ يومٌ ذهبَ يومانِ وهكذا حتَّى يأتي على آخرِه، وقُرئ ولا يَنقْصُ على البناءِ للفاعلِ ومن عُمْره بسكونِ الميمِ {إِلاَّ في كتاب} عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّه اللَّوحُ وقيل: عِلمُ الله عزَّ وجلَّ. وقيل: صحيفةُ كلِّ إنسانٍ {إِنَّ ذلك} أي ما ذُكر من الخلقِ وما بعدَهُ مع كونِه محارًا للعقولِ والأفهامِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائِه عن الأسبابِ فكذلك البعثُ. اهـ.