فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مَنْ كان يريد العزة بنفسه فَلْيَعْلَمْ أَنَّ العزةَ بجملتها لله، فليس للمخلوق شيءٌ من العِزَّة. ويقال مَنْ كان يريد العزةَ لنفسه فللَّه العِزَّةُ جميعًا، أي فليطلبها من الله، وفي آية أخرى أثبت العزة للَّهِ ولرسوله وللمؤمنين، وقال ها هنا {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}؛ وَوَجْهُ الجميع بينها أن عِزَّ الربوبية لله وَصْفًا، وعزَّ الرسول، وعزّ المؤمنين لهم فضلًا من الله ولطفًا؛ فإذًا العِزَّةُ لله جميعًا. وعزُّه سبحانه- قُدْرتَُه. أو ويقال العزيز هو القاهر الذي لا يُقْهَرُ؛ فيكون من صفات فعله على أول القولين.. ومن صفات ذاته على القول الآخر. ويقال العزيز هو الذي لا يُوصَلُ إليه مِنْ قولِهم: أرضٌ عَزاز إذا لم تستقر عليها الأقدام، فيرجع معناه إلى جلال سلطانه.
ويقال العزيز الذي لا مِثْلَ له؛ من قولهم؛ عَزَّ الطعام في اليد. فيرجع إلى استحقاقه لصفات المجد والعلو.
قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}: الكلم الطيب هو الصادرُ عن عقيدةٍ طيبةٍ- يعني الشهادتين- عن إخلاص. وأراد به صعودَ قَبُولٍ، لأنَّ حقيقةَ الصعود في اللغة بمعنى الخروج- ولا يجوز في صفة الكلام.
{وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}: أي يقبله. ويقال العملُ الصالحُ يرفع الكَلِمَ الطيب. ويقال الكَلِمُ الطيبُ ما يكون موافقًا للسُّنَّة، ويقال هو ما يشهد بِصِحَّتِه الإذنُ والتوقيف. ويقال هو نُطْقُ القلبِ بالثناء على ما يستوجبه الربُّ. ويقال هو ما يكون دُعاءً للمسلمين. ويقال ما يتجرد حقًا للحقِّ ولا يكون فيه حَظٌّ للعبد. ويقال ما هو مُسْتَخْرَجٌ من العبد وهو فيه مفقود. ويقال هو بيانُ التنصُّل وكلمة الاستغفار.
ويقال العمل الصالح ما يصلح للقبول، ويقال الذي ليس فيه آفة ولا يُطْلَبُ عليه عِوَضٌ.
قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
أي يَقْلِبُ عليهم مَكْرَهم فيما يتوهمونه من خيرٍ لهم يَقْلِبُه محنةً عليهم. ويقال: تَخْلِيَتُه إياهم ومَكْرَهم- مع قدرته علىعصمتهم، وكَوْنُه لا يعصمهم هي عذابهم الشديد.
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}.
ذَكَّرَهم نِسْبَتَهم لئلا يُعْجَبوا بحالتهم، ثم إن ما يُتَّخَذُ من الطين سريعُ التغيُّر، قليلُ القوة في المُكث، لكنه يَقْبَلُ الانجبار بالماء إذ تنجبر به طينته؛ فإذا جاد الحقُّ عليه بماء الجودِ أعاده بعد انكساره بالذنوب.
وإذا كان لا يَخْفى عليه- سبحانه- شيءٌ من أحوالهم في ابتداء خَلْقَتِهِم، فَمَنْ يُبالِ أَنْ يَخْلُقَ مَنْ يعلم أنه يَعْصي فلا يبالي أَنْ يغفِرَ لِمَنْ رآه يعصي. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ}.
الضمير في قوله: {عُمُرِهِ} يظهر رجوعه إلى المعمَّر فيشكل معنى الآية لأن المعمَّر والمنقوص من عمره ضدان فيظهر تنافي الضمير ومفسره.
الجواب: أن المراد بالعمَّر هنا جنس المعمَّر الذي هو مطلق الشخص فيصدق بالذي لم ينقص من عمره وبالذي نقص من عمره فصار المعنى: لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب الله وهذه المسألة هي المعروفة عند العلماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر.
قال ابن كثير في تفسيره: الضمير عائد على الجنس لا على العين لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره إنما عاد الضمير على الجنس. انتهى منه. اهـ.

.تفسير الآيات (12- 14):

قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجًا من التراب، ذاكرًا اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهًا على فعله بالاختيار ومنكرًا على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال: {وما يستوي البحران} ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيرًا إلى الحلو: {هذا عذب} أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع {فرات} أي بالغ العذوبة {سائغ شرابه} أي هنيء مريء بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع {وهذا ملح أجاج} أي جمع إلى الملوحة المرارة، فلا يسوغ شرابه، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار، والمراد أمه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر، بل إذا حفر عل جانب البحر الملح ظهر الماء عذبًا فراتًا على مقدار صلاح الأرض وفسادها.
ولما كان الملح متعذرًا على الآدمي شربه، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساويًا في ذلك للعذب فقال: {ومن كل} أي من الملح والعذب {تأكلون} من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك {لحمًا طريًا} أي شهي المطعم، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم.
ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال: {وتستخرجون} أي تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج، قال البغوي: وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك.
{حلية تلبسونها} أي نساؤكم من الجواهر: الدر والمرجان وغيرهما، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمرًا غريبًا، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: {وترى الفلك} أي السفن تسمى فلكًا لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: {فيه} أي كل منهما غاطسة إلا قليلًا منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: {مواخر} أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد: تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس: مخرت السفينة كمنع مخرًا ومخورًا: جرت أو استقبلت الريح في جريتها، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة، وفي الحديث: إذ أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، وفي لفظ: استمخروا الريح، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظهره فأخذت عن يمينه ويساره، وقد يكون استقبالها تمخرًا غير أنه في الحديث استدبار- انتهى كلام القاموس.
ثم علق بالمخر معللًا قوله: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلبًا شديدًا.
ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال: {من فضله} أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا {ولعلكم تشكرون} أي ولتكون حالكم بهذه النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره.
ولما ذكر سبحانه اختلاف الذوات الدال على بديع صنعه، أتبعه تغييره المعاني آية على بليغ قدرته، فقال في موضع الحال من فاعل {خلقكم} إشارة إلى أن الله تعالى صور آدم حين خلق الأرض قبل أن يكون ليل أو نهار ثم نفخ فيه الروح آخر يوم الجمعة بعد أن خلق النور يوم الأربعاء، فلم يأت على الإنسان حين من الدهر وهو مقدار حركة الفلك إلا وهو شيء مذكور: {يولج} أي يدخل على سبيل الجولان {الّيل في النهار} فيصير الظلام ضياء.
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفًا فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة: نبه عليه بإعادة الفعل فقال: {ويولج النهار في الّيل} فيصير ما كان ضياء ظلامًا، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا، فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.
ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال: {وسخر الشمس والقمر} ثم استأنف قوله: {كل} أي منهم {يجري} ولما كان مقصود السورة تمام القدرة، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد، ولذلك ختم الآية بالملك الناظر إلى القسر والقهر لم يصلح لهذا الموضع حرف الغاية فقال: {لأجل} أي لأجل أجل {مسمى} مضروب له لا يقدر أن يتعداه، فإذا جاء ذلك الأجل غرب، هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم، فيختل جميع هذا النظام بأمر الملك العلام، ويقيم الناس ليوم الزحام، وتكون الأمور العظام.
ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره، وختم بما تتكرر مشاهدته في كل يوم مرتين، أنتج ذلك قطعًا قوله معظمًا بأداة البعد وميم الجمع: {ذلكم} أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها {الله} أي الذي له صفة كمال؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهو سواه بخبر آخر بقوله: {ربكم} أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه؛ ثم استأنف قوله: {له} أي وحده {الملك} أي كله وهو مالك كل شيء {والذين تدعون} أي دعاء عبادة، ثم بيّن منزلتهم بقوله: {من دونه} أي من الأصنام وغيرها وكل شيء فهو دونه سبحانه {ما يملكون} أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام؛ وأغرق في النفي فقال: {من قطمير} وهو كما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها، كناية عن أدنى الأشياء، فكيف بما فوقه وليس لهم شيء من الملك، فالآية من الاحتباك: ذكر الملك أولًا دليلًا على حذفه ثانيًا، والملك ثانيًا دليلًا على حذفه أولًا؛ ثم بين ذلك بقوله: {إن تدعوهم} أي المعبودات من دونه دعاء عبادة او استغاثة {لا يسمعوا} أي بحس السمع في وقت من الأوقات {دعاءكم} لأنهم جماد {ولو سمعوا} في المستقبل {ما استجابوا لكم} لأنهم إذ ذاك يعلمون أن إجابتكم لا ترضي الله، وهم مما أبى أن يحمل الأمانة ويخون فيها بالعمل بغير ما يرضي الله سبحانه، أو يكون المعنى: ولو فرض أنه يوجد لهم سمع، أو ولو كانوا سامعين- ليدخل فيه من عبد من الأحياء- ما لزم من السماع إجابة، لأنه لا ملازمة بين السمع والنطق، ولا بين السمع والنطق مع القدرة على ما يراد من السامع، فإن البهائم تسمع وتجيب، والمجيبون غيره يجيبون ولا قدرة لهم على أكثر ما يطلب منهم.
ولما ذكر ما هو على سبيل الفرض، ذكر ما يصير إليه بينهم وبينهم الأمر فقال: {ويوم القيامة} أي حين ينطقهم الله {يكفرون بشرككم} أي ينكرونه ويتبرءون منه.
ولما كان التقدير: قد أنبأكم بذلك الخبير، وكانوا لا يقرون بذلك ولا يفهمونه حق فهمه ولا يعملون به، صرف الخطاب عنهم إلى من له الفهم التام والطاعة الكاملة، فقال عاطفًا على هذا الذي هدى إلى تقديره السياق: {ولا ينبئك} أي إنباء بليغًا عظيمًا على هذا الوجه بشيء من الأشياء، {مثل خبير} أي بالغ الخبر، فلا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به، وأما غيره فلا يخبر خبرًا إلا يوجه إليه نقص. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ}.
قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يشتبه بالكفر في الحسن والنفع كما لا يشتبه البحران العذب الفرات والملح الأجاج.
ثم على هذا، فقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} لبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذا اللحم الطري يوجد فيهما والحلية توجد منهما والفلك تجري فيهما، ولا نفع في الكفر والكافر، وهذا على نسق قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وقوله: {كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار} [البقرة: 74] والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج، ولو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المستويان، ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة، فإن اللحم الطري يوجد فيهما، واللحية تؤخذ منهما، ومن يوجد في المتشابهين اختلافًا ومن المختلفين اشتباهًا لا يكون إلا قادرًا مختارًا.
وقوله: {وَمَا يَسْتَوِى البحران} إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال أهل اللغة لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح، وإنما يقال له ملح، وقد يذكر في بعض كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحًا، ويؤاخذ قائله به.
وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقى فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح، وماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته كذلك، لأن المالح شيء فيه ملح ظاهر في الذوق، والماء الملح ليس ماء وملحًا بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ماء فيه ملح ظاهر في الذوق، بخلاف ما هو من أصل خلقته كذلك، فلما قال الفقيه الملح أجزاء أرضية سبخة يصير بها ماء البحر مالحًا راعى فيه الأصل فإنه جعله ماء جاوره ملح، وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة، والأجاج المر، وقوله: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} من الطير والسمك {وتستخرجون حلية تلبسونها} من اللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشق، وقوله: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يدل على ما ذكرناه من أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقد ذكرناه مرارًا، وذكرنا أن قوله تعالى بعده: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} جواب لسؤال يذكره المشركون وهو أنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض وتحتها، فإن في الصيف تمر الشمس على سمت الرءوس في بعض البلاد الماثلة في الآفاق، وحركة الشمس هناك حمائلية فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل وفي الشتاء بالضد فيقصر النهار فقال الله تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم، لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك.