فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والكتاب فيه قولان، أحدهما: أن المعنى: أنزلنا الكتب الإلهية، والكتاب على هذا اسم جنس.
والمصطفون، على ما يأتي بيانه أن المعنى: الأنبياء وأتباعهم، قاله الحسن.
وقال ابن عباس: هم هذه الأمة، أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كل كتاب أنزله الله.
وقال ابن جرير: أورثهم الإيمان، فالكتب تأمر باتباع القرآن، فهم مؤمنون بها عاملون بمقتضاها، يدل عليه: {والذين أوحينا إليك من الكتاب هو الحق}، ثم أتبعه بقوله: {ثم أورثنا الكتاب}، فعلمنا أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان معنى الميراث: انتقال شيء من قوم إلى قوم، ولم تكن أمة انتقل إليها كتاب من قوم كانوا قبلهم غير أمته.
فإذا قلنا: هم الأنبياء وأتباعهم، كان المعنى: أورثنا كل كتاب أنزل على نبي، ذلك النبي وأتباعه.
والقول الثاني: أن الكتاب هو القرآن، والمصطفون أمة الرسول، ومعنى أورثنا، قال مجاهد: أعطينا، لأن الميراث عطاء.
ثم قسم الوارثين إلى هذه الأقسام الثلاثة، قال مكي: فقيل هم المذكرون في الواقعة.
فالسابق بالخيرات هو المقرب، والمقتصد أصحاب الميمنة، والظالم لنفسه أصحاب المشأمة، وهو قول يروى معناه عن عكرمة والحسن وقتادة، قالوا: الضمير في منهم عائد على العباد.
فالظالم لنفسه الكافر والمنافق، والمقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق، وقالوا: هو نظير ما في الواقعة.
والأكثرون على أن هؤلاء الثلاثة هم في أمة الرسول، ومن كان من أصحاب المشأمة مكذبًا ضالًا لا يورث الكتاب ولا اصطفاه الله، وإنما الذي في الواقعة أصناف الخلق من الأولين والآخرين.
قال عثمان ابن عفان: سابقنا أهل جهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جمعة ولا جماعة.
وقال معاذ: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة لم يتب منها، والمقتصد: من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها، والسابق: من مات نائبًا عن كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك.
وقيل: الظالم لنفسه: العاصي المسرف، والمقتصد: متقي الكبائر، والسابق: المتقي على الإطلاق.
وقال الحسن: الظالم: من خفت حسناته، والمقتصد: من استوت، والسابق: من رجحت.
وقال الزمخشري: قسمهم إلى ظالم مجرم، وهو المرجأ لأمر الله، ومقتصد، وهو الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا؛ وسابق، من السابقين. انتهى.
وذكر في التجريد ثلاثة وأربعين قولًا في هؤلاء الأصناف الثلاثة.
وقرأ أبو عمران الحوفي، وعمر ابن أبي شجاع، ويعقوب في رواية، والقراءة عن أبي عمر و: سباق؛ والجمهور.
سابق، قيل: وقدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله.
وقال الزمخشري: للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم، وأن المقتصد قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. انتهى.
{بإذن الله}: بتيسيره وتمكنه، أي أن سبقه ليس من جهة ذاته، بل ذلك منه تعالى.
والظاهر أن الإشارة بذلك الى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة.
{وجنات} على هذا مبتدأ، و{يدخلونها} الخبر.
وجنات، قرأءة الجمهور جمعًا بالرفع، ويكون ذلك إخبارًا بمقدار أولئك المصطفين.
وقال الزمخشري، وابن عطية: {جنات} بدل من {الفضل}.
قال الزمخشري: فإن قلت: فكيف جعلت {جنات عدن} بدلًا من {الفضل الكبير} الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن. انتهى.
ويدل على أنه مبتدأ قراءة الجحدري وهارون، عن عاصم.
{جنات} ، منصوبًا على الاشتغال، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها.
وقرأ رزين، وحبيش، والزهري: جنة على الأفراد.
وقرأ أبو عمرو: ويدخلونها مبنيًا للمفعول، ورويت عن ابن كثير والجمهور مبنيًا للفاعل.
والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائدًا على الأصناف الثلاثة، وهو يقول عبد الله بن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وعقبة بن عامر، وأبي سعيد، وعائشة، ومحمد بن الحنيفة، وجعفر الصادق، وأبي إسحاق السبيعي، وكعب الأحبار.
وقرأ عمر هذه الآية، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» ومن جعل ثلاثة الأصناف هي التي في الواقعة، لأن الضمير في يدخلونها عائد عنده على المقتصد والسابق.
وقال الزمخشري: هو عائد على السابق فقط، ولذلك جعل ذلك إشارة إلى السبق بعد التقسيم، فذكر ثوابهم.
والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليهلك الظالم لنفسه حذرًا، وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله، ولا يغتر بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»، فإن شرط ذلك صحة التوبة، عسى الله أن يتوب عليهم.
وقوله: {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم}، ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخداع.
انتهى، وهو على طريق المعتزلة.
وقرأ الجمهور: {يحلون} بضم الياء وفتح الحاء وشد اللام، مبنيًا للمفعول.
وقرىء: بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام، من حليت المرأة فهي حال، إذا لبست الحلى.
ويقال: جيد حال، إذا كان فيه الحلى، وتقدم في سورة الحج الكلام على {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير}.
وقرأ الجمهور: {الحزن} بفتحتين؛ وقرىء: بضم الحاء وسكون الزاي، ذكره جناح بن حبيش، والحزن يعم جميع الأحزان، وقد خص المفسرون هنا وأكثروا، وينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل لا على التعيين، فقال أبو الدرداء: حزن: أهوال يوم القيامة، وما يصيب هنالك من ظلم نفسه من الغم والحزن.
وقال سمرة بن جندب: معيشة الدنيا الخير ونحوه.
وقال قتادة: حزن الدنيا في الحوفة أن لا يتقبل أعمالهم.
وقال مقاتل: حزن الانتقال، يقولونها إذا استقروا فيها.
وقال الكلبي: خوف الشيطان.
وقال ابن زيد: حزن: تظالم الآخرة، والوقوف عن قبول الطاعات وردها، وطول المكث على الصراط.
وقال القاسم بن محمد: حزن: زوال الغم وتقلب القلب وخوف العاقبة، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا.
{إن ربنا لغفور شكور}، لغفور: فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة، وشكور: فيه إلى السابق وأنه كثير الحسنات.
والمقامة: هي أي الجنة، لأنها دار إقامة دائمًا لا يرحل عنها.
{من فضله}: من عطائه.
{لا يسمنا فيها نصب}: أي تعب بدن، {ولا يسمنا فيها لغوب}: أي تعب نفس، وهو لازم عن تعب البدن.
وقال قتادة: اللغوب: الوضع.
وقال الزمخشري: النصب: التعب والمشقة التي تصيب المنتصب المزاول له، وأما اللغوب: فما يلحقه من الفتور بسبب النصب.
فالنصب نفس المشقة والكلفة، واللغوب نتيجته، وما يحدث منه من الكلال والفترة. انتهى.
فإن قلت: إذا انتفى السبب انتفى مسببه، فما حكمه إذا نفي السبب وانتفى مسببه؟ وأنت تقول: ما شبعت ولا أكلت، ولا يحسن ما أكلت ولا شبعت، لأنه يلزم من انتفاء الأكل انتفاء الشبع، ولا ينعكس، فلو جاء على هذا الأسلوب لكان التركيب لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة؟ فالجواب: أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا، فإن أماكنها على قسمين: موضع يمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري، وموضع يمس فيه الأعياء كالبيوت والمنازل التي فيها الصغار، فقال: {لا يمسنا في نصب}، لأنها ليست مظان المتاعب لدار الدنيا؛ {ولا يمسنا فيها لغوب}: أي ولا نخرج منها إلى موضع نصب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء.
وقرأ الجمهور: لغوب، بضم اللام، وعلي بن أبي طالب والسلمي: بفتحها.
قال الفراء: هو ما يلغب به، كالفطور والسحور، وجاز أن يكون صفة للمصدر المحذوف، كأنه لغوب، كقولهم: موت مائت.
وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون مصدرًا كالقبول، وإن شئت جعلته صفة لمضمر، أي أمر لغوب، واللغوب أيضًا في غير هذا للأحمق.
قال أعرابي أن فلانًا لغوب جاءت كتابي فاحتقرها، أي أحمق، فقيل له: لم أنثته؟ فقال: أليس صحيفة؟. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
ثم ذكر سبحانه نوعًا من أنواع قدرته الباهرة، وخلقًا من مخلوقاته البديعة، فقال: {أَلَمْ تَرَ}، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من يصلح له {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} وهذه الرؤية هي: القلبية، أي ألم تعلم، وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماء، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع، وانتصاب {مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} على الوصف لثمرات، والمراد بالألوان الأجناس، والأصناف، أي: بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} الجدد جمع جدة، وهي: الطريق.
قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال، نحو سرير وسرر.
قال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ** طاوٍ ويرتع بعد الصيف أحيانًا

وقيل: الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر.
قال الجوهري: الجدة: الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريقة، والجمع جدد، وجدائد، ومن ذلك قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع

قال المبرد: جدد: طرائق وخطوط.
قال الواحدي: ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد.
وقال الفراء: هي: الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض، وسود، وحمر، واحدها جدة.
والمعنى: أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال، وهي: طرائقها، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض، ولون بعضها الحمرة، وهو معنى قوله: {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} قرأ الجمهور: {جدد} بضم الجيم، وفتح الدال.
وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة، وروي عنه: أنه قرأ بفتحهما، وردّها أبو حاتم وصححها غيره، وقال: الجدد الطريق الواضح البين {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب.
قال الجوهري: تقول هذا أسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلًا من غرابيب.
قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: وسود غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب، وقلّ ما يقال: غربيب أسود، وقوله: {مُّخْتَلِف أَلْوَانُهَا} صفة لجدد، وقوله: {وَغَرَابِيبُ} معطوف على جدد على معنى: ومن الجبال جدد بيض، وحمر، ومن الجبال غرابيب على لون واحد، وهو: السواد، أو على حمر على معنى، ومن الجبال جدد بيض، وحمر، وسود.
وقيل: معطوف على بيض، ولابد من تقدير مضاف محذوف قبل جدد، أي: ومن الجبال ذو جدد، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها.
{وَمِنَ الناس والدواب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} قوله: {مختلف} صفة لموصوف محذوف، أي: ومنهم صنف، أو نوع، أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة، والسواد، والبياض، والخضرة، والصفرة.
قال الفراء، أي: خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات، والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله، وبديع صنعه، ومعنى {كذلك} أي: مختلفًا مثل ذلك الاختلاف، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافًا كائنًا كذلك، أي: كاختلاف الجبال، والثمار.
وقرأ الزهري: {والدواب} بتخفيف الباء.
وقرأ ابن السميفع: {ألوانها}.
وقيل: إن قوله: {كذلك} متعلق بما بعده، أي: مثل ذلك المطر، والاعتبار في مخلوقات الله، واختلاف ألوانها يخشي الله من عباده العلماء، وهذا اختاره ابن عطية، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها.
والراجح الوجه الأوّل، والوقف على: {كذلك} تامّ.
ثم استؤنف الكلام، وأخبر سبحانه بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أو هو من تتمة قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [فاطر: 18] على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير، فهو: سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم: العلماء به، وتعظيم قدرته.
قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عزّ وجلّ.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار جهلًا، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له.
قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله، فليس بعالم.
وقال الشعبي: العالم من خاف الله، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية، ولو أخر انعكس الأمر.
وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف، ونصب العلماء، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: أنه يجلهم، ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وجملة: {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده.