فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو الليث في تفسير أول الآية وآخرها دليل على أن الأصناف الثلاثة كلهم مؤمنون.
فأما أول الآية فقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة.
وأما آخر الآية فقوله: {يَدْخُلُونَهَا} إذ لم يقل يدخلانها.
جزء: 7 رقم الصفحة: 311
وروي- عن كعب الأحبار أنه قيل له ما منعك أن تسلم على يدي رسول الله عليه السلام قال: كان أبي مكنني من جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها فخرج أبي يومًا لحاجة فنظرت فيها فوجدت فيها نعت أمة محمد وأن يجعلهم الله يوم القيامة ثلاثة أثلاث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حسابًا يسيرًا ويدخلون الجنة وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت وقلت لعلي أكون من الصنف الأول وإن لم أكن من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} إلى قوله: {يَدْخُلُونَهَا}.
وفي التأويلات النجمية لما ذكرهم أصنافًا ثلاثة رتبها ولما ذكر حديث الجنة والتنعم والتزين فيها ذكرهم على الجمع {جَنَّاتُ عَدْنٍ} الآية نبه على أن دخولهم الجنة لا باستحقاق بل بفضله وليس في الفضل تميز فيما يتعلق بالنعمة دون ما يتعلق بالمنعم لأن في الخبر «إن من أهل الجنة من يرى الله سبحانه في كل جمعة بمقدار أيام الدنيا مرة ومنهم من يراه في كل يوم مرة ومنهم من هو غير محجوب عنه لحظة» كما سبق {يُحَلَّوْنَ} أي: يلبسون على سبيل التزين والتحلي نساء ورجالًا خبر ثان أو حال مقدرة {فِيهَا} أي: في تلك الجنات {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى تبعيضية والثانية بيانية.
وأساور جمع أسورة وهو جمع سوار مثل كتاب وغراب معرب دستواره والمعنى يحلون بعض أساور من ذهب لأنه أفضل من سائر أفرادها أي: بعضًا سابقًا لسائر الأبعاض كما سبق المسورون به غيرهم وقال في سورة هل أتى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} (الإنسان: 21) قيل يجمع لهم الذهب والفضة جميعًا وهو أجمل أو بعضهم يحلون بالذهب وهم المقربون وبعضهم يحلون بالفضة وهم الأبرار {وَلُؤْلُؤًا} بالنصب عطفًا على محل من أساور.
واللؤلؤ الدر سمي بذلك لتلألئه ولمعانه والمعنى ويحلون لؤلؤًا.
وقرىء بالجر عطفًا على ذهب أي: من ذهب مرصع باللؤلؤ ومن ذهب في صفاء اللؤلؤ وذلك لأنه لم يعهد الأسورة من نفس اللؤلؤ إلا أن تكون بطريق النظم في السلك.
وقال في بحر العلوم: عطف على ذهب فإنهم يسورون بالجنسين أساور من ذهب ومن لؤلؤ وذلك على الله يسير وكم من أمر من أمور الآخرة يخالف أمور الدنيا وهذا منها.
{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} لا كحرير الدنيا فإنه لا يوجد من معناه في الدنيا إلا الاسم واللباس اسم ما يلبس وبالفارسية: جامه ووشش والحرير من الثياب مارق كما في المفردات وثوب يكون سداه ولحمته ابريسما وإن كان في الأصل الابريسم المطبوخ كما في القهستاني.
ويحرم لبسه على الرجال دون النساء إلا في الحرب ولكن لا يصلي فيه إلا أن يخاف العدو أو لضرورة كحكة أو جرب في جسده أو لدفع القمل ولا يلبسه وإن لم يتصل بجلده وهو الصحيح وجاز أن يكون عروة القميص وزره حريرًا كالعلم في الثوب ولا بأس أن يشد خمارًا أسود من الحرير على العين الرامدة والناظرة إلى الثلج وأن تكون التكة حريرًا ورخص قدر أربع أصابع كما هي.
وقيل مضمومة ولا يجمع المتفرق من الحرير.
ويجوز عند الإمام أن يجعل الحرير تحت رأسه وجنبه ويكره عندهما وبه أخذ أكثر المشايخ.
وعلى هذا الخلاف تعليق الحرير على الجدر ولا بأس بالجلوس على بساط الحرير والصلاة على السحادة منه ويوضع ملاءة الحرير على مهد الصبي.
ويلبس الرجل في الحرب وغيره بلا كراهة إجماعًا ما سداه ابريسم ولحمته وغيره سواء كان مغلوبًا أو غالبًا أو مساويًا للحرير وهو الصحيح.
ويلبس عكسه أي: ما لحمته ابريسم وسداه غيره في حرب فقط.
وكره إلباس الصبي ذهبًا أو حريرًا لئلا يعتاده والإثم على الملبس لأن الفعل مضاف إليه.
وكذا يكره كل لباس خلاف السنة والمستحب أن يكون من القطن والكتان أو الصوف.
وأحب الألوان البياض.
ولبس الأخضر سنة.
ولبس الأسود مستحب ولا بأس بالثوب الأحمر كما في الزاهدي الكل من القهستاني وقد سبق باقي البيان في سورة الحج وغيرها {وَقَالُوا} أي: ويقولون عند دخول الجنة حمدًا لربهم على ما صنع بهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وبالفارسية: وكويند اين جمع ون ازحفره دوزخ برهند وبروضه بهشت برسند {الْحَمْدُ} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال لمن له تمام القدرة {الَّذِى أَذْهَبَ} أزال {عَنَّا} بدخولنا الجنة {الْحَزَنَ} الحزن بفتحتين والحزن بالضم والسكون واحد وهو خشونة الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم ويضاده الفرح.
وفي التأويلات النجمية: سمي الحزن حزنًا لحزونة الوقت على صاحبه وليس في الجنة وهي جوار الحضرة حزونة وإنما هي رضى واستبشار انتهى.
والمراد جنس الجزن سواء كان حزن الدنيا أو حزن الآخرة من هم المعاش وحزن زوال النعم والجوع والعطش وقوت من الحلال وخوف السلطان ودغدغة التحاسد والتباغض وحزن الأعراض والآفات ووسوسة إبليس والسيئات ورد الطاعات وسوء العاقبة والموت وأهوال يوم القيامة والنار والمرور على الصراط وخوف الفراق وتدبير الأحوال وغير ذلك وفي الحديث «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم ينفضون التراب عن وجوههم ويوقولون الحمدالذي أذهب عنا الحزن».
قال أبو سعيد الخراز قدس سره: أهل المعرفة في الدنيا كأهل الجنة في الآخرة فتركوا الدنيا في الدنيا فتنعموا وعاشوا عيش الجنانيين بالحمد والشكر بلا خوف ولا حزن.
{إِنَّ رَبَّنَا} المحسن إلينا مع إساءتنا {لَغَفُورٌ} للمذنبين فيبالغ في ستر ذنوبهم الفائتة للحصر {شَكُورٌ} للمطيعين فيبالغ في إثابتهم فإن الشكر من الله الإثابة والجزاء والوفاق.
وفي التأويلات: غفور للظالم لنفسه شكور للمقتصد والسابق وإنما قدم ما للظالم رفقًا بهم لضعف أحوالهم انتهى.
ثم وصفوا الله بوصف آخر هو شكر له فقالوا:
{الَّذِى أَحَلَّنَا} أنزلنا يقال حلت نزلت من حل الأحمال عند النزول ثم جرد استعماله للنزول فقيل: حل حلولًا وأحله غيره والمحلة مكان النزول كما في المفردات {دَارَ الْمُقَامَةِ} مفعول ثانٍ لأحل وليست بظرف لأنها محدودة.
والمقامة بالضم مصدر تقول أقام يقيم إقامة ومقامة أي: دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدًا فلا يريد النازل بها ارتحالًا منها ولا يراد به ذلك {مِّن فَضْلِهِ} أي: من أنعامه وتفضله من غير أن يوجبه شيء من قبلنا من الأعمال فإن الحسنات فضل منه أيضًا فلا واجب عليه.
وذلك أن دخول الجنة بالفضل والرحمة واقتسام الدرجات بالأعمال والحسنات هذا مخلوق تحت رق مخلوق مثله لا يستحق على سيده عوضًا لخدمته فكيف الظن بمن له الملك على الإطلاق أيستحق من يعبده عوضًا عن عبادته تعالى الله عما يقول المعتزلة من الإيجاب.
وفي التأويلات وبقوله: {الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} من فضله كشف القناع عن وجه الأحوال كلها فدخل كل واحد من الظالم والمقتصد والسابق في مقام أحله الله فيه من فضله لا بجهده وعمله وأن الذي أدخله الله الجنة جزاء بعمله فتوفيقه للعمل الصالح أيضًا من فضل الله وهذا حقيقة قوله عليه السلام: «قبل من قبل لا لعلة ورد من رد لا لعلة» {لا يَمَسُّنَا} المس كاللمس وقد يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى {فِيهَا} أي: في دار الإقامة في وقت من الأوقات {نَصَبٌ} تعب بدن ولا وجع كما في الدنيا {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} كلال وفتور إذ لا تكليف فيها ولا كدّ، وإذا أرادوا أن يروه لا يحتاجون إلى قطع مسافة وانتظار وقت بل هم في غرفهم يلقون فيها تحية وسلامًا وإذا رأوه لا يحتاجون إلى تحديق مقلة في جهة يرونه كما هم بلا كيفية كل صفة لهم أرادت الرؤية لقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ} (الزخرف: 71) والفرق بين النصب واللغوب أن النصب نفس المشقة والكلفة واللغوب ما يحدث منه من الفتور للجوارح.
قال أبو حيان هو لازم من تعب البدن فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها:
علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء

والتصريح بنفي الثاني مع استلزام نفي الأول له وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما.
روي- عن الضحاك رحمه الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون فبعث الله من الملائكة من معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك كما أنت ويقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه مكتوب في أول خاتم منها {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر: 73) وفي الثاني مكتوب {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (ق: 34) وفي الثالث مكتوب رفعت عنكم الأحزان والهموم وفي الرابع مكتوب زوجناكم الحور العين وفي الخامس مكتوب {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ءَامِنِينَ} (الحجر: 46) وفي السادس مكتوب {إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} (المؤمنون: 111) وفي السابع مكتوب {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئزُونَ} (المؤمنون: 111) وفي الثامن مكتوب صرتم آمنين لا تخافوا أبدًا وفي التاسع مكتوب رافقتم النبيين والصديقين والشهداء وفي العاشر مكتوب في جوار من لا يؤذي الجيران ثم يقول الملك {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ءَامِنِينَ}. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
الكتاب هنا، هو القرآن الكريم.
والذين أورثهم اللّه هذا الكتاب هم المؤمنون به، في كل زمن، ومن كل أمة.. فهم الوارثون لهذا الكتاب، المنتفعون بما فيه من خير، انتفاع الوارث بما يرث.. والآية الكريمة تنويه بهذه الأمة الإسلامية، ورفع لقدرها، وحسبها أن تكون المصطفاة من عباد اللّه، لتلقّى هذا الكتاب، وجعله ميراثا دائما، يأخذه الأبناء عن الآباء إلى يوم الدين.
ففى العطف بحرف ثم إشارة إلى أن ما أوحى إلى النبي حتى نزول هذه الآية، لم يكن إلا بعضا من الكتاب.. وأن ميراث المسلمين لهذا الكتاب لم يأت بعد، لأن الكتاب لم يتم نزوله، وسيتم ذلك بعد بضع سنوات. ولهذا جاء العطف بثم ليفيد هذا التراخي في الزمن، بين نزول هذه الآية وبين تمام نزول القرآن:
وفي قوله تعالى: {أَوْرَثْنَا} إشارة أخرى إلى أن هذا الكتاب، هو ميراث المسلمين على مرّ الأزمان، وأنه لهم خالصة من دون الناس، إذ كانوا هم الذين ينتفعون به، ويجنون الثمر الطيب منه.. وسمّى القرآن ميراثا، لأنه فضل من فضل اللّه سبحانه وتعالى، لم يحصله المسلمون بكدّهم وسعيهم، وإنما وضعه اللّه بين أيديهم، إحسانا وفضلا.
وفي قوله تعالى: {اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} إشارة ثالثة إلى أن هؤلاء المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب، هم المصطفون من عباد اللّه جميعا، لأنهم هم المؤمنون.
وهذا يعنى أن الذين لا يؤمنون بهذا الكتاب، ليسوا على الإيمان،. بل هم كافرون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} وهذا يعنى من جبهة رابعة أن المسلمين جميعا هم الفريق المصطفى والمتخير من فريقى الناس.. إذ الناس في الدنيا فريقان:
مؤمن، وكافر، كما يقول اللّه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (2: التغابن).. وهم في الآخرة فريقان كذلك.
كما يقول اللّه تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أن هؤلاء المسلمين، الذين أورثهم اللّه الكتاب، واصطفاهم من بين عباده للإيمان به- هؤلاء ليسوا على درجة واحدة، في إيمانهم باللّه، وفي منزلتهم عنده، بل هم درجات عند اللّه، وإن كانوا جميعا في مقام الاصطفاء.
إنهم في مجموعهم، ثلاث طوائف: طائفة آمنت باللّه، ولكنها لم تعمل بهدى هذا الإيمان، ولم ترتفع بأعمالها إلى مستواه، فظلمت نفسها بالوقوف عند أول درجة من درجات الكمال، وقد فتح أمامها الطريق إليه، وأقيمت لها على جوانبه معالم الهدى.. وإنه لا عذر لها في التوقف عن السير في هذا الطريق الآمن المطمئن، لتجنى ما وعدت به على طريقه من خيرات ومسرا.
وهذه الطائفة هي طائفة العصاة من المؤمنين، أصحاب الكبائر.. وطائفة أخرى.. آمنت به كذلك، ولكنها لم تقف عند أول منزلة من منازل الإيمان، بل خطت خطوات بطيئة متمهلة.. تسير حينا، وتتوقف حين.
ومع هذا فهى على الطريق سائرة.
وهؤلاء هم المؤمنون، الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. فأحسنوا وأساءوا، وأطاعوا وعصوا.. وهؤلاء هم وسط بين الذين ظلموا أنفسهم، والذين سبقوا بالخيرات. وهم الطائفة الثالثة من طوائف المؤمنين.. أما الطائفة الثالثة فهى طائفة أولئك الذين ساروا سيرا حثيثا على طريق الإيمان، فلم يقفوا عند إثم، ولم يسكنوا إلى كنف معصية، فسبقوا بالخيرات، وبلغوا الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم.. وهؤلاء هم الأتقياء، والصالحون، والأبرار، وهم الذين أنعم اللّه عليهم، ومنحهم التوفيق، وحفظهم من الزلل على الطري.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}. فهذا السبق الذي كان لهم، هو بتوفيق اللّه، وبفضله عليهم، وإلى هذا يشير اللّه سبحانه بقوله: {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}. ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الميراث، أو الاصطفاء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} فهذا وذاك فضل كبير من اللّه رب العالمين.
ونخلص من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما على ضوء هذه الآية الكريمة:
الحقيقة الأولى، هي أن المسلمين، الذين أورثهم اللّه القرآن الكريم، هم جميعا- المستقيم منهم والمعوج، والمطيع والعاصي- هم الفريق المصطفى المتخير من اللّه من بين عباد اللّه.. فالمسلمون فريق.. والناس جميعا فريق.
الحقيقة الثانية، وهى أن أهل هذه الملة جميعا ناجون، وأن أهل المعصية منهم إذا حبسوا على النار قليلا أو كثيرا، فإنهم من أهل الجنة. وهذا ما بشير إليه الحديث الشريف: «من قال لا إله إلا اللّه مؤمنا بها قلبه دخل الجنة» وفي الحديث أيضا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وينبنى على هاتين الحقيقتين أمور:
أولها: أن على المسلم أن ينظر إلى نفسه، في هذا المقام الكريم الذي وضعه اللّه سبحانه وتعالى فيه، وجعله من أهل اصطفائه، وهذا يقتضيه أن يحرص الحرص كله على أن يحتفظ بمكانه هذا، وأن يطلب منزلة أعلى، في منازل الإيمان التي لا حدود لها، وألا يسفّ ويتدلّى، فتزلّ قدمه بعد ثبوته.