فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه.
وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا يُنصف، والمقتصد الذي ينتصف ويُنصف، والسابق الذي يُنصف ولا ينتصف.
وقالت عائشة رضي الله عنها: السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف؛ وهم كلهم مغفور لهم.
قلت: ذكر هذا الأقوال وزيادةً عليها الثعلبيّ في تفسيره.
وبالجملة فهم طرفان وواسطة، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل؛ ومنه قول جابر بن حُنَيّ التَّغْلبيّ:
نعاطي الملوك السّلم ما قصدوا لنا ** وليس علينا قتلُهم بمحرّم

أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد، أي ما لم يجوروا، وليس قتلهم بمحرّم علينا إن جاروا؛ فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات.
{ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} يعني إتياننا الكتاب لهم.
وقيل: ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير.
وقيل: وعدُ الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل كبير.
الثالثة: وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل: التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفًا؛ كقوله تعالى: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} [الحشر: 20].
وقيل: قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من القليل؛ ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره.
وقيل: قدّم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه.
واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته.
وقيل: قدّم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخّر السابق لئلا يعجب بعمله.
وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه: قدّم الظالم ليخبر أنه لا يتقرّب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثَمَّ عناية، ثم ثنّى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالةً للعلل عن العطاء؛ لأن الاصطفاء يوجب الإرث، لا الإِرث يوجب الاصطفاء، ولذلك قيل في الحكمة: صحح النسبة ثم ادّع في الميراث.
وقيل: أخّر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، كما قدّم الصوامع والبيع في سورة الحج على المساجد، لتكون الصوامع أقربَ إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله.
وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدّموا الأدنى؛ كقوله تعالى: {لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 167]، وقوله: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور} [الشورى: 49]، وقوله: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} [الحشر: 20].
قلت: ولقد أحسن من قال:
وغاية هذا الجود أنت وإنما ** يوافي إلى الغايات في آخر الأمر

الرابعة: قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} جمعهم في الدخول لأنه ميراث، والعاق والبارّ في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب؛ فالعاصي والمطيع مقرّون بالرب.
وقرىء: {جَنَّةُ عَدْنٍ} على الإِفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم؛ على ما تقدّم.
و{جَنَّاتِ عَدْنٍ} بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر؛ أي يدخلون جنات عدن يدخلونها.
وهذا للجميع، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
وقرأ أبو عمرو {يُدخَلونها} بضم الياء وفتح الخاء.
قال: لقوله: {يُحَلَّوْن} وقد مضى في الحج الكلام في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23].
{وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قال أبو ثابت: دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم غُربتي وآنس وحدتي ويسر لي جليسًا صالحًا.
فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقًا فلأنا أسعد بذلك منك، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} قال: «فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرّع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» وفي لفظ آخر: «وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} إلى قوله: {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}» وقيل: هو الذي يؤخذ منه في مقامه؛ يعني يكفَّر عنه بما يصيبه من الهمّ والحزن، ومنه قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] يعني في الدنيا.
قال الثعلبيّ: وهذا التأويل أشبه بالظاهر؛ لأنه قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، ولقوله: {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} والكافر والمنافق لم يصطفَوْا.
قلت: وهذا هو الصحيح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ومَثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر» فأخبر أن المنافق يقرؤه، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرءونه في زماننا هذا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه.
والنَّصَب: التعب.
واللُّغوب: الإعياء. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه. والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره وتحققه وقيل: أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تَعال اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطًا ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسلِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} الآيةَ {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} بالتَّقصيرِ في العلمِ به وهو المرجأُ لأمرِ الله {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيءِ {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل: هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علمًا وعملًا وتعليمًا وفي قوله تعالى {بإذنِ الله} أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيةٌ على عزَّةِ منالِ هذه الرُّتيةِ وصعوبةِ مأخذِها وقيل: الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيءِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً. وهو معنى قوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حسابًا يسيرًا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته» وقد رُوي أنَّ عمرَ رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له» {ذلك} إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربِ العهد بالمشارِ إليه للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ {هُوَ الفضل الكبير} من الله عزَّ وجلَّ لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى.
{جنات عَدْنٍ} إمَّا بدلٌ من الفضلُ الكبيرُ بتنزيلِ السَّببِ منزلةَ المسَّببِ أو مبتدأٌ خبرُه {يَدْخُلُونَهَا} وعلى الأوَّلِ هو مستأنفٌ وجمعُ الضَّميرِ لأنَّ المرادَ بالسَّابقِ الجنسُ وتخصيصُ حالِ السَّابقينَ ومآلِهم بالذِّكرِ والسُّكوتُ عن الفريقينِ الآخرينِ وإنْ لم يدلَّ على حرمانِهما من دخولِ الجنةِ مُطلقًا لكنَّ فيه تحذيرًا لهما من التَّقصيرِ وتحريضًا على السَّعيِ في إدراكِ شأوِ السَّابقينَ. وقُرئ جنَّاتِ عدنٍ وجَّنةَ عدنٍ على النَّصبِ بفعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ. وقُرئ يُدخَلُونها على البناءِ للمفعولِ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} خبرٌ ثانٍ، أو حالٌ مقدرةٌ. وقُرئ يحلُون من حَلِيتْ المرأةُ فهي حاليةٌ {مِنْ أَسَاوِرَ} هيَ جمعُ أسورةٍ جمع سوارٍ {مّن ذَهَبٍ} مِن الأُولى تبعيضيَّةٌ، والثَّانيةُ بيانيَّةٌ أي يُحلَّون بعضَ أساورَ من ذهبٍ كأنَّه أفضلُ من سائرِ أفرادِها {وَلُؤْلُؤًا} بالنَّصبِ عطفًا على محلِّ من أساورَ وقُرئ بالجرِّ عطفًا على ذهبٍ أي من ذهبٍ مرصعٍ باللُّؤلؤِ أو من ذهبٍ في صفاءِ اللُّؤلؤِ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وتغييرُ الأسلوبِ قدمرَّ سرُّه في سورةِ الحجِّ.
{وَقَالُواْ} أي يقولون وصيغةَ الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} وهو ما أهمَّهم من خوفِ سوءِ العاقبةِ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: حَزَنُ الأعراضِ والآفاتُ، وعنه حَزَنُ الموتِ وعن الضَّحَّاكِ: حَزَنُ وسوسةِ إبليسَ. وقيل: همُّ المعاشِ، وقيل: حَزَنُ زوالِ النِّعمِ. والظَّاهرُ أنَّه الجنسُ المنتظمُ لجميعِ أحزانِ الدِّينِ والدُّنيا. وقُرئ الحُزْنَ وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «ليسَ على أهلِ لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورِهم ولا في محشرِهم، ولا في مسيرِهم وكأنِّي بأهل لا إله إلا الله يخرجُون من قبورِهم ينفضُون التُّرابَ عن وجوهِهم ويقولُون الحمدُ لله الذي أذهبَ عنَّا الحَزَنَ» {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} أي للمذنبينَ {شَكُورٌ} للمطيعينَ.
{الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} أي دارَ الإقامةِ التي لا انتقالَ عنها أبدًا {مِن فَضْلِهِ} من إنعامِه وتفضُّلِه من غيرِ أنْ يوجبَه شيءٌ من قبلنا {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} كلالٌ والفرقُ بينهما أنَّ النَّصبَ المشقَّة والكُلفة واللُّغوب ما بحدثُ منه من الفتورِ، والتَّصريحُ بنفي الثَّاني مع استلزامِ نفي الأوَّلِ له وتكريرُ الفعلِ المنفي للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كلَ منهما. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي القرآن كما عليه الجمهور، والعطف قيل على {الذى أَوْحَيْنَا} [فاطر: 31] وقيل على {أَوْحَيْنَا} بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه {الذين عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} وهم كما قال ابن عباس.
وغيره أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطًا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام، و{ثُمَّ} للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه صلى الله عليه وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه، وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلى الله عليه وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وجوز أن يكون معنى {أَوْرَثْنَا الكتاب} حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر.
وفي شرح الرضي أن ثم قد تجىء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى: {استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} [هود: 3] فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب المغفرة بونا بعيدًا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه. اهـ.
وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية، وجوز أن يكون {ثُمَّ أَوْرَثْنَا} الخ متصلًا بما سبق من قوله تعالى: {إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 4 2] والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية، والكتاب القرآن كما قيل {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين} [الشعراء: 196] وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولًا وعقبه بما ينبىء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 5 2] وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة} [فاطر: 9 2] الخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله صلى الله عليه وسلم من قوله سبحانه: {والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} [فاطر: 31] الخ استطرادًا معترضًا ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير، وعلى هذا يكون المعنى في {أَوْرَثْنَا} على ظاهره، وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذانًا بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} [فاطر: 29] على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد اقتصاص حال المكذبين منهم، فإن دفع ما فيه فهو من الحسن بمكان.
وجوز أن يكون عذفًا على {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} وإذا كان إيراث الكتاب سابقًا على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت التربي أو للتراخي في الأخبار {والذى أَوْحَيْنَا} الخ اعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها بمطابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه انتقل إليهم ممن سلف، وهو كما ترى، وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس؛ ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر، وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره.
وروى الإمامية عن الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هي لنا خاصة وإيانا عني أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب، واختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره مجمع البيان: وهذا أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم السلام.
وربما يستأنس له بقوله عليه الصلاة والسلام: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض» وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولًا أوليًا ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب، وإذا كانت الإضافة في {عِبَادِنَا} للتشريف واختص العباد بمؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين، وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم السلام اختارهم الله تعالى وحباهم برسالته وكتبه، وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى: {والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق} [فاطر: 1 3] وثم للتراخي في الأخبار، أخبر سبحانه أولًا عما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وهو متضمن للاخبار بإيتائه عليه الصلاة والسلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم السلام وإيتائهم الكتب، ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم السلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير} [فاطر: 5 2].