فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهو سبحانه الذي أوجدكم، وهو سبحانه الذي يحفظ عليكم وجودكم، كما يحفظ وجود الموجودات كلها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41] وفي الآيتين تهديد للناس، إذا هم لم يؤمنوا باللّه، ويحمدوا له ما هم فيه من فضله وإحسانه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (56- 58 الذاريات).. فإذا لم يؤدّ الناس واجب الشكر للّه، ولم يقوموا على الوظيفة التي خلقهم اللّه لها، لم يكونوا أهلا ليشغلوا هذا المكان، وكان أولى أن يشغله غيرهم، ممن يعرف لهذا المكان قدره، ويؤدى المطلوب منه فيه.. وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} (38: محمد) {وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي ليس عسيرا على اللّه أن يستبدل خلقا بخلق، وعالما بعالم، وكيف وهو الخالق لكل شيء؟
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شيء وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} جاءت هذه الآية تعقيبا على الآيتين السابقتين اللتين حملتا تهديدا للناس بإفنائهم جميعا، إذا هم لم يوفوا حق اللّه عليهم، من إيمان به وشكر له.
وفى هذه الآية تفرقة بين الناس، الذين وضعتهم الآيتان السابقتان وضعا واحدا في مقام التهديد.
فالناس، وإن كانوا مجتمعا واحدا، هم أشبه بالجسد الواحد، يتأثر، ويشقى بالأعضاء الضعيفة، أو الفاسدة فيه، إلا أنهم من جهة أخرى أفراد متميزون.
كلّ منهم له وجوده الذاتي، وحياته الخاصة به، وحسابه الذي يقوم عليه ميزانه في مقام الخير والشر على السواء.. فإذا نظر إلى الإنسان من خلال المجتمع، كان عليه أن يكون عضوا صالحا فيه، ثم كان عليه أيضا أن يعمل على إصلاح ما يظهر من فساد في مجتمعه.. ففى ذلك حماية له من عدوى الفساد، ومن ريحه الخبيثة، أن تفسد عليه حياتك.
ثم إذا نظر إليه من خلال ذاته- صالحا كان أو فاسدا- كان التعامل معه في مقام الحساب والجزاء على أساس شخصى.. فله إحسانه كله، وعليه إساءته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} والوزر: الإثم والذنب.
والوازرة. حاملة الوزر، والمراد بها ذات الإنسان.
والمعنى، أنه لا يحمل إنسان ذنب غيره، ولا يعينه في حمله، وإن كان حمله خفيفا، وحمل غيره ثقيلا، ولو كان حامل هذا الحمل الثقيل قريبا، كأب، أو ابن، أو زوج، أو أخ لمن يدعوه إلى حمل بعض ما حمل.. كما يقول سبحانه بعد هذا:
{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شيء وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى} هذا هو ميزان الحساب للناس.. لكل إنسان عند اللّه، جزاء ما عمل.
قال تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي إنما ينفع هذا البيان، وذلك النذير، من يخشى اللّه بالغيب، ويعرف جلاله وبأسه، من غير أن يراه، وإنما يرى آثاره ويشهد جلال قدرته، وعلمه، وحكمته فيما أبدع وصور في هذا الوجود.. وهذه الخشية إنما تكون عن استعداد فطرى، يقبل التعامل مع العالم غير المحسوس، عالم الغيب.. فهناك كثير من الطبائع قد تأثرت بالعالم المادي، وتشكلت ملكاتها على قوالبه، فلا تقبل التعامل إلا مع الماديات.. أما ما وراء المادة فإنها ترفض التسليم به، وتأبى التعامل معه.
وفى قصر الإنذار على الذين يخشون ربهم بالغيب، مع أن الرسول نذير وبشير للناس جميعا- في هذا إشارة إلى أن الذين ينتفعون بهذا النذير، هم الناس، وهم أهل للخطاب، وأما غيرهم، فلا حساب لهم ولا وزن في هذا المقام.
قال تعالى: {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} معطوف على قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} وكان النظم يقضى بالتوافق في وحدة الزمن بين الفعلين المتعاطفين، فيكونان مضارعين أو ماضيين،.. ولكن جاء الحديث عن الخشية بالفعل المضارع، الذي يحمل زمنا متجددا، على حين جاء الحديث عن إقامة الصلاة بالفعل الماضي، الذي يقطع الفعل عن المستقبل، وهذا لا يكون في القرآن الكريم إلا عن حكمة، وتقدي.
والذي يبدو لنا من هذا- واللّه أعلم- أن الخشية للّه بالغيب، لا تكون إلا عن طبيعة تتقبل التعامل بما وراء المادة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما الطبيعة التي تلبست بها المادة، وسيطرت عليها، فلا يكون منها نظر إلى ما وراء المادة، ولا تقع منها خشية للّه، لأنها لا ترى اللّه، ولا تشهد جلاله، وسلطانه.. فالإنذار لا يفيد، ولا يؤثر، إلا إذا صادف طبيعة من شأنها أن تتقبل الإيمان بما وراء المادة، وعن هذه الطبيعة تصدر الخشية من اللّه، في كل حال، وفي كل موقف يقفه صاحب هذه الطبيعة، فيشهد في أي حال من أحواله، وفي كل موقف من مواقفه- جلال اللّه، وسلطان اللّه، فيخشاه ويتّقى حرماته، ولا يجد الجرأة على تعدّى حدود.
ومن جهة أخرى، فإن هذه الطبيعة التي من شأنها أن تخشى اللّه بالغيب، وتتوقّى الوقوع في الإثم- هذه الطبيعة لا يقيمها على الطريق القويم، ولا يجلو بصيرتها جلاء ترى على ضوئه ما للّه- سبحانه- من كمال، وجلال، وسلطان- إلا الصلاة، وإقامتها على وجهها الصحيح.. فهى التي تعطى الخشية مضمونا ذا قيمة مؤثرة في سلوك الإنسان، كما أن الخشية هي التي تعطى الصلاة قدرا وأثرا.. فالصلاة من غير خشية لا ثمرة لها، ولا خير منها.. والخشية التي لا تغذّيها الصلاة وتنميها، هي زرع حبس عنه الماء، فلا يلبث أن يذوى، ويذبل، ثم يجفّ ويموت فمن الخشية للّه، أن تقام الصلاة، فمن لا يخشى اللّه لا يقيمها، ومن أقامها على غير خشية، فلا نفع له منه.
فخشية اللّه، هي أساس الإيمان، وملاك كل عمل يعمله المؤمن باللّه.
فإذا خلا قلب الإنسان من خشية اللّه، لم يكن ثمة إيمان، ولم يكن ثمة عمل يقوم في ظل هذا الإيمان.
وفى الحديث الشريف: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن».. فالمراد بنفي الإيمان هنا، هو نفى الخشية من اللّه، عند ارتكاب هذه المنكرات.. فلو كان الإنسان المواجه لهذه المنكرات على خشية من اللّه ما أقدم على اقتراف واحدة منه.
فالخشية المطلوبة من المؤمن، خشية دائمة، متجددة.. ومن هنا كان التعبير عنها بفعل الاستمرار والتجد.
أما إقامة الصلاة.. فهى عمل من أعمال المؤمن، لا يقوم إلا في ظل من خشية اللّه، ولا يثمر ثمرة طيبة إلا إذا كان عن فيض منها،. ومن هنا ارتبطت إقامة الصلاة بها، وكانت حالا من أحوالها، أو أحوال أهله.
واختصت الصلاة بالذكر لأنها عمود الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} (11: يس) وقوله سبحانه: {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} (2- 3: البقرة) قال تعالى: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
التزكى: التطهر، من الشرك، والكفر، ومن الآثام والمنكرات.
أي ومن تطهر من الشرك والكفر، وجنّب نفسه التلوث بأقذار الآثام والمنكرات، فإنما يتطهر لنفسه، حيث تظهر آثار ذلك عليه، وتكون عائدة هذا التطهر راجعة إليه، يوم يعرض على ربه نقيا، طاهرا، فيدخل في رضوان اللّه مع الطيبين الطاهرين.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
لما أشبع المقام أدلّةً، ومواعظَ، وتذكيراتٍ، مما فيه مقنع لمن نصب نفسه منصب الانتفاع والاقتناع، ولم يظهر مع ذلك كله من أحوال القوم ما يتوسم منه نزعهم عن ضلالهم وربما أحدث ذلك في نفوس أهل العزّة منهم إعجابًا بأنفسهم واغترارًا بأنهم مرغوب في انضمامهم إلى جماعة المسلمين فيزيدهم ذلك الغرورُ قبولًا لتسويل مكائد الشيطان لهم أن يعتصموا بشركهم، ناسب أن ينبئهم الله بأنه غني عنهم وأن دينه لا يعْتزّ بأمثالهم وأنه مُصيِّرهم إلى الفناء وآت بناس يعتز بهم الإِسلام.
فالمراد ب {يا أيها الناس} هم المشركون كما هو غالب اصطلاح القرآن، وهم المخاطبون بقوله آنفًا {ذلكم الله ربكم له الملك} [فاطر: 13] الآيات.
وقبل أن يوجه إليهم الإِعلام بأن الله غنيّ عنهم وجه إليهم إعلام بأنهم الفقراء إلى الله لأن ذلك أدخل للذلة على عظمتهم من الشعور بأن الله غنيّ عنهم فإنهم يوقنون بأنهم فقراء إلى الله ولكنهم لا يُوقنون بالمقصد الذي يفضي إليه علمهم بذلك، فأريد إبلاغ ذلك إليهم لا على وجه الاستدلال ولكن على وجه قرع أسماعهم بما لم تكن تقرع به من قبل عسى أن يستفيقوا من غفلتهم ويتكعكعوا عن غرور أنفسهم، على أنهم لا يخلو جمعهم من أصحاب عقول صالحة للوصول إلى حقائق الحق فأولئك إذا قرعت أسماعَهم بما لم يكونوا يسمعونه من قبل ازدادوا يقينًا بمشاهدة ما كان محجوبًا عن بصائرهم بأستار الاشتغال بفتنة ضلالهم عسى أن يؤمن من هيّأه الله بفطرته للإِيمان، فمن بقي على كفره كان بقاؤه مشوبًا بحيرة ومرَّ طعْمُ الحياة عنده، فأيْنَ ما كانت تتلقاه مسامعهم من قبل تمجيدهم وتمجيد آبائهم وتمجيد آلهتهم، ألا ترى أنهم لما عاتبوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مراجعتهم عَدُّوا عليه شتم آبائهم، فحصل بهذه الآية فائدتان.
وجملة {أنتم الفقراء} تفيد القصر لتعريف جزأيْها، أي قصر صفة الفقر على الناس المخاطبين قصرًا إضافيًا بالنسبة إلى الله، أي أنتم المفتقرون إليه وليس هو بمفتقر إليكم وهذا في معنى قوله تعالى: {إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم} [الزمر: 7] المشعر بأنهم يحسبون أنهم يغيظون النبي صلى الله عليه وسلم بعدم قبول دعوته.
فالوجه حمل القصر المستفاد من جملة {أنتم الفقراء} على القصر الإِضافي، وهو قصر قلب، وأما حمل القصر الحقيقي ثم تكلف أنه ادعائي فلا داعي إليه.
وإتباع صفة {الغني} ب {الحميد} تكميل، فهو احتراس لدفع توهمهم أنه لما كان غنيًا عن استجابتهم وعبادتهم فهم معذورون في أن لا يعبدوه، فنبه على أنه موصوف بالحمد لمن عبده واستجاب لدعوته كما أتبع الآية الآخرى {إن تكفروا فإن اللَّه غني عنكم} [الزمر: 7] بقوله: {وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].
ومن المحسنات وقوع {الحميد} في مقابلة قوله: {إلى الله} كما وقع {الغني} في مقابلة قوله: {الفقراء} لأنه لما قيد فقرهم بالكون إلى الله قيدّ غنى الله تعالى بوصف {الحميد} لإفادة أن غناه تعالى مقترن بجوده فهو يحمد من يتوجه إليه.
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)}.
واقع موقع البيان لما تضمنته جملة {وهو الغني الحميد} [فاطر: 15] من معنى قلة الاكتراث بإعراضهم عن الإِسلام، ومن معنى رضاه على من يعبده فهو تعالى لغناه عنهم وغضبه عليهم لو شاء لأبادهم وأتى بخلق آخرين يعبدونه فخلصَ العالَم من عصاة أمر الله وذلك في قدرته ولكنه أمهلهم إعمالًا لصفة الحلم.
فالمشيئة هنا المشيئة الناشئة عن الاستحقاق، أي أنهم استحقوا أن يشاء الله إهلاكهم ولكنه أمهلهم، لا أصل المشيئة التي هي كونه مختارًا في فعله لا مُكره له لأنها لا يحتاج إلى الإِعلام بها.
والإِذهاب مستعمل في الإِهلاك، أي الإِعدام من هذا العالم، أي إن يشأ يسلط عليهم موتًا يعمهم فكأنه أذهبهم من مكان إلى مكان لأنه يأتي بهم إلى الدار الآخرة.
والإِتيان بخلق جديد مستعمل في إحداث ناس لم يكونوا موجودين ولا مترقبًا وجودهم، أي يوجد خلقًا من الناس يؤمنون بالله.
فالخلق هنا بمعنى المخلوق مثل قوله تعالى: {هذا خلقُ اللَّه فأروني ماذا خلَق الذين من دونه} [لقمان: 11].
وهذا في معنى قوله: {وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالَكم} [محمد: 38].
وليس المعنى: أنه إن يشأ يعجلْ بموتهم فيأتي جيل أبنائهم مؤمنين لأن قوله: {وما ذلك على الله بعزيز} ينبُو عنه.
وعطف عليه الإِعلام بأن ذلك لو شاء لكان هيّنًا عليه وما هو عليه بعزيز.
والعزيز: الممتنع الغالِب، وهذا زيادة في الإِرهاب والتهديد ليكونوا متوقعين حلول هذا بهم.
ومفعول فعل المشيئة محذوف استغناء بما دل عليه جواب الشرط وهو {يذهبكم} أي إن يشأ إذهابكم، ومثل هذا الحذف لمفعول المشيئة كثير في الكلام.
والإِشارة في قوله: {وما ذلك} عائدة إلى الإِذهاب المدلول عليه ب {يذهبكم} أو إلى ما تقدم بتأويل المذكور.
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}.
لما كان ما قبل هذه الآية مسوقًا في غرض التهديد وكان الخطاب للناس أريدت طمْأنة المسلمين من عواقب التهديد، فعقب بأن من لم يأت وزرًا لا يناله جزاء الوَازر في الآخرة قال تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا} [مريم: 72].
وقد يكون وعدًا بالإِنجاء من عذاب الدنيا إذا نزل بالمهدَّدين الإِذهابُ والإِهلاكُ مثلما أهلك فريقَ الكفار يوم بدر وأنجى فريق المؤمنين، فيكون هذا وعدًا خاصًا لا يعارضه قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] وما ورد في حديث أمّ سلمة قالت: «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخُبْث».
فموقع قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كموقع قوله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} [يوسف: 110].
ولهذا فالظاهر أن هذا تأمين للمسلمين من الاستئصال كقوله تعالى: {وما كان اللَّه معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] بقرينة قوله عقبه {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} وهو تأمين من تعميم العقاب في الآخرة بطريق الأوْلى ويجوز أن يكون المراد: ولا تزر وازرة وزر أخرى يوم القيامة، أي إن يشأ يذهبكم جميعًا ولا يعذب المؤمنين في الآخرة، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم «ثم يحشرون على نياتهم» والوجه الأول أعم وأحسن.
وأيَّامًّا كان فإن قضية {ولا تزر وازرة وزر أخرى} كلية عامة فكيف وقد قال الله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم} في سورة العنكبوت (13)، فالجمع بين الآيتين أن هذه الآية نفَت أن يحمل أحد وزر آخر لا مشاركةَ له للحامل على اقتراف الوزر، وأما آية سورة العنكبوت فموردها في زعماء المشركين الذين موّهوا الضلالة وثبتوا عليها، فإن أول تلك الآية {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12]، وكانوا يقولون ذلك لكل من يستروحون منه الإِقبال على الإِيمان بالأحرى.
وأصل الوِزر بكسر الواو: هو الوِقْر بوزنه ومعناه.
وهو الحِمل بكسر الحاء، أي ما يحمل، ويقال: وَزَر إذا حمل.
فالمعنى: ولا تحمل حاملة حِمل أخرى، أي لا يحمل الله نفسًا حملًا جعله لنفس أخرى عدلًا منه تعالى لأن الله يحب العدل وقد نفى عن شأنه الظلم وإن كان تصرفه إنما هو في مخلوقاته.