فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن ابن عباس: أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم. وعنه أيضًا أنه اراد بالنعمة العافية، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم. ثم اشار إلى نعمة الإيجاد بقوله: {هل من خالق غير الله} وإلى نعمة الإبقاء بقوله: {يرزقكم} وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر والتقدير: هل يرزقكم خالق يرزقكم؟ قال جار الله: إن جعلت {يرزقكم} كلامًا مستأنفًا ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عز وجل. وأما على الوجهين الآخرين فلا، إذ لا يلزم مننفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقًا. وقوله: {لا إله إلا هو} جملة مفصولة لا محل لها مثل {يرزقكم} في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفًا لزم التناقض لأن قولك: هل من خالق آخر سوى الله إثبات الله، ولو جعلت المنفية وصفًا صار تقدير الكلام: هل من خالق آخر سوى لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم.
{فأنى تؤفكون} أي وكيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت. وحين بينّ الاصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله: {وإن يكذبوك} الآية. والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى. ثم بينت الأصل الثالث وهو الحشر بقوله: {يا أيها الناس} وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان. وقد يسبق إلى الظن هاهنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله: {إن الشيطان لكم عدّو فاتخذوه عدّوًا} لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه. ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير} ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله: {الذين كفروا} إلى قوله: {وأجر كبير} عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى {أفمن زين له سوء عمله} من الفريقين كمن لم يزين له. ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى. ثم أنتج من ذلك قوله: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال، فتبين أنه لا استقلال، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأحوال. ثم رتب على عدم الاستقلال قوله: {فلا تذهب} أي فلا تهلك {نفسك} و{عليهم} صلة تذهب كما تقول هذك عليه حبًا أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق ب {مجسرات} المفعول لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته. وجوّز جار الله أن يكون حالًا كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر. وعن الزجاج أن تقدير الآية: أمفن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لأن قوله: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} يدل عليه. ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم من الإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك.
ثم أكد كونه فاعلًا مختارًا قادرًا قهارًا مبدئًا معيدًا بقوله: {والله الذي أرسل} وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم.
وقوله: {فتثير} بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال: {فسقناه} كأنه قال: أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة. ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر.
وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة الت يكانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكنه قال: إن كنتم تطلبون حقيقة العزة {فلله العزة} خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك من أراد النصيحة فهي عند الأبرار يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية. وأما في قوله: {لله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة. ثم إن الكفار كأنهم قالوا: نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال: {إليه يصعد} أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام. وفاعل قوله: {يرفعه} إن كان هو الله فظاهر، وإن كان الكلم أعني قوله لا إله إلا الله فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى: أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله إلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقرونًا بالعمل الصالح. عن النبي صلى الله عليه وسلم «الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه» وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. ولا تخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول. وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها، ولعله أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر. ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلًا {والل خلقكم من تراب} وفيه إشارة إلى خلق آدم {ثمن من نطفة} وفيه إشارة إلى خلق أولاده. ومعنى {أزواجًا} أصنافًا أو ذكرانًا وإناثًا.
ثم أشار إلى كمال علمه بقوله: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} ثم بين نفوذ إرادته بقوله: {وما يعمر من معمر} قال جار الله: معناه من أحد ولكنه سماه معمرًا باعتبار ما يؤل إليه. وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلًا على فهم السامع كقول القائل: ما تنعمت بكذا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي.
وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه {إلا في كتاب} وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية، وإذا أفرد فعمر أربعين فقد نقص منتلك الغاية. وبهذا التأويل يستبين معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» ويصح ما استفاض على الألسن أطال الله بقاءك. وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين. وذلك في علم الله.
{إن ذلك} الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو الزيادة في الأعمار أو النقصان منها {على الله يسير}. ثم ضرب مثلًا للمؤمن والكافر وذكر ليلًا آخر على عظم قدرته فقال: {وما يستوي البحران} الآية. على الأوّل يكون قوله: {ومن كل تأكلون} غلى آخر الآية تقريرًا للنعمة على سبيل اللاستطراد، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالبحرين. ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه، وأما الكافر فلا نفع فيه ألبتة فيكون كقوله في البقرة {ثم قست قلوبكم} [البقرة: 74] إلى آخر قوله و{إن منهما لما يهبط من خشية الله} [الآية: 74] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل النحل يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله: {يولج الليل} إلى قوله: {أجل مسمى} قد مرّ في آخر لقمان مثله، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها. قوله: {ذلكم الله} أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق.
وقوله: {ربكم له الملك} خبران آخران، ويجوز أن يكون {الله ربكم} خبرين و{له الملك} جملة مبتدأه واقعة في طبقات. قوله: {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميرًا وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلًا عما قوفها. قال جار الله: يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و{ربكم} خبرًا لولا أن المعنى يأباه فقيل: لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره.
وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام. قلت: وفيه نظر، أما أولًا فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة؟ وأما ثانيًا فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلومًا. والوجه الصحيح في إباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمرًا متحققًا في الخارج مسلمًا عند السامع. مثلًا إذا قلت: الرجل الكاتب جاءني. تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب هاهنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له، ن فلا يصح إيقاع اسم الله وصفًا لذلكم والخطاب معهم. ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} لأنهم جماد ولو فرض سماعهم {ما استجابوا لكم} لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئًا {ويوم القيامة} ايضًا {يكفرون بشرككم} قائلين ما كنتم إيانا تعبدون {ولا ينبئك} أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع {مثل خبير} ببواطن الأمور. والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به. وفيه أنه الخبير بالأمر وحده، وفيه ن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لولا إخبار الله سبحانه.
ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال: {يأيها الناس أنتم الفقراء} ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلًا لأمور المعاش وآجلًا لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه. وقيل: إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل: الله ربنا ومحمد نبينا. ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله: {والله هو الغنيّ} وقابل قوله: {إلى الله} بقوله: {الحميد} لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم. ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضًا لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال: {إن يشأ يذهبكم} وقد مرّ في النساء وفي إبراهيم. وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال: {ولا تزر وازرة} يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها. ولا ينافي في هذا قوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم} [العنكبوت: 13] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضًا، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهمّ وزرها متحيرة في أمرها.
ثم زاد في التهويل بقوله: {وإن تدع مثقلة} أي نفس ذات حمل {لا يحمل منه شيء} فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع. ثم زاد التأكيد بقوله: {ولو كان} أي المدعوّ {ذا قربى} فإِن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلًا. ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائبًا عنهم. ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التظهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي {وإلى الله المصير} لكل فيجزيهم على حسب ذلك. ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلًا فقال: {وما يستوي الأعمى والبصير} وقيل: إنه مثل للصنم وللمعبود الحق. ثم ذكر للكفر والإيمان مثلًا قائلًا {ولا الظلمات ولا النور} وإذا كان الإيمان نورًا والمؤمن بصيرًا فلا يخفى عليه النور، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ. ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلًا وهو الظل والحرور. قال أهل اللغة: السموم يكون بالنهار والحرور أعم. وقال بعضهم: الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب.
وههنا مسائل. الأولى: ضرب أوّلًا مثلًا للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل. الثانية: كرر لا النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيرًا بإحدى العينين أعمى بالأخرى. الثالثة: قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل. والمحققون قالوا: إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه. ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه. ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال: {وما يستوي الأحياء} أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله. والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين. الرابعة: إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر، ولعل فردًا من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور.
وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل الأنعام من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة. وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد. الخامسة: لا يخفى أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعًا إلى شفع وبعضها ضمت وترًا إلى وتر. ثم سلى ورسوله بقوله: {إن الله يسمع} الآية. فقد مرّ نظيره في قوله: {إنك لا تسمع الموتى} [النمل: 80] وإنما اقتصر على قوله: {إن أنت إلا نذير} وكذا في قوله: {إلا خلا فيها نذير} لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله. والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة. ثم زاد في التسلية بقوله: {وإن يكذبوك} وقد مر مثله في آخر آل عمران. وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال: {وإن يكذبوك فقد كذب} فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}.
ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} أي: المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق، و{هُوَ الغنى} على الإطلاق {الحميد} أي: المستحقّ للحمد من عباده بإحسانه إليهم.
ثم ذكر سبحانه نوعًا من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه، واستغناؤه عنهم، فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: إن يشأ يفنكم، ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه، ولا يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق، وعالم من العالم غير ما تعرفون {وَمَا ذلك} إلاّ ذهاب لكم، والإتيان بآخرين {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع، ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: نفس وازرة، فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر: تحمل.
والمعنى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي: إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؛ لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكلّ من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث: «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن الذين سنّ السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى.