فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {مختلِفٌ ألوانُها} {مختلف} صفةٌ ل {جُدَد} أيضًا. و{ألوانُها} فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ {مختلفٌ} خبرًا مقدمًا، و{ألوانُها} مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال: مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ. وقوله: {ألوانُها} يحتمل معنيين، أحدهما: أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ، وكذلك الحمرةُ، فلذلك جَمَع {ألوانها} فيكونُ من باب المُشَكَّل. الثاني: أن الجُدَدَ كلَّها على لونين: بياضٍ وحُمْرَةٍ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما.
وقوله: {وغَرابيبُ سُوْدٌ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على {حمرٌ} عَطْفَ ذي لون على ذي لون. الثاني: أنه معطوفٌ على {بِيضٌ}. الثالث: أنه معطوفٌ على {جُدَدٌ}. قال الزمخشري: معطوف على {بيض} أو على {جُدَد}، كأنه قيل: ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد، ومنها ما هو على لونٍ واحد ثم قال: ولابد من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} بمعنى: ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ، حتى يئول إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها، كما قال: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
ولم يذكُرْ بعد {غرابيب سود} {مختلفٌ ألوانُها} كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ، فصار لونًا واحدًا غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم.
وغرابيب: جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها، وأنشدوا:
والمُؤْمِن العائذاتِ الطير

يريد: والمؤمنِ الطيرَ العائذات، وقولَ الآخر:
وبالطويلِ العُمْرِ عُمْرًا حَيْدَرًا

يريد: وبالعمر الطويل. والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها. وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ. قال الزمخشري: الغِرْبيبُ: تأكيدٌ للأَسْوَدِ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك: أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ. ووجهه: أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه، فيكون الذي بعده تفسيرًا لِما أُضْمِر كقوله:
والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ... وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار يعني فيكونُ الأصلُ: وسودٌ غرابيبُ سودٌ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ. قال الشيخ: وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد. ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك. قلت: ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف. ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيدًا من حيث إنها لا تفيد معنًى زائدًا، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيدًا فقالوا: وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو: نعجةٌ واحدةٌ، وإلهين اثنين، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي، ومذهب سيبويه جوازُه، أجاز مررت بأخويك أنفسُهما أنفسَهما بالنصب أو الرفع، على تقدير: أَعْنيهما أنفسَهما، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد {غَرابيب} ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّرًا لذلك المحذوفِ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ، لا في المفرداتِ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيدًا لفظيًا؛ إذ الأصلُ: سود غرابيب سود.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}.
قوله: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}: مختلفٌ نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو مبتدأ، والجارُّ قبلَه خبرُه، أي: من الناس صِنْفٌ أو نوعٌ مختلفٌ؛ وكذلك عملُ اسمِ الفاعلِ كقولِ الشاعر:
كناطِحٍ صَخْرَةً يومًا لِيَفْلِقَها

وقرأ ابن السَّميفع {ألوانُها} وهو ظاهرٌ. وقرأ الزهري {والدوابُ} خفيفةَ الباءِ فِرارًا مِنْ التقاء الساكنين، كما حُرِّك أولُهما في {الضالِّين} و{جانّ}.
قوله: {كذلك} فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بما قبله أي: مختلفٌ اختلافًا مثلَ الاختلافِ في الثمرات والجُدَدِ. والوقفُ على {كذلك}. والثاني: أنه متعلِّقٌ بما بعده، والمعنى: مثلَ ذلك المطرِ والاعتبارِ في مخلوقات الله تعالى واختلافِ ألوانِها يَخْشَى اللَّهَ العلماءُ. وإلى هذا نحا ابن عطية وهو فاسدٌ من حيث إنَّ ما بعد {إنَّما} مانِعٌ من العمل فيما قبلها، وقد نَصَّ أبو عُمر الداني على أنَّ الوقفَ على {كذلك} تامٌّ، ولم يَحْكِ فيه خِلافًا.
قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله} العامَّةُ على نصب الجلالة ورفع {العلماءُ} وهي واضحةٌ. وقرأ عمرُ بن عبد العزيز وأبو حنيفةَ فيما نقل الزمخشريُّ وأبو حيوةَ- فيما نَقَلَ الهذليُّ في كامله- بالعكس، وتُئُوِّلت على معنى التعظيم، أي: إنما يُعَظِّمُ اللَّهُ مِنْ عبادِه العلماءَ. وهذه القراءة شبيهةٌ بقراءة {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} [البقرة: 124] برفع {إبراهيم} ونصب {رَبَّه} وقد تقدَّمَتْ.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}.
قوله: {إِنَّ الذين يَتْلُونَ}: في خبر إنَّ وجهان، أحدهما: الجملةُ مِنْ قولِه {يَرْجُون} أي: إنَّ التالِين يَرْجُون و{لن تبورَ} صفةُ {تجارةً} و{لِيُوَفِّيَهُمْ} متعلقٌ ب {يَرْجُون} أو ب {تَبُور} أو بمحذوفٍ أي: فعلوا ذلك ليوفِّيهم، وعلى الوجهين الأوَّلَيْن يجوزُ أَنْ تكونَ لام العاقبة. الثاني: أن الخبرَ {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} جَوَّزه الزمخشري على حَذْفِ العائدِ أي: غفورٌ لهم. وعلى هذا ف {يَرْجُون} حالٌ مِنْ {أنْفَقُوا} أي: أَنْفَقوا ذلك راجين.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}.
قوله: {مِنَ الكتاب}: يجوزُ أَنْ تكونَ مِنْ للبيان، وأن تكونَ للجنسِ، وأَنْ تكونَ للتبعيضِ، و هو فصلٌ أو مبتدأٌ و{مُصَدِّقًا} حالٌ مؤكدة.
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}.
قوله: {الكتاب الذين اصطفينا}: مفعولا {أَوْرَثْنا}. و{الكتابَ} هو الثاني قُدِّمَ لشَرفِه، إذ لا لَبْسَ.
قوله: {من عبادِنا} يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ على معنى: أنَّ المصطفَيْن هم عبادُنا، وأن تكونَ للتبعيضِ، أي: إن المصطفَيْن بعضُ عبادِنا لا كلُّهم. وقرأ أبو عمران الجوني ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ {سَبَّاق} مثالَ مبالغةٍ.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}.
قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدًا، والجملةُ بعدها الخبرُ، وأن يكونَ بدلًا مِن {الفضلُ} قاله الزمخشري وابنُ عطية. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ اعترض وأجاب فقال: فإن قلتَ: كيف جَعَلْتَ قوله: {جنات عدنٍ} بدلًا من {الفضل} الذي هو السَّبْقُ بالخيرات المشارُ إليه ب {ذلك}؟ قلت: لَمَّا كان السببَ في نيل الثواب نُزِّل منزلةَ المُسَبَّب، كأنه هو الثواب، فَأَبْدَل عنه {جناتُ عدن}.
وقرأ رزين والزهري {جَنَّةُ} مفردًا. والجحدري {جناتِ} بالنصب على الاشتغال، وهي تؤيِّدُ رَفْعَها بالابتداء. وجوَّز أبو البقاء أن يكونَ {جناتُ} بالرفع خبرًا ثانيًا لاسم الإِشارة، وأن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ. وتقدَّمت قراءةُ {يَدْخُلونها} مبنيًا للفاعل أو المفعول وباقي الآية في الحج.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
قوله: {الحزن}: العامَّةُ بفتحتَيْن. وجناح ابن حبيش بضم وسكون. وتقدَّم معنى ذلك أولَ القصص.
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}.
قوله: {دَارَ المقامة}: مفعولٌ ثانٍ ل {أَحَلَّنا} ولا يكونُ ظرفًا لأنه مختصٌّ فلو كان ظرفًا لتعدَّى إليه الفعلُ ب في. والمُقامةُ: الإِقامة. {من فضلِه} متعلقٌ ب {أحَلَّنا} و مِنْ: إمَّا للعلةِ، وإمَّا لابتداءِ الغاية.
قوله: {لا يَمَسُّنا} حالٌ مِنْ مفعولِ {أَحَلَّنا} الأول أو الثاني؛ لأن الجملةَ مشتملةٌ على ضميرِ كل منهما، وإن كان الحالُ من الأول أظهرَ. والنَّصَبُ: التعبُ والمشقةُ. واللُّغوبُ: الفتورُ الناشيء عنه، وعلى هذا فيقال: إذا انتفى السببُ نُفِي المُسَبَّب يقال: لم آكُلْ فيُعلمُ انتفاءُ الشِّبع، فلا حاجةَ إلى قولِه ثانيًا: فلم أشبَعْ بخلاف العكسِ، ألا ترى أنه يجوز: لم أشبع ولم آكل، والآية الكريمة على ما قررتُ مِن نفي السبب ثم نفي المسبب فأي فائدة في ذلك؟ وقد أجيب بأنه بيَّن مخالفةَ الجنة لدار الدنيا؛ فإنَّ أماكنَها على قسمين: موضعٍ تَمَسُّ فيه المشاق كالبراري، وموضعٍ يَمَسُّ فيه الإِعياءُ كالبيوتِ والمنازل التي فيها الأسفارُ. فَقيل: لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ لأنها ليست مَظانَّ المتاعبِ كدارِ الدنيا، ولا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ أي: ولا نَخْرُج منها إلى مواضعَ نَتْعَبُ ونَرْجِعُ إليها فيمسُّنا فيها الإِعياء. وهذا الجوابُ ليس بذلك، والذي يقال: إن النَّصَب هو تعبُ البدنِ واللُّغوبُ تعبُ النفسِ. وقيل: اللغوبُ الوَجَعُ وعلى هذين فلا يَرِدُ السؤالُ المتقدِّمُ.
وقرأ عليٌّ والسُّلميُّ بفتح لام {لَغُوْب} وفيه أوجه، أحدها: أنَّه مصدرٌ على فَعُوْل كالقَبول. والثاني: أنه اسمٌ لِما يُلْغَبُ به كالفَطور والسَّحور. قاله الفراء. الثالث: أنه صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ أي: لا يَمَسُّنا لُغوبٌ لَغوبٌ نحو: شعرٌ شاعرٌ ومَوْتٌ مائتٌ. وقيل: صفةٌ لشيءٍ غيرِ مصدرٍ أي: أمرٌ لَغوبٌ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}.
{أَوْرَثْنَا}: أي أعطينا الكتاب- أي القرآن- الذين اصطفينا من عبادنا، وذكر الإعطاءَ بلفظِ الإِرثِ توسُّعًا.
{اصْظَفَيْنَا}: أي اخترنا. ثم ذكر أقسامَهم، وفي الخبر أنه لمَّا نزلت هذه الآية قال عليه السلام: «أمتي وربِّ الكعبة» ثلاث مرات.
وفي الآية وجوهٌ من الإشارة: فمنها أنه لمَّا ذكر هذا بلفظ الميراثِ فالميراثُ يقتضى صحة النَّسَبِ على وجهٍ مخصوص، فَمَنْ لا سبَبَ له فلا نَسَبَ له، ولا ميراثَ له.
ومحلُّ النَّسبِ ها هنا المعرفة، ومحلُّ السبب الطاعة. وإن قيل محلُّ النَّسبِ فَضْلُه، ومحل السبب فِعْلُك؛ فهو وَجْهٌ. ويصحُّ أن يقال محلُّ النسبِ اختياره لك بدءًا ومحلُّ السببِ إحسانُه لك تاليًا.
ويقال أهلُ النسب على أقسام: الأقوى، والأدنى كذلك في الاستحقاق.
ويقال جميع وجوه التملُّك لابد فيها من غِعْل للعبد كالبيع، أَمَّا ما يُمْلَك ُ بالهِبَةَ فلا يحصل إلا بالقبول والقسمة، ولا يحصل الاستحقاق إلا بالحضور والمجاهدة وغير ذلك. والوصية لا تُسْتَحقُّ إلا بالقبول، وفي الزكاة لابد من قبول أهل السُّهْمَانِ، والميراث لا يكون فيه شيء من جهة الوارث وفعله، والنَّسبُ ليس من جملة أفعاله.
ويقال الميراث يُسْتَحقُّ بوجهين: بالفرض والتعصيب، والتعصيبُ أقوى من الفرض؛ لأنه قد يستحق به جميع المال، ثم الميراث يبدأ بذوي الفروض ثم ما يتبقى فللعَصَبَةِ.
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}: تكلموا في الظالم، فمنهم من قال هو الأَفضل، وأرادوا به من ظَلَمَ نَفْسَه لكثرة ما حَمَّلَها من الطاعة.
والأَكثرون: إنَّ السابقَ هو الأفضل، وقالوا: التقديم في الذكر لا يقتضي التقديم في الرتبة، ولهذا نظائر كثيرة.
ويقال قَرَنَ باسم الظالم قرينةً وهي قوله: {لنفس} وقرن باسم السابق قرينةً وهي قوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ فالظالمُ كانت له زَلَّة، والسابق كانت له صولة، فالظالم رَفَعَ زلَّتَه بقوله: لنفسه، والسابق كَسَرَ صولتَه بقوله: بإذن الله.
كأنه قال: يا ظالمُ ارفعْ رأسَك، ظَلَمْتَ ولكن على نفسك، ويا سابقُ اخفض رأسَك؛ سَبَقْتَ- ولكن بإذن الله.
ويقال إنَّ العزيزَ إذا رأى ظالمًا قَصَمَه، والكريمَ إذا رأى مظلومًا أَخَذَ بيده، كأنه قال: يا ظالم، إِنْ كان كونُكَ ظالمًا يوجِبُ قَهْرَك، فكوْنُكَ مظلومًا يوجِبُ الأخذَ بيدك.
ويقال الظالمُ مَنْ غَلَبَتْ زَلاَّتُه، والمقتصدُ مَنْ استوت حالاته، والسابقُ مَنْ زادت حسناته.
ويقال الظالمُ مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ مَنْ رغب في عقباه، والسابقُ مَنْ آثر على الدارين مولاه.
ويقال الظالمُ مَنْ نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصدُ مَنْ طَلَعَ بَدْرُ عِلْمه، والسابقُ من ذَرَّتَ شمسُ معرفته.
ويقال الظالمُ مَنْ طَلَبَه، والمقتصدُ مَنْ وَجَدَه، والسابق مَنْ بقي معه.
ويقال الظالِمُ مَنْ تَرَكَ المعصية، والمقتصد مَنْ تَرَكَ الغفلة، والسابق مَنْ تَرَك العلاقة.
ويقال الظالمُ مَنْ جاد بمالِه، والمقتصد مَنْ لم يبخلْ بِنفْسِه، والسابق مَنْ جاد بروحه.
ويقال الظالمُ مَنْ له علم اليقين، والمقتصد مَنْ له عين اليقين، والسابق مَنْ له حق اليقين.
ويقال الظلم صاحب المودة، والمقتصد الخلّة، والسابق صاحب المحبة.
ويقال الظالم يترك الحرام، والمقتصد يترك الشُّبهة، والسابق يترك الفضل في الجملة.
ويقال الظالمُ صاحبُ سخاء، والمقتصد صاحب جود، والسابق صاحب إيثار.
ويقال الظالم صاحب رجاء، والمقتصدُ صاحبُ بَسْط، والسابق صاحب أُنْس.
ويقال الظالم صاحب خوف، والمقتصد صاحب خشية، والسابق صاحب هيبة.
ويقال الظلم له المغفرة، والمقتصد له الرحمة والرضوان، والسابق له القربة والمحبة.
ويقال الظالم صاحب الدنيا، والمقتصد طالب العُقْبى، والسابق طالب المولى.
ويقال الظالم طالب النجاة، والمقتصد طالب الدرجات، والسابق صاحب المناجاة.
ويقال الظالم أَمِنَ من العقوبة، والمقتصد فاز بالمثوبة، والسابق متحقق بالقربة.
ويقال الظالم مضروبٌ بسَوْطِ الحِرْصِ، مقتولٌ بسيف الرغبة، مضطجع على باب الحسرة. والمقتصدُ مضروبٌ بسوط الندامة، مقتولٌ بسيف الأسف، مضطجع على باب الجود.
والسابقُ مضروبٌ بسوط التواجد، مقتول بسيف المحبة، مُضْطَجِعٌ على باب الاشتياق.
ويقال الظالم صاحب التوكل، والمقتصد صاحب التسليم، والسابق صاحب التفويض.
ويقال الظالم صاحب تواجد، والمقتصد صاحب وَجْد، والسابق صاحب وجود.
ويقال الظالم صاحبُ المحاضرة، والمقتصد صاحب المكاشفة، والسابق صاحب المشاهدة.
ويقال الظالم يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرةَ، والمقتصد يراه في كل يوم مرةً، والسابق غر محجوبٍ عنه ألبتةَ.
ويقال الظالم مجذوبٌ إلى فِعْلِه الذي هو فضله، والمقتصد مكاشَفٌ بوصفه الذي هو عِزُّه، والسابقُ المستهلَكُ في حقِّه الذي هو وُجُودُه.
قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} لأنه ذكر الظالم مع السابق.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)}.
نَبّهَ على أن دخولهم الجنة لا باستحقاقٍ بل بفضله، وليس في الفضل تمييز.
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}.
تحققوا بحقائق الرضا، والحَزَنُ سُمِّي حَزَنًا لُحزُونةِ الوقتِ على صاحبه وليس في الجنة حزونة وإنما هو رضًا واستبشار.
ويقال ذلك الحزن حزن خوف العاقبة. ويقال هو دوام المراعاة خشية أن يحصل سوءُ الأدب. ويقال هو سياسة النفس.
{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} للعصاة، {شَكُورٌ} للمطيعين. قَدَّمَ ما للعاصين رفقًا بهم لضعف أحوالهم.
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}.
{دَارَ الْمُقَامَةِ}: أي دار الإقامة، لا يبغون عنها حولا، ولا يتمنون منها خروجًا.
{لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}: إذا أرادوا أن يَرَوْا مولاهم لا يحتاجون إلى قَطْع مسافةٍ، بل غُرَفِهم يلقون فيها تحيةً وسلامًا، فإذا رأوه لم يحتاجوا إلى تقليب حدقةٍ أَو تحديق مقلة في جهة؛ يَرَتوْنه كما هُمْ بلا كيفية. اهـ.