فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مثل الوجود والعدم، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظل والحر، والعذب والملح.. وهكذا.. والمطلوب من الخصم أن يعترف به هنا، هو أن الشيء الذي يمسك به، ليس هو كل الشيء، وإنما يقابله نقيضه، الذي يجب أن ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه، على الوجه الآخر، الذي لهذا الشيء.
فإذا كان المشركون يمسكون بالشرك، ولا يرون أن هناك معتقدا غيره- فيلعلموا أن هناك وجها، آخر لابد أن يقابل هذا الشرك، دون التفات إلى أيهما الفاضل وأيهما المفضول.. إن الأمور لا تكون إلا على هذا الازدواج.
الشيء وضده.. وليس الشرك الذي بين أيديهم بدعا من الأشياء.
فليبحثوا عن الوجه الآخر المقابل له.. فإذا فعلوا، كانت المرحلة الثانية من مراحل النظر، وهى أن يوازنوا بين ما معهم من شرك، وبين الوجه الآخر المقابل له، وهو الإيمان.
وقد جاء الأمران الأولان على الأصل، فقدّم فيهما المفضول على الفاضل، على حين جاء الأمران الآخران على غير الأصل، فقدم فيهما الفاضل على المفضول.. وبهذا أخذ كل من الفاضل والمفضول مكانه في الصورة على قدم المساواة.. لأن الأمر- كما قلنا- لم يكن يراد منه المفاضلة، وإنما المراد هو إثبات تلك الحقيقة التي لا خلاف عليها، وهى الازدواج في الأشياء، والتقابل بين الشيء وضده.
وفى مجىء المقطع الأول من الصورة، على أصل الوضع في اللغة، الذي يتفق مع مجرى التفكير، وذلك بتقديم المفضول على الفاضل، في مقام الموازنة والمفاضلة بينهما- في هذا التقاء مع المشركين على أمر لا خلاف عليه، بين مؤمن وغير مؤمن.. وهذا من شأنه ألّا يصدم تفكيرهم، ولا يخرج بهم عن مألوفهم، الأمر الذي يدعوهم إلى الاستماع إلى هذا الذي يعرض عليهم، وإلى النظر فيه.
فإذا وقع مقطع هذا الحديث من أنفسهم هذا الموقع، واجههم المقطع الآخر من الصورة، وهو مقطع قد انقلب فيه الوضع، وانعكست فيه مواقع الأمور، فقدّم ما حقه التأخير، وأخّر ما حقه التقديم، وفي هذا إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن المشركين قد انعكست في أنفسهم حقائق الأشياء، وأنهم إنما ينظرون إلى الأمور، وهم في وضع منكوس، وأنهم لو اعتدلوا في وضعهم لرأوا هذا المقطع من الصورة على حقيقته.. إنهم يعيشون في الحرور ويحسبونه الظلّ، وهم أموات، ويحسبون أنهم أحياء.. هذا هو وضعهم، فإذا شكّووا في هذا فلينظروا في هذا المقطع من الصورة التي بين أيديهم، وسيرون أن الحرور أفضل من الظل، وأن الميت أكثر حياة من الحىّ.. وبهذا ينكشف لهم الوضع المقلوب، الذي ينظرون فيه إلى الأشياء.
وثانيهما: أنهم لو أرادوا أن يقيموا الصورة كلها على وضع سليم، لكان عليهم أن يغيّروا بأيديهم هذا الوضع الذي أخذه المقطع الثاني من الصورة، وأن يجعلوه موافقا للوضع الأول، فيقدموا الحرور على الظل، والأموات على الأحياء، وبهذا يكون الحكم على المطلوب صادرا منهم، فتجىء الصورة العامة هكذا:
{وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الحرور ولا الظل ولا الأموات ولا الأحياء}. إنها عملية تدعو إلى تحريك العقل، وإلى أن يعمل عملا جادّا على تسوية هذه المتناقضات.. فإذا اتجهت عقولهم إلى هذا الاتجاه، كان من طبيعة الأمور ألّا ترصى عقولهم بهذه المتناقضات، التي تقوم في كيانهم، حيث يؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان.. وهكذا تجىء آيات اللّه، بهذه الإيحاءات النفسية، التي تدخل العقل في رفق ولطف، إلى مواطن الهدى، ومواقع الخير.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ}. إشارة إلى أن الناس فريقان:
فريق يسمع آيات اللّه ويستجيب لها، وفريق لا يسمع ولا يستجيب.
هذه بديهة تنطق بها الحقيقة المنتزعة من المقدمة السابقة، التي عرضت فيها هذه الأمور الأربعة.
وفى إسناد الإسماع إلى اللّه تعالى، إشارة إلى أن هذا الأمر كلّه بيد اللّه، وكل شيء معلق بمشيئته: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (39: الأنعام).
وقال تعالى: {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} تيئيس للمشركين الذين استولى عليهم الشرك، أن يكونوا في السامعين، وإراحة للرسول من بذل الجهد في سبيل إسماعهم.. إنهم أموات.. وليس من عمل الرسول أن يسمع الأموات.
{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (80: النمل) {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ}. فهذا هو عمل الرسول.. إنه نذير، ينذر هؤلاء الضالّين، ويخوفهم عذاب اللّه، وليس من شأنه أن يفتح آذانهم التي أصمها اللّه عن أن تسمع كلماته.. وقد اقتصر هنا على جانب من رسالة الرسول، وهو الإنذار، لأن الخطاب في مواجهة المشركين، الذين لن يؤمنوا أبدا، والذين ليس لهم إلا ما تحمل إليهم النذر من عذاب، وبلاء.
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} وليس الرسول.. صلوات اللّه وسلامه عليه.. نذيرا وحسب، وإنما هو نذير وبشير.. نذير للضالين المكذبين، وبشير للمؤمنين المهتدين.
وفي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه قد بعث في كل أمة رسولا، ينذر، ويبشر.. كما يقول سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (165: النساء) واقتصر هنا في رسالة الرسل، على الإنذار، لأن المقام- كما قلنا- مقام تهديد للمشركين وأهل الضّلال، ولأن أبرز جانب في حياة الرسل، هو الجانب الإنذاري، حيث كانت حياتهم جهادا متصلا لأهل الكفر والضلال.
قال تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} البينات: المعجزات المادية، البينة الإعجاز، والزبر: جمع زبور، مثل عمود، وعمد.
والزّبور، الشيء المقطوع من أصل.. والمراد بالزّبر هنا، ما كان ينزل على الأنبياء من آيات اللّه، تحمل عظات وعبرا، وبشريات، ونذرا.
والكتاب المنير: هو التوراة.. كما يقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ} (44: المائدة) والآية مواساة للنبىّ، وعزاء كريم له من ربه، فيما يلقى من قومه من تكذيب.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس أول رسول يلقى من قومه ما لقي، من اتهام وتكذيب، وإنما ذلك شأن الرسل قبله مع أقوامهم، جاءوهم بمعجزات مادية محسوسة، وجاءوهم بآيات اللّه وكلماته، وجاءوهم بكتاب منير من عند اللّه، يحمل دستورا متكاملا، للحياة الدنيا والآخرة- جاءوهم بكلّ هذا، فما وجدوا منهم إلا البهت والتكذيب، وإلا التهديد والأذى.
{فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ} (35: الأحقاف) وقال تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} تلك عاقبة المكذبين برسل اللّه.. لقد أخذهم اللّه بذنوبهم، وصبّ عليهم البلاء، صبا: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (40: العنكبوت).
وقال تعالى: {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} إلفات إلى بأس اللّه، وما أخذ به الظالمين، الذي أتوا المنكرات، فأنكر اللّه عليهم ما أتوه، وليس بعد إنكار اللّه إلا النقمة والبلاء.. فكيف تجد هذا البلاء وتلك النقمة في أصحاب المنكر؟ انظر إنه شيء مهول نعوذ باللّه منه.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)}.
أربعة أمثال للمؤمنين والكافرين، وللإِيمان والكفر، شبه الكافر بالأعمى، والكُفر بالظلمات، والحرور والكافر بالميّت، وشبه المؤمن بالبصير وشبه الإِيمان بالنور والظل، وشبه المؤمن بالحي تشبيه المعقول بالمحسوس.
فبعد أن بيّن قلة نفع النذارة للكافرين وأنها لا ينتفع بها غير المؤمنين ضرب للفريقين أمثالًا كاشفة عن اختلاف حاليهما، وروعي في هذه الأشباه توزيعها على صفة الكافر والمؤمن، وعلى حالة الكفر والإِيمان، وعلى أثر الإِيمان وأثر الكفر.
وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقالُ إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإِيضاح ما أفاده القصر في قوله: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} [فاطر: 18] كما تقدم آنفًا من أنه قصر إضافي قصرَ قلب، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه.
والمقصود: أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإِدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7]، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه.
والعمى يعبر به عن الضلال، قال ابن رواحة:
أرانا الهدى بعد العَمَى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع

ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبيّن للأشياء، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتقادية، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام.
وجي في {الظلمات} بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلا بصيغة الجمع.
وقد تقدم في قوله: {وجعل الظلمات والنور} في الأنعام (1).
وضُرِب الظِلّ مَثَلًا لأثر الإِيمان، وضدُّه وهو الحرور مثلًا لأثر الكفر؛ فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالبًا إلا في بعض فصل الشتاء، وقوبل بالحَرور لأنه مُؤْلِم ومعذّب في عرفهم كما علمت، وفي مقابلته بالحرور إيذان بأن المراد تشبيهه بالظل في حالة استطابته.
{والحرور} حر الشمس، ويطلق أيضًا على الريح الحارة وهي السموم، أو الحَرور: الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار.
وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة {الحرور}.
وفواصل القرآن من متممات فصاحته، فلها حظ من الإِعجاز.
فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريّث وإتقان.
وحال الكافر يشبه الحَرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه العقول من التأمل والتبصر وتصدر فيها الآراء والمساعي معجَّلة متفككة.
وأعلم أن تركيب الآية عجيب فقد احتوت على واوات عطْف وأدوات نفي؛ فكلّ من الواوين اللذين في قوله: {ولا الظلمات} الخ، وقوله: {الظل} الخ عاطف جملة على جملة وعاطف تشبيهات ثلاثة بل تشبيه منها يجمع الفريقين.
والتقدير: ولا تستوي الظلمات والنور ولا يستوي الظِّل والحرور، وقد صرح بالمقدر أخيرًا في قوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات}.
وأما الواوات الثلاثة في قوله: {والبصير} {ولا النور} {ولا الحرور} فكل واو عاطف مفردًا على مفرد، فهي ستة تشبيهات موزعة على كل فريق؛ ف {البصير} عطف على {الأعمى}، و{النور} عطف على {الظلمات}، و{الحرور} عطف على {الظل}، ولذلك أعيد حرف النفي.
وأما أدوات النفي فاثنان منها مؤكدان للتغلب الموجه إلى الجملتين المعطوفتين المحذوف فعلاهما {ولا الظلمات ولا الظل}، واثنان مؤكدان لتوجه النفي إلى المفردين المعطوفين على مفردين في سياق نفي التسوية بينهما وبين ما عطفا عليهما وهما واو {ولا النور}، وواو {ولا الحرور}، والتوكيد بعضه بالمثل وهو حرف {لا} وبعضه بالمرادف وهو حرف {ما} ولم يؤت بأداة نفي في نفي الاستواء الأول لأنه الذي ابتدىء به نفي الاستواء المؤكد من بعد فهو كله تأييس.
وهو استعمال قرآني بديع في عطف المنفيات من المفردات والجمل، ومنه قوله تعالى: {لا تستوي الحسنة ولا السيئة} في سورة فصّلت (34).
وجملة {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} أظهر في هذه الجملة الفعل الذي قدّر في الجملتين اللتين قبلها وهو فعل {يستوي} لأن التمثيل هنا عاد إلى تشبيه حال المسلمين والكافرين إذ شبه حال المسلم بحال الأحياء وحال الكافرين بحال الأموات، فهذا ارتقاء في تشبيه الحالين من تشبيه المؤمن بالبصير والكافر بالأعمى إلى تشبيه المؤمن بالحي والكافر بالميّت، ونظيره في إعادة فعل الاستواء قوله تعالى في سورة الرعد (16): {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور}.
فلما كانت الحياة هي مبعث المدارك والمساعي كلها وكان الموت قاطعًا للمدارك والمساعي شبه الإِيمان بالحياة في انبعاث خير الدنيا والآخرة منه وفي تلقي ذلك وفهمه، وشبه الكفر بالموت في الانقطاع عن الأعمال والمدركات النافعة كلها وفي عدم تلقي ما يلقى إلى صاحبه فصار المؤمن شبيهًا بالحي مشابهة كاملة لمَّا خرج من الكفر إلى الإِيمان، فكأنه بالإِيمان نفخت فيه الحياة بعد الموت كما أشار إليه قوله تعالى في سورة الأنعام (122) {أو من كان ميّتًا فأحييناه} وكان الكافر شبيهًا بالميت ما دام على كفره.
واكتُفي بتشبيه الكافر والمؤمن في موضعين عن تشبيه الكفر والإِيمان وبالعكس لتلازمهما، وأوتي تشبيه الكافر والمؤمن في موضعين لكون وجه الشبه في الكافر والمؤمن أوضح، وعُكس ذلك في موضعين لأن وجه الشبه أوضح في الموضعين الآخرين.
{وَلاَ الاموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ}.
لما كان أعظم حرمان نشأ عن الكفر هو حرمان الانتفاع بأبلغ كلام وأصدقه وهو القرآن كان حال الكافر الشبيهُ بالموت أوضح شبهًا به في عدم انتفاعه بالقرآن وإعراضه عن سماعه {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والْغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26]، وكان حال المؤمنين بعكس ذلك إذ تَلَقّوا القرآن ودرسوه وتفقهوا فيه {الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللَّه} [الزمر: 18]، وأعقب تمثيل حال المؤمنين والكافرين بحال الأحياء والأموات بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم معذرة له في التبليغ للفريقين، وفي عدم قبول تبليغه لدى أحد الفريقين، وتسلية له عن ضياع وابل نصحه في سباخ قلوب الكافرين فقيل له: إن قبول الذين قبلوا الهدى واستمعوا إليه كان بتهيئة الله تعالى نفوسَهم لقبول الذكر والعلم، وإن عدم انتفاع المعرضين بذلك هو بسبب موت قلوبهم فكأنهم الأموات في القبور وأنت لا تستطيع أن تُسمع الأموات، فجاء قوله: {إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} على مقابلة قوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} مقابلة اللفِّ بالنشر المرتب.
فجملة {إن الله يسمع من يشاء} تعليل لجملة {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} [فاطر: 18]، لأن معنى القصر ينحلّ إلى إثبات ونفي فكان مفيدًا فريقين: فريقًا انتفع بالإِنذار، وفريقًا لم ينتفع، فعلل ذلك ب {إن الله يسمع من يشاء}.