فصل: الفائدة الثانية: لا معبود إلا الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفائدة الثانية: لا معبود إلا الله:

قوله إياك نعبد يدل على أنه لا معبود إلا الله، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه لا إله إلا الله، فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يدل على التوحيد المحض واعلم أن المشركين طوائف، وذلك لأن كل من اتخذ شريكًا لله فذلك الشريك إما أن يكون جسمًا وإما أن لا يكون، أما الذين اتخذوا شريكًا جسمانيًا فذلك الشريك أما أن يكون من الأجسام السفلية أو من الأجسام العلوية، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام السفلية فذلك الجسم إما أن يكون مركبًا أو بسيطًا، أما المركب فأما أن يكون من المعادن أو من النبات أو من الحيوان أو من الإنسان، أما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام المعدنية فهم الذين يتخذون الأصنام إما من الأحجار أو من الذهب أو من الفضة ويعبدونها، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام النباتية فهم الذين اتخذوا شجرة معينة معبودًا لأنفسهم، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الحيوان فهم الذين اتخذوا العجل معبودًا لأنفسهم، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الناس فهم الذين قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام البسيطة فهم الذين يعبدون النار وهم المجوس، وأما الذين اتخذوا الشركاء من الأجسام العلوية فهم الذين يعبدون الشمس والقمر وسائر الكواكب ويضيفون السعادة والنحوسة إليها وهم الصابئة وأكثر المنجمين، وأما الذين اتخذوا الشركاء لله من غير الأجسام فهم أيضًا طوائف: الطائفة الأولى: الذين قالوا مدبر العالم هو النور والظلمة، وهؤلاء هم المانوية والثنوية.
والطائفة الثانية: هم الذين قالوا: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ولكل نوع من أنواع هذا العالم روح فلكي يدبره ويتخذون لتلك الأرواح صورًا وتماثيل ويعبدونها وهؤلاء هم عبدة الملائكة؛ والطائفة الثالثة: الذين قالوا للعالم إلهان: أحدهما: خير، والآخر شرير، وقالوا: مدبر هذا العالم هو الله تعالى وإبليس، وهما أخوان، فكل ما في العالم من الخيرات فهو من الله وكل ما فيه من الشر فهو من إبليس.
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول: كل ما اتخذ لله شريكًا فإنه لابد وأن يكون مقدمًا على عبادة ذلك الشريك من بعض الوجوه، إما طلبًا لنفعه أو هربًا من ضرره، وأما الذين أصروا على التوحيد وأبطلوا القول بالشركاء والأضداد ولم يعبدوا إلا الله ولم يلتفتوا إلى غير الله فكان رجاؤهم من الله وخوفهم من الله ورغبتهم في الله ورهبتهم من الله فلا جرم لم يعبدوا إلا الله ولم يستعينوا إلا بالله؛ فلهذا قالوا: {إياك نعبد وإياك نستعين}، فكان قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قائمًا مقام قوله: {لاَ إله إِلاَّ الله}.
واعلم أن الذكر المشهور هو أن تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد دللنا على أن قولنا الحمد لله يدخل فيه معنى قولنا سبحان الله لأن قوله سبحانه الله يدل على كونه كاملًا تامًا في ذاته، وقوله الحمد لله يدل على كونه مكملًا متممًا لغيره، والشيء لا يكون مكملًا متممًا لغيره إلا إذا كان قبل ذلك تامًا كاملًا في ذاته، فثبت أن قولنا الحمد لله دخل فيه معنى قولنا سبحان الله ولما قال الحمد لله فأثبت جميع أنواع الحمد ذكر ما يجري مجرى العلة لإثبات جميع أنواع الحمد لله، فوصفه بالصفات الخمس وهي التي لأجلها تتم مصالح العبد في الأوقات الثلاثة على ما بيناه، ولما بين ذلك ثبت صحة قولنا سبحان الله والحمد لله ثم ذكر بعده قوله إياك نعبد، وقد دللنا على أنه قائم مقام لا إله إلا الله ثم ذكر قوله وإياك نستعين، ومعناه أن الله تعالى أعلى وأجل وأكبر من أن يتم مقصود من المقاصد وغرض من الأغراض إلا بإعانته وتوفيقه وإحسانه، وهذا هو المراد من قولنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فثبت أن سورة الفاتحة من أولها إلى آخرها منطبقة على ذلك الذكر، وآيات هذه السورة جارية مجرى الشرح والتفصيل للمراتب الخمس المذكورة في ذلك الذكر.

.الفائدة الثالثة: في تقديم قوله: {إياك} على قوله: {نعبد}:

قال: {إياك نعبد} فقدم قوله إياك على قوله نعبد ولم يقل نعبدك، وفيه وجوه: أحدها: أنه تعالى قدم ذكر نفسه ليتنبه العابد على أن المعبود هو الله الحق، فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينًا وشمالًا؛ يحكى أن واحدًا من المصارعين الأستاذين صارع رستاقيًا جلفًا فصرع الرستاقي ذلك الأستاذ مرارًا فقيل للرستاقي: إنه فلان الأستاذ، فانصرع في الحال منه، وما ذاك إلا لاحتشامه منه، فكذا هاهنا: عرفه ذاته أولًا حتى تحصل العبادة مع الحشمة فلا تمتزج بالغفلة.
وثانيها: أنه إن ثقلت عليك الطاعات وصعبت عليك العبادات من القيام والركوع والسجود فاذكر أولًا قوله إياك نعبد لتذكرني وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرت جلالي وعظمتي وعزتي وعلمت أني مولاك وأنك عبدي سهلت عليك تلك العبادات، ومثاله أن من أراد حمل الجسم الثقيل تناول قبل ذلك ما يزيده قوة وشدة، فالعبد لما أراد حمل التكاليف الشاقة الشديدة تناول أولًا معجون معرفة الربوبية من بستوقة قوله إياك حتى يقوى على حمل ثقل العبودية، ومثال آخر وهو أن العاشق الذي يضرب لأجل معشوقه في حضرة معشوقه يسهل عليه ذلك الضرب، فكذا هاهنا: إذا شاهد جمال إياك سهل عليه تحمل ثقل العبودية.
وثالثها: قال الله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فالنفس إذا مسها طائف من الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة تذكروا حضرة جلال الله من مشرق قوله إياك نعبد فيصيرون مبصرين مستعدين لأداء العبادات والطاعات.
ورابعها: أنك إذا قلت نعبدك فبدأت أولًا بذكر عبادة نفسك ولم تذكر أن تلك العبادة لمن، فيحتمل أن إبليس يقول هذه العبادة للأصنام أو للأجسام أو للشمس أو القمر، أما إذا غيرت هذا الترتيب وقلت أولًا إياك ثم قلت ثانيًا نعبد كان قولك أولًا إياك صريحًا بأن المقصود والمعبود هو الله تعالى، فكان هذا أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك.
وخامسها: وهو أن القديم الواجب لذاته متقدم في الوجود على المحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدمًا على جميع الأذكار؛ فلهذا السبب قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون ذكر الحق متقدمًا على ذكر الخلق.
وسادسها: قال بعض المحققين: من كان نظره في وقت النعمة إلى المنعم لا إلى النعمة كان نظره في وقت البلاء إلى المبتلى لا إلى البلاء، وحينئذٍ يكون غرقًا في كل الأحوال في معرفة الحق سبحانه، وكل من كان كذلك كان أبدًا في أعلى مراتب السعادات، أما من كان نظره في وقت النعمة إلى النعمة لا إلى المنعم كان نظره في وقت البلاء إلى البلاء لا إلى المبتلى فكان غرقًا في كل الأوقات في الإشتغال بغير الله، فكان أبدًا في الشقاوة، لأن في وقت وجدان النعمة يكون خائفًا من زوالها فكان في العذاب وفي وقت فوات النعمة كان مبتلي بالخزي والنكال فكان في محض السلاسل والأغلال، ولهذا التحقيق قال لأمة موسى: {اذكروا نِعْمَتِيَ} [البقرة: 40]، وقال لأمة محمد عليه السلام: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، إذا عرفت هذا فنقول: إنما قدم قوله إياك على قوله نعبد ليكون مستغرقًا في مشاهدة نور جلال إياك، ومتى كان الأمر كذلك كان في وقت أداء العبادة مستقرًا في عين الفردوس، كما قال تعالى: لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعًا وبصرًا.
وسابعها: لو قيل نعبدك لم يفد نفي عبادتهم لغيره، لأنه لا امتناع في أن يعبدوا الله ويعبدوا غير الله كما هو دأب المشركين أما لما قال إياك نعبد أفاد أنهم يعبدونهم ولا يعبدون غير الله.
وثامنها: أن هذه النون نون العظمة، فكأنه قيل له متى كنت خارج الصلاة فلا تقل نحن ولو كنت في ألف ألف من العبيد، أما لما اشتغلت بالصلاة وأظهرت العبودية لنا فقل نعبد ليظهر للكل أن كل من كان عبدًا لنا كان ملك الدنيا والآخرة.
وتاسعها: لو قال إياك أعبد لكان ذلك تكبرًا ومعناه أني أنا العابد أما لما قال إياك نعبد كان معناه أني واحد من عبيدك، فالأول تكبر، والثاني تواضع، ومن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.
فإن قال قائل: جميع ما ذكرتم قائم في قوله الحمد لله مع أنه قدم فيه ذكر الحمد على ذكر الله.
فالجواب أن قوله الحمد يحتمل أن يكون لله ولغير الله فإذا قلت لله فقد تقيد الحمد بأن يكون لله أما لو قدم قولك: {نعبد} احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله وذلك كفر؛ والنكتة أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر كما جاز لله، لا جرم حسن تقدم الحمد أما هاهنا فالعبادة لما لم تجز لغير الله لا جرم قدم قوله إياك على نعبد، فتعين الصرف للعبادة فلا يبقى في الكلام احتمال أن تقع العبادة لغير الله.

.الفائدة الرابعة: النون في قوله: {نعبد}:

لقائل أن يقول: النون في قوله نعبد أما أن تكون نون الجمع أو نون التعظيم، والأول: باطل، لأن الشخص الواحد لا يكون جمعًا، والثاني: باطل لأن عند أداء العبادة، فاللائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعجز والذلة لا بالعظمة والرفعة.
واعلم أنه يمكن الجواب عنه من وجوه، كل واحد من تلك الوجوه يدل على حكمة بالغة: فالوجه الأول: أن المراد من هذه النون نون الجمع وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة، واعلم أن فائدة الصلاة بالجماعة معلومة في موضعها، ويدل عليه قوله عليه السلام: «التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها» ثم نقول: إن الإنسان لو أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة لئلا يتأذى منه إنسان فكأنه تعالى يقول: هذه الطاعة التي لها هذا الثواب العظيم لا يفي ثوابها بأن يتأذى واحد من المسلمين برائحة الثوم والبصل، فإذا كان هذا الثواب لا يفي بذلك فكيف يفي بإيذاء المسلم وكيف يفي بالنميمة والغيبة والسعاية.
الوجه الثاني: أن الرجل إذا كان يصلي بالجماعة فيقول نعبد، والمراد منه ذلك الجمع، وإن كان يصلي وحده كان المراد أني أعبدك والملائكة معي في العبادة.
فكان المراد بقوله نعبد هو وجميع الملائكة الذين يعبدون الله.
الوجه الثالث: أن المؤمنين أخوة فلو قال إياك أعبد لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره، أما لما قال إياك نعبد كان قد ذكر عبادة نفسه وعبادة جميع المؤمنين شرقًا وغربًا فكأنه سعى في إصلاح مهمات سائر المؤمنين، وإذا فعل ذلك قضى الله مهماته لقوله عليه السلام: «من قضى لمسلم حاجة قضى الله له جميع حاجاته».
الوجه الرابع: كأنه تعالى قال للعبد لما أثنيت علينا بقولك {الحمد لله رب العالمين} الرحمن الرحيم {مالك يوم الدين} وفوضت إلينا جميع محامد الدنيا والآخرة فقد عظم قدرك عندنا وتمكنت منزلتك في حضرتنا، فلا تقتصر على إصلاح مهماتك وحدك، ولكن أصلح حوائج جميع المسلمين فقل: {إياك نعبد وإياك نستعين}.
الوجه الخامس: كأن العبد يقول: إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أستحق أن أذكرها وحدها؛ لأنها ممزوجة بجهات التقصير، ولكني أخلطها بعبادات جميع العابدين، وأذكر الكل بعبارة واحدة وأقول إياك نعبد.
وهاهنا مسألة شرعية، وهي أن الرجل إذا باع من غيره عشرة من العبيد فللمشتري إما أن يقبل الكل، أو لا يقبل واحدًا منها، وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة فكذا هنا إذا قال العبد إياك نعبد فقد عرض على حضرة الله جميع عبادات العابدين، فلا يليق بكرمه أن يميز البعض عن البعض ويقبل البعض دون البعض، فأما أن يرد الكل وهو غير جائز لأن قوله إياك نعبد دخل فيه عبادات الملائكة وعبادات الأنبياء والأولياء، وإما أن يقبل الكل، وحينئذٍ تصير عبادة هذا القائل مقبولة ببركة قبول عبادة غيره، والتقدير كأن العبد يقول: إلهي إن لم تكن عبادتي مقبولة فلا تردني لأني لست بوحيد في هذه العبادة بل نحن كثيرون فإن لم أستحق الإجابة والقبول فأتشفع إليك بعبادات سائر المتعبدين فأجبني.