فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو بكر بن العربي في العارضة: من الناس من قال: إن هذه الأصناف الثلاثة هم الذين في سورة الواقعة (8 10): {أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون} وهذا فاسد لأن أصحاب المشأمة في النار الحامية، وأصحاب سورة فاطر في جنة عالية لأن الله ذكرهم بين فاتحة وخاتمة فأما الفاتحة فهي قوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} [فاطر: 32] فجعلهم مصطفَيْن.
ثم قال في آخرهم {جنات عدن يدخلونها} [فاطر: 33] ولا يصطفَى إلا من يدخل الجنة، ولكن أهل الجنة ظالم لنفسه فقال: {فمنهم ظالم لنفسه} [فاطر: 32] وهو العاصي والظالم المطلق هو الكافر، وقيل عنه: الظالم لنفسه رفقًا به، وقيل للآخر: السابق بإذن الله إنباء أن ذلك بنعمة الله وفضله لا من حال العبد. اهـ.
وفي الإِخبار بالمسند الفعلي عن المسنْد إليه إفادة تقوي الحكم وصوَغ الفعل بصيغة المضارع لأنه مستقبل، وكذلك صوغ {يحلون} وهو خبر ثانٍ عن {جنات عدن}.
وتقدم نظيرها في سورة الحج فانظره.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر {ولؤلؤًا} بالنصب عطفًا على محل {أساور} لأنه لما جر بحرف الجر الزائد كان في موضع نصب على المفعول الثاني لفعل {يحلون} فجاز في المعطوف أن ينصب على مراعاة محل المعطوف عليه.
وقرأه الباقون بالجر على مراعاة اللفظ، وهما وجهان.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
الأظهر أن جملة {وقالوا} في موضع الحال من ضمير {يحلون} [فاطر: 33] لئلا يلزم تأويل الماضي بتحقيق الوقوع مع أنه لم يقصد في قوله: {يدخلونها} [فاطر: 33].
وتلك المقالة مقارنة للتحلية واللباس، وهو كلام يجري بينهم ساعتئذ لإِنشاء الثناء على الله على ما خوّلهم من دخول الجنة، ولما فيه من الكرامة.
وإذهاب الحزن مجاز في الإِنجاء منه فتصدق بإزالته بعد حصوله ويصدق بعدم حصوله.
و{الحزن} الأسف.
والمراد: أنهم لمّا أعطوا ما أعطوه زال عنهم ما كانوا فيه قبلُ من هول الموقف ومن خشية العقاب بالنسبة للسابقين والمقتصدين ومما كانوا فيه من عقاب بالنسبة لظالمي أنفسهم.
وجملة {إن ربنا لغفور شكور} استئنافُ ثناء على الله شكروا به نعمة السلامة أثنوا عليه بالمغفرة لما تجاوز عما اقترفوه من اللمم وحديثثِ الأنفس ونحو ذلك مما تجاوز الله عنه بالنسبة للمقتصدين والسابقين، ولما تجاوز عنه من تطويل العذاب وقبول الشفاعة بالنسبة لمختلف أحوال الظالمين أنفسهم وأثنوا على الله بأنه شكور لما رأوا من إفاضته الخيرات عليهم ومُضاعفة الحسنات مما هو أكثر من صالحات أعمالهم.
وهذا على نحو ما تقدم في قوله: {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور} [فاطر: 30].
و{المُقَامة} مصدر ميمي من أقام بالمكان إذا قطنه.
والمراد: دار الخلود.
وانتصب {دار المقامة} على المفعول الثاني ل {أحلنا} أي أسكننا.
و{مِن} في قوله: {من فضله} ابتدائية في موضع الحال من {دار المقامة}.
والفضل: العطاء، وهو أخُو التفضل في أنه عطاء منّة وكرم.
ومن فضل الله أن جعل لهم الجنة جزاء على الأعمال الصالحة لأنه لو شاء لما جعل للصالحات عطاء ولكان جزاؤها مجرد السلامة من العقاب، وكان أمر مَن لم يستحق الخلود في النار كفافًا، أي لا عقاب ولا ثواب فيبقى كالسوائم، وإنما أرادوا من هذا تمام الشكر والمبالغة في التأدب.
وجملة {لا يمسنا فيها نصب} حال ثانية.
والمسّ: الإِصابة في ابتداء أمرها، والنصب: التعب من نحو شدّة حر وشدة برد.
واللغوب: الإِعياء من جراء عمل أو جري.
وإعادة الفعل المنفي في قوله: {ولا يمسنا فيها لغوب} لتأكيد انتفاء المسّ. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها، أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال: {ألم تر}، وهذا الاستفهام تقريري، ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدًّا.
والخطاب للسامع، وتر من رؤية القلب، لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق للنقل، وإن كان إنزال المطر مشاهدًا بالعين، لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها.
وخرج من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله: {فأخرجنا}، لما في ذلك من الفخامة، إذ هو مسند للمعظم المتكلم.
ولأن نعمة الإخراج أتم من نعمة الإنزال لفائدة الإخراج، فأسند الأتم إلى ذاته بضمير المتكلم، وما دونه بضمير الغائب.
والظاهر أن الألوان، إن أريد بها ما يتبادر إليه الذهن من الحمرة والصفرة والخضرة والسواد وغير ذلك، والألوان بهذا المعنى أوسع وأكثر من الألوان بمعنى الأصباغ.
وقرأ الجمهور: {مختلفًا ألوانها}، على حد اختلف ألوانها.
وقرأ زيد بن علي: مختلفة ألوانها، على حد اختلفت ألوانها، وجمع التكسير يجوز فيه أن تلحق التاء، وأن لا تلحق.
وقرأ الجمهور: {جُدَد}، بضم الجيم وفتح الدال، جمع جدة.
قال ابن بحر: قطع من قولك: جددت الشيء: قطعته.
وقرأ الزهري: كقراءة الجمهور.
قال صاحب اللوامح: جمع جدة، وهي ما تخالف من الطريق في الجبال لون ما يليها.
وعنه أيضًا، بضم الجيم والدال: جمع جديدة وجدد وجدائد، كما يقال في الاسم: سفينة وسفن وسفائن.
قال أبو ذؤيب:
جون السراة أم جدائد أربع

وعنه أيضًا: بفتح الجيم والدال، ولم يجزه أبو حاتم في المعنى، ولا صححه أثرًا.
وقال غيره: هو الطريق الواضح المبين، وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض.
وقال أبو عبيدة: يقال جدد في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية.
وقال صاحب اللوامح: جدد جمع جديد بمعنى: آثار جديدة واضحة الألوان. انتهى.
وقال: مختلف ألوانها، لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف، فأبيض لا يشبه أبيض، وأحمر لا يشبه أحمر، وإن اشتركا في القدر المشترك، لكنه مشكل.
والظاهر عطف {وغرابيب} على {حمر}، عطف ذي لون على ذي لون.
وقال الزمخشري: معطوف على {بيض} أو على {جدد}، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد.
وقال بعد ذلك: ولابد من تقدير حذف المضاف في قوله: {ومن الجبال جدد}، بمعنى: ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى تئول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: {ثمرات مختلفًا ألوانها}.
{ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانها} يعني: ومنهم بعض مختلف ألوانه.
وقرأ ابن السميفع: ألوانها. انتهى.
والظاهر أنه لما ذكر الغرابيب، وهو الشديد السواد، لم يذكر فيه مختلف ألوانه، لأنه من حيث جعله شديد السواد، وهو المبالغ في غاية السواد، لم يكن له ألوان، بل هذا لون واحد، بخلاف البيض والحمر، فإنها مختلفة.
والظاهر أن قوله: {بيض حمر} ليسا مجموعين بجدة واحدة، بل المعنى: جدد بيض، وجدد حمر، وجدد غرابيب.
ويقال: أسود حلكوك، وأسود غربيب، ومن حق الواضح الغاية في ذلك اللون أن يكون تابعًا.
فقال ابن عطية: قدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر، وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرًا على هذا.
وقال الزمخشري: الغربيب تأكيد للاسود، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد، كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق، وما أشبه ذلك؛ ووجهه أن يظهر المؤكد قبله، فيكون الذي بعده تفسيرًا لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطير

وإنما يفعل لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريق الإظهار والإضمار جميعًا. انتهى.
وهذا لا يصح إلا على مذهب من يجيز حذف المؤكد.
ومن النحاة من منع ذلك، وهو اختيار ابن مالك.
وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي سود غرابيب.
وقيل: سود بدل من غرابيب، وهذا أحسن، ويحسنه كون غرابيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدًا، ومنه ما جاء في الحديث: «أن الله يبغض الشيخ الغربيب» يعني الذي يخضب بالسواد، وقال الشاعر:
العين طامحة واليد سابحة ** والرجل لائحة والوجه غربيب

وقال آخر:
ومن تعاجيب خلق الله غالية ** البعض منها ملاحيّ وغربيب

وقرأ الجمهور: {الدواب}، مشدد الباء؛ والزهري: بتخفيفها، كراهية التضعيف، إذ فيه التقاء الساكنين.
كما همز بعضهم {ولا الظالين}، فرارًا من التقاء الساكنين، فحذف هنا آخر المضعفين وحرك أول الساكنين.
ومختلفة، صفة لمحذوف، أي خلق مختلف ألوانه كذلك، أي كاختلاف الثمرات والجبال؛ فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله، والوقف عليه حسن.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب، كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله.
{إنما يخشى الله من عباده العلماء}: أي المخلصون لهذه العبر، الناظرون فيها. انتهى.
وهذا الاحتمال لا يصح، لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق بهذا المجرور قبلها، ولو خرج مخرج السبب، لكان التركيب: كذلك يخشى الله من عباده، أي لذلك الاعتبار، والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله.
ولكن التركيب جاء بإنما، وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها، والعلماء هم الذين علموه بصفاته وتوحيده وما يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علمًا ازداد منه خوفًا، ومن كان علمه به أقل كان آمن، وقد وردت أحاديث وآثار في الخشية.
وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق، وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه.
ومن ادعى أن إنما للحصر قال: المعنى ما يخشى الله إلا العلماء، فغيرهم لا يخشاه، وهو قول الزمخشري.
وقال ابن عطية: وإنما في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضًا دونه، وإنما ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه. انتهى.
وجاءت هذه الجملة بعد قوله: {الم تر}، إذ ظاهره خطاب للرسول، حيث عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه وعلى صفاته، فكأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته.
وقرأ الجمهور: بنصب الجلالة ورفع العلماء.
وروي عن عمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة عكس ذلك، وتؤولت هذه القراءة على أن الخشية استعارة للتعظيم، لأن من خشي وهابه أجل وعظم من خشيه وهاب، ولعل ذلك لا يصح عنهما.
وقد رأينا كتبًا في الشواذ، ولم يذكروا هذه القراءة، وإنما ذكرها الزمخشري، وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن جبارة في كتابه الكامل.
{إن الله عزيز غفور}: تعليل للخشية، إذ العزة تدل على عقوبة العصاة وقهرهم، والمغفرة على إنابة الطائعين والعفو عنهم.
{إن الذين يلتون}: ظاهره يقرأون، {كتاب الله}: أي يداومون تلاوته.
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، ويتبعون كتاب الله، فيعملون بما فيه؛ وعن الكلبي: يأخذون بما فيه.
وقال السدي: هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وقال: عطاءهم المؤمنون.
ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية، وهي عمل القلب، ذكر أنهم يتلون كتاب الله، وهو عمل اللسان.
{وأقاموا الصلاة}: وهو عمل الجوارح، وينفقون: وهو العمل المالي.
وإقامة الصلاة والإنفاق: يقصدون بذلك وجه الله، لا للرياء والسمعة.
{تجارة لن تبور}: لن تكسد، ولا يتعذر الربح فيها، بل ينفق عند الله.
{ليوفهم}: متعلق بيرجون، أو بلن تبور، أو بمضمر تقديره: فعلوا ذلك، أقوال.
وقال الزمخشري: وإن شئت فقلت: يرجون في موضع الحال على وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلو جميع ذلك لهذا الغرض.
وخبر إن قوله: {إنه غفور شكور} لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة. انتهى.
وأجورهم هي التي رتبها تعالى على أعمالهم، وزيادته من فضله.
قال أبو وائل: بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم.
وقال الضحاك: بتفسيح القلوب، وفي الحديث: «بتضعيف حسناتهم» وقيل: بالنظر إلى وجهه.
والكتاب: هو القرآن، ومن: للتبين أو الجنس أو التبعيض، تخريجات للزمخشري.
{ومصدقًا}: حال مؤكدة لما {بين يديه} من الكتب الإلهية: التوراة والانجيل والزبور وغيره، وفيه إشارة إلى كونه وحيًا، لأنه عليه السلام لم يكن قارئًا كاتبًا، وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله تعالى.
{إن الله بعباده لخبير بصير}: عالم بدقائق الأشياء وبواطنها، بصير بما ظهر منها، وحيث أهلك لوحيه، واختارك برسالته وكتابه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
{ثم أورثنا الكتاب}، وثم قيل: بمعنى الواو، وقيل: للمهلة، إما في الزمان، وإما في الإخبار على ما يأتي بيانه.