فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب، وكان كأنه قيل: هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام، قال جوابًا لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمه وكثرتهم مما لا تسعه العقول: {إنه كان} أي أزلًا وأبدًا {حليمًا} أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص، ورغب في الإقلاع مشيرًا إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله: {غفورًا} أي محاء لذنوب من رجع إليه، وأقبل بالاعتراف عليه، فلا يعاقبه ولا يعاتبه.
ولما كان التقدير: فقالوا: إنا لا ندعي أنهم خلقوا شيئًا من السماوات ولا من الأرض ونحن مقرون بأنه لا يمسك السماوات والأرض إلا الله، وإنما نعبدهم لقربونا إلى الله زلفى، كما كان يفعل آباؤنا، ولولا أنه لهم على ذلك دليلًا ما فعلوه، عطف عليه قوله مبينًا ضلالهم في تكذيبهم الرسل بعد ما ظهر من ضلالهم في إشراكهم بالمرسل وهو يمهلهم ويرزقهم دليلًا على حلمه مع علمه: {وأقسموا} أي كفار مكة {بالله} أي الذي لا عظيم غيره {جهد أيمانهم} أي بغاية ما يقدرون عليه من الأيمان، قال البغوي: لما بلغهم- يعني كفار مكة- أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى! أتتهم رسلهم فكذبوهم، لو أتانا رسول لنكونن أهدى دينًا منهم.
ولما أخبر عن قسمهم، حكى معنى ما أقسموا عليه دون لفظه بقوله: {لئن جاءهم} وعبر بالسبب الأعظم للرسالة فقال: {نذير} أي من عند الله {ليكونن} أي الكفار {أهدى} أي أعظم في الهدى {من إحدى} أي واحدة من {الأمم} أي السالفة أو من الأمة التي لم تكن في الأمم التي جاءتها النذر أهدى منها، قال أبو حيان: كما قالوا هو أحد الأحدين، وهي إحدى الأحد، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل.
لأنهم أحد أذهانًا وأقوم لسانًا وأعظم عقولًا، وألزم لما يدعو إليه العقل، وأطلب لما يشهد بالفضل، وأكدوا بالقسم لأن الناظر لتكذيب أهل العلم بالكتاب يكذبهم في دعوى التصديق قياسًا أخرويًا، ودل على إسراعهم في الكذب بالفاء فقال: {فلما جاءهم نذير} أي على ما شرطوا وزيادة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم مع كونه خيرهم نفسًا وأشرفهم نسبًا وأكرمهم في كل خلق أمًا وأبًا، وأمتنهم في كل مأثرة سببًا {ما زادهم} أي مجيئه شيئًا مما هم عليه من الأحوال {إلا نفورًا} أي لأنه كان سببًا في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فأعرقت في الضلال فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس، ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق.
ولما كانوا قد جبلوا على الضلال، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو مباح، علله بقوله: {استكبارًا} أي طلبًا لإيجاد الكبر لأنفسهم {في الأرض} أي التي من شأنها السفول والتواضع والخمول {ومكر السيىء} أي ولأجل مكرهم المكر الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره، وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الله، وقراءة عبد الله {ومكرًا سيئًا} يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته، وقراءة حمزة بإسكان الهمزة بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم {ولا} أي والحال أنه لا {يحيق} أي يحيط إحاطة لازمة ضارة {المكر السيىء} أي الذي هو عريق في السوء {إلا بأهله} وإن آذى غير أهله، لكنه لا يحيط بذلك الغير، وعن الزهري أنه قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله يقول هذه الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا يقول الله {إنما بغيكم على أنفسكم} ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثًا قال الله: {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه}».
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها، قال مسببًا عن ذلك: {فهل ينظرون} أي ينتظرون، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم.
ولما جعل استقبالهم لذلك انتظارًا منهم له، وكان الاستفهام إنكاريا، فكان بمعنى النفي قال: {إلا سنت الأولين} أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق، تنبيهًا على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله، مؤكدًا لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم: {فلن تجد} أي أصلًا في وقت من الأوقات {لسنت الله} أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين {تبديلًا} أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلًا لها لأنه لا مكافئ له {ولن تجد لسنت الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {تحويلًا} أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه، لأنه لا كفوء له، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيرًا ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤًا من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}.
ويحتمل أن يقال لما بين شركهم قال مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كما قال تعالى: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} [مريم: 90، 91] ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} كان حليمًا ما ترك تعذيبهم إلا حلمًا منه وإلا كانوا يستحقون إسقاط السماء وانطباق الأرض عليهم وإنما أخر إزالة السموات إلى قيام الساعة حلمًا، وتحتمل الآية وجهًا ثالثًا: وهو أن يكون ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب على تقدير التسليم أيضًا كأنه تعالى قال شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئًا ولا في السماء جزءًا ولا قدروا على الشفاعة، فلا عبادة لهم.
وهب أنهم فعلوا شيئًا من الأشياء فهل يقدرون على إمساك السموات والأرض؟ ولا يمكنهم القول بأنهم يقدرون لأنهم ما كانوا يقولون به، كما قال تعالى عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ويؤيد هذا قوله: {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} فإذا تبين أن لا معبود إلا الله من حيث إن غيره لم يخلق من الأشياء وإن قال الكافر بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك له إنه كان حليمًا غفورًا، حليمًا حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم وغفورًا يغفر لمن تاب ويرحمه وإن استحق العقاب.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}.
لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلًا وقالوا: إنما نكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم لكونه كاذبًا، ولو تبين لنا كونه رسولًا لآمنا كما قال تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] وهذا مبالغة منهم في التكذيب، كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول والله لو علمت أن له شيئًا علي لقضيته وزدت له، إظهارًا لكونه مطالبًا بالباطل، فكذلك هاهنا عاندوا وقالوا والله لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم فلما جاءهم نذير أي محمد صلى الله عليه وسلم جاءهم أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفورًا، فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين بالله وبعدها صاروا كافرين بالله ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا، بعد الرسالة وقال بعض المفسرين: إن أهل مكة كانوا يلعنون اليهود والنصارى على أنهم كذبوا برسلهم لما جاءوهم وقالو لو جاءنا رسول لأطعناه واتبعناه، وهذا فيه إشكال من حيث إن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر مطلقًا، فكيف كانوا يعترفون بالرسل، فمن أين عرفوا أن اليهود كذبوا وما جاءهم كتاب ولولا كتاب الله وبيان رسوله من أين كان يعلم المشركون أنهم صدقوا شيئًا وكذبوا في شيء؟ بل المراد ما ذكرنا أنهم كانوا يقولون نحن لو جاءنا رسول لا ننكره وإنما ننكر كون محمد رسولًا من حيث إنه كاذب ولو صح كونه رسولًا لآمنا وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} أي فلما صح لهم مجيؤه بالمعجزة، وفي قوله: {أهدى} وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد أهدى مما نحن عليه وعلى هذا فقوله: {مِنْ إِحْدَى الأمم} للنبيين كما يقول القائل زيد من المسلمين ويدل على هذا قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} أي صاروا أضل مما كانوا وكانوا يقولون نكون أهدى.
وثانيهما: أن يكون المراد أن نكون أهدى من إحدى الأمم كما يقول القائل زيد أولى من عمرو، وفي الأمم وجهان:
أحدهما: أن يكون المراد العموم أي أهدى من أي إحدى الأمم وفيه تعريض.
وثانيهما: أن يكون المراد تعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى ومن كان في زمانهم.
ثم قال تعالى: {استكبارا فِي الأرض} ونصبه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون حالًا أي مستكبرين في الأرض وثانيها: أن يكون مفعولًا له أي للاستكبار وثالثها: أن يكون بدلًا عن النفور وقوله: {وَمَكْرَ السَّيِّىء} إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة وتحقيقه أن يقال معناه ومكروا مكرًا سيئًا ثم عرف لظهور مكرهم، ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور، ويحتمل أن يقال بأن المكر يستعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى: {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} [فاطر: 10] أي يعملون السيئات، ومكرهم السيء، وهو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، ثم قال: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي لا يحيط إلا بفاعله وفي قوله: {وَلاَ يَحِيقُ} وقوله: {إِلاَّ بِأَهْلِهِ} فوائد، أما في قوله: {يَحِيقُ} فهي أنها تنبىء عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق وفيه من التحذير ما ليس في قوله ولا يلحق أو ولا يصل، وأما في قوله: {بِأَهْلِهِ} ففيه ما ليس في قول القائل ولا يحيق المكر السيء إلا بالماكر، كي لا يأمن المسيء فإن من أساء ومكره سيء آخر قد يلحقه جزاء على سيئه، وأما إذا لم يكن سيئًا فلا يكون أهلًا فيأمن المكر السيء، وأما في النفي والإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله، فلا ينبىء عن عدم الحيق بغير أهله، فإن قال قائل: كثيرًا ما نرى أن الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك، فنقول الجواب عنه من وجوه أحدها: أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم، حيث قتلوا يوم بدر وغيره وثانيها: هو أن نقول المكر السيء عام وهو الأصح فإن النبي عليه السلام نهى عن المكر وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» وعلى هذا فذلك الرجل الممكور به لا يكون أهلًا فلا يرد نقضًا وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلًا في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك وذلك مثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا، ويبين هذا المعنى قوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ} يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها، فيهلكون كما هلك الأولون.
وقوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ} أي ليس لهم بعد هذا إلا انتظار الإهلاك وهو سنة الأولين وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله بالأولين، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمرًا عجبت من ضرب عمرو كيف ضرب مع ماله من العزم والقوة وعجبت من ضرب زيد كيف ضرب مع ماله من العلم والحكمة فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم وأضافها إلى نفسه بعدها بقوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} لأنها سنة من سنن الله، إذا علمت هذا فنقول أضافها في الأول إليهم حيث قال: {سنة الأَولين} لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله، لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظمها وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار، وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقها.
المسألة الثانية:
التبديل تحويل فما الحكمة في التكرار؟ نقول بقوله: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره، وبقوله: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.
المسألة الثالثة:
المخاطب بقوله: {فَلَن تَجِدَ} يحتمل وجهين وقد تقدم مرارًا أحدهما: أن يكون عامًا كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة الله تبديلًا والثاني: أن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فكأنه قال: سنة الله أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب الله إيمانه، فإذا آمن من في علم الله أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} [نوح: 27] أي تمهل الأمر وجاء وقت سنتك. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
هذا ابتداء تذكير بالله تعالى ودلالة على وحدانيته وصفاته التي لا تنبغي الألوهية إلا معها، و الغيب، ما غاب عن البشر و{ذات الصدور} ما فيها من المعتقدات والمعاني ومنه قول أبي بكر: ذو بطن بنت خارجة، ومنه قول العرب: الذيب مغبوط بذي بطنه، أي بالنفخ الذي فيه فمن يراه يظنه شابعًا قريب عهد بأكل، و{خلائف} جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن، وقوله: {فعليه كفره} فيه حذف مضاف تقديره فعليه وبال كفره وضرر كفره، و المقت احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفًا منك فلا يسمى ذلك مقتًا، و الخسار مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب، وقوله تعالى: {قل أرأيتم شركاءكم} الآية احتجاج على الكفار في بطلان أمر أصنامهم، وقفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه على أصنامهم وطلب منهم أن يعرضوا عليه الشيء الذي خلقته آلهتهم لتقوم حجتهم التي يزعمونها، ثم وقفهم مع اتضاح عجزهم عن خلق شيء على السماوات هل لهم فيها شرك وظاهر أيضًا، بعد هذا ثم وقفهم هل عندهم كتاب من الله تعالى ليبين لهم فيه ما قالوه، أي ليس ذلك كله عندهم، ثم أضرب بعد هذا الجحد المقدر فقال: بل إنما يعدون أنفسهم غرورًا، و{أرأيتم} يتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني، ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين، وأضاف الشركاء إليهم من حيث جعلوهم شركاء لله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولكم فالواجب أضافتها إليكم، و{تدعون} معناه تعبدون، والرؤية في قوله: {أروني} رؤية بصر، و الشرك الشركة مصدر أيضًا، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم {بينات} بالجمع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والأعمش وابن وثاب ونافع بخلاف عنه {بينة} بالإفراد والمراد به الجمع، ويحتمل أن يراد به الإفراد كما تقول: أنا من هذا الأمر على واضحة أو على جلية، و{الغرور} الذي كانوا يتعاطونه قولهم إن الأصنام تقرب من الله زلفى ونحوه مما يغبطهم، ولما ذكر تعالى ما يبين فساد أمر الأصنام وقف على الحجة على بطلانها عقب ذلك بذكر عظمته وقدرته ليبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله تعالى، فأخبر عن إمساكه السماوات والأرض بالقدرة، وقوله: {أن تزولا} معناه كراهة {أن تزولا}، ومعنى الزوال هنا التنقل من مكانها والسقوط من علوها، وقال بعض المفسرين معناه {أن تزولا} عن الدوران، ويظهر من قول عبد الله بن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب وذلك أن الطبري أسند أن جندبًا الجبلي رحل إلى كعب الأحباري ثم رجع فقال له عبد الله بن مسعود: حدثنا ما حدثك، فقال: حدثني أن السماء في قطب كقطب الرحا، والقطب عمود على منكب ملك، فقال له عبد الله بن مسعود: لوددت أنك افتديت رحلته بمثل راحلتك ورحلك، ثم قال: ما تمكنت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه، ثم قال: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} وكفى بها زوالًا أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت، وقوله: {ولئن زالتا} قيل أراد يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فكأنه قال ولئن جاء وقت زوالهما، وقيل بل ذلك على جهة التوهم والفرض، ولئن فرضنا زوالهما فكأنه قال ولو زالتا، وقال بعضهم {لئن} في هذا الموضع بمعنى لو.