فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنْ أَمْسَكَهُمَا} أي ما أمسكهما {مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ} أي من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في لئن وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وأمسك بمعنى يمسك كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلّ ءايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] ومن الأول مزيدة لتأكيد العموم والثانية للابتداء {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فلذا حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضى لتعجيل العقوبة وعدم إمساك السماوات والأرض وتخريب العالم الذي هم فيه فلا يتوهم أن المقام يقتضي ذكر القدرة لا الحلم والمغفرة.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم {لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الامم} الضمائر لقريش، وذلك أنهم بلغهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله تعالى اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فكان منهم بعد ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية {وَلَئِنِ جَاءهُمُ} جاء على المعنى وإلا فهم قالوا: {جَاءنَا} وكذا {لَّيَكُونُنَّ} وإحدى بمعنى واحدة، والظاهر أنها عامة وإن كانت نكرة في الإثبات لاقتضاء المقام العموم، وتعريف {الامم} للعهد والمراد الأمم الذين كذبوا رسلهم أي لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى من كل واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم فنؤمن جميعًا ولا يكذب أحد منا أو المعنى لنكونن أهدى من أمة يقال فيها إحدى الأمم تفضيلًا لها على غيرها من الأمم كما يقال هو واحد القوم وواحد عصره وكما قالوا هو أحد الأحدين وهي إحدى الأحد يريدون التفضيل في الدعاء والعقل، قال الشاعر:
حتى استشاروا بي إحدى الأحد ** ليثا هزبرا ذا سلاح معتد

وقد نص ابن مالك في التسهيل على أنه قد يقال لما يستعظم مما لا نظير له هو إحدى الأحد لكن قال الدماميني في شرحه: إنما ثبت استعماله في احدى ونحوه المضاف إلى جمع مأخوذ من لفظه كاحدى الأحد وأحد الأحدين أو المضاف إلى وصف كاحد العلماء وإحدى الكبر أما في المضاف إلى أسماء الأجناس كالأمم فيحتاج إلى نقل، وبحث فيه بأنه قد ثبت استعمال إحدى في الاستعظام من دون إضافة أصلا فإنهم يقولون للداهية العظيمة هي إحدى من سبع أي احدى ليالي عاد في الشدة وشاع واحد قومه وأوحدهم وأوحد أمه ولم يظهر فارق بين المضاف إلى الجمع المأخوذ من اللفظ والمضاف إلى الوصف وبين المضاف إلى أسماء الأجناس ولا أظن أن مثل ذلك يحتاج إلى نقل فليتدبر.
وقال صاحب الكشف: إن دلالة {إِحْدَى الامم} على التفضيل ليست بواضحة بخلاف واحد القوم ونحوه ثم وجهها أنه على أسلوب:
أو يرتبط بعض النفوس حمامها

يعني أن البعض المبهم قد يقصد به التعظيم كالتنكير فاحدى مثله، وفيه أنه متى ثبت استعماله للاستعظام كانت دلالته على التفضيل في غاية الوضوح.
{فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} وأي نذير وهو أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس.
وقتادة وهو الظاهر، وعن مقاتل هو انشقاق القمر وهو أخفي من السها والمقام عنه يأبى {مَّا زَادَهُمْ} أي النذير أو مجيئه {إِلاَّ نُفُورًا} تباعدا عن الحق وهربًا منه، وإسناد الزيادة إلى ذلك مجاز لأنه هو السبب لها.
والجملة جواب لما.
واستدل بالآية على حرفيتها لمكان النفي المانع عن عمل ما بعده فيها، وفيه بحث، وقوله تعالى: {استكبارا في الأرض} بدل من {نُفُورًا} وقال أبو حيان: الظاهر أنه مفعول من أجله، ونقل الأول عن الأخفش، وقيل: هو حال أي مستكبرين {وَمَكْرَ} هو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى الله عليه وسلم والكيد له، وقال قتادة هو الشرك وروي ذلك عن ابن جريرج، وهو عطف على {واستكبروا استكبارا} وأصل التركيب وأن مكروا الشيء على أن {السيء} صفة لموصوف مقدر أي المكر المسيء ثم أقيم المصدر مقام أن والفعل وأضيف إلى ما كان صفة، وجوز أن يكون عطفًا على {إِلاَّ نُفُورًا} وقرأ الأعمش وحمزة {السيء} باسكان الهمزة في الوصل إجراء له مجرى الوقف أو لتو إلى الحركات وإجراء المنفصل مجرى المتصل، وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن لما فيها من حذف الاعراب كما قال أبو جعفر.
وزعم محمد بن زيد أن الحذف لا يجوز في نثر ولا شعر لأن حركات الاعراب دخلت للفرق بين المعاني، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش قرأ بها، وقال: إنما كان يقف على هذه الكلمة فغلط من أدى عنه، والدليل على هذا أنها تمام الكلام ولذا لم يقرأ في نظيرها كذلك مع أن الحركة فيه أثقل لأنها ضمة بين كسرتين، والحق أنها ليست بلحن، وقد أكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والوصل بنية الوقف، وقال ابن القشيري: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلابد من جوازه ولا يجوز أن يقال لحن، ولعمري أن الإسكان هاهنا أحسن من الإسكان في {إلى بَارِئِكُمْ} كما في قراءة أبي عمرو، وروي عن ابن كثير {وَمَكْرَ} بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة وهو مقلوب السيء المخفف من السيء كما قال الشاعر:
ولا يجزون من حسن بسيء ** ولا يجزون من غلظ بلين

وقرأ ابن مسعود {مَكْرًا سَيّئًا} عطف نكرة على نكرة {وَلاَ يَحِيقُ المكر} أي لا يحيط {السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ}.
وقال الراغب: أي لا يصيب ولا ينزل، وأيًا ما كان فهو إنما ورد فيما يكره، وزعم بعضهم أن أصل حلق حق فجيء بدل أحد المثلين بالألف نحو ذم وذام وزل وزال، وهذا من ارسال المثل ومن أمثال العرب من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، وعن كعب أنه قال لابن عباس: قرأت في التوراة من حفر مغواة وقع فيها قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله تعالى فقرأ الآية، وفي الخبر: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله تعالى يقول {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا فإن الله سبحانه يقول {إنما بغيكم على أنفسكم} [يونس: 23] وقد حاق مكر هؤلاء بهم يوم بدر».
والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها والله تعالى يمهل ولا يهمل ووراء الدنيا الآخرة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلًا في الظاهرففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك، أسأل الله تعالى بحرمة حبيبه الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يدفع ويرفع عنا مكر الماكرين وأن يعاملهم في الدارين بعدله إنه سبحانه القوى المتين.
وقرىء {وَلاَ يَحِيقُ} بضم الياء {المكر} بالنصب على أن يحيق من أحاق المتعدى وفاعله ضمير راجع إليه تعالى و{يَحِيقُ المكر} مفعوله {فَهَلْ يَنظُرُونَ} أي ما ينتظرون، وهو مجاز بجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع {إِلا سُنَّتُ الاولين} أي إلا سنة الله تعالى فيهم بتعذيب مكذبيهم.
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا} بأن يضع سبحانه موضع العذاب {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما، والخطاب عام أو خاص به عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}.
انتقال من نفي أن يكون لشركائهم خلق أو شركة تصرف في الكائنات التي في السماء والأرض إلى إثبات أنه تعالى هو القيّوم على السماوات والأرض لتبقَيَا موجودتَيْن فهو الحافظ بقدرته نظام بقائهما.
وهذا الإِمساك هو الذي يعبر عنه في علم الهيئة بنظام الجاذبية بحيث لا يعْتريه خلل.
وعبر عن ذلك الحفظ بالإِمساك على طريقة التمثيل.
وحقيقة الإِمساك: القبض باليد على الشيء بحيث لا ينفلت ولا يتفرق، فمُثل حال حفظ نظام السماوات والأرض بحال استقرار الشيء الذي يُمسكه الممسك بيده، ولمّا كان في الإِمساك معنى المنع عُدّي إلى الزوال ب {مِن}، وحذفت كما هو شأن حروف الجر مع {أنْ} و{أنَّ} في الغالب، وأكد هذا الخبر بحرف التوكيد لتحقيق معناه وأنه لا تسامح فيه ولا مبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {ويمسك السماء} في سورة الحج (65).
ثم أشير إلى أن شأن الممكنات المصير إلى الزوال والتحول ولو بعد أدهار فعطف عليه قوله: {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده}، فالزوال المفروض أيضًا مراد به اختلال نظامهما الذي يؤدي إلى تطاحنهما.
والزوال يطلق على العدم، ويطلق على التحول من مكان إلى مكان، ومنه زوال الشمس عن كبد السماء، وتقدم آخِرَ سورة إبراهيم.
وقد اختير هذا الفعل دون غيره لأن المقصود معناه المشترك فإن الله يُمسكهما من أن يُعْدما، ويمسكهما من أن يتحول نظام حركتهما، كما قال تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار} [يس: 40].
فالله مريد استمرار انتظام حركة الكواكب والأرض على هذا النظام المشاهد المسمى بالنظام الشمسي وكذلك نظام الكواكب الأخرى الخارجة عنه إلى فلك الثوابت، أي إذا أراد الله انقراض تلك العوالم أو بعضِها قيّض فيها طوارىء الخلل والفساد والخَرْق بعد الالتئام والفتق بعد الرتق، فتفككت وانتشرت إلى ما لا يَعلم مصيره إلا الله تعالى وحينئذٍ لا يستطيع غيره مدافعة ذلك ولا إرجاعها إلى نظامها السابق فربما اضمحلت أو اضمحل بعضها، وربما أخذت مسالك جديدة من البقاء.
وفي هذا إيقاظ للبصائر لتَعلم ذلك علمًا إجماليًا وتتدبر في انتساق هذا النظام البديع.
فاللام موطئة للقسم.
والشرط وجوابه مقسم عليه، أي محقق تعليق الجواب بالشرط ووقوعه عنده، وجواب الشرط هو الجملة المنفية ب {إن} النافية وهي أيضًا سادّة مسدّ جواب القسم.
وإذ قد تحقق بالجملة السابقة أن الله ممسكهما عن الزوال علم أن زوالهما المفروض لا يكون إلا بإرادة الله تعالى زوالهما وإلا لبطل أنه ممسكهما من الزوال.
وأسند فعل {زالتا} إلى {السماوات والأرض} على تأويل السماوات بسماء واحدة.
وأسند الزوال إليهما للعلم بأن الله هو الذي يزيلهما لقوله: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا}.
وجيء في نفي إمساك أحد بحرف {مِن} المؤكدة للنفي تنصيصًا على عموم النكرة في سياق النفي، أي لا يستطيع أحد كائنًا من كان إمساكهما وإرجاعهما.
ومن بعد صفة {أحد} و{من} ابتدائية، أي أحد ناشىء أو كائن من زمان بعده، لأن حقيقة بعدٍ تأخر زمان أحد عن زمن غيره المضاففِ إليه بعد وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية، كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد اللَّه} [الجاثية: 23]، أي غير الله فالضمير المضاف إليه بعد عائد إلى الله تعالى.
وهذا نظير استعمال وراءٍ بمعنى دون أو بمعنى غير أيضًا في قول النابغة:
وليس وراءَ الله للمرءِ مذهب

وفي ذكر إمساك السماوات عن الزوال بعد الإِطناب في محاجة المشركين وتفظيع غرورهم تعريض بأن ما يدْعون إليه من الفظاعة من شأنه أن يزلزل الأرضين ويسقط السماء كسفًا لولا أن الله أراد بقاءهما لحكمة، كما في قوله تعالى: {لقد جئتم شيئًا إدًا يكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا} [مريم: 89، 90].
وهذه دلالة من مستتبعات التراكيب باعتبار مثار مقامات التكلم بها، وهو أيضًا تعريض بالتهديد.
ولذلك أتبع بالتذييل بوصف الله تعالى بالحلم والمغفرة لما يشمله صفة الحليم من حلمه على المؤمنين أن لا يزعجهم بفجائع عظيمة، وعلى المشركين بتأخير مؤاخذتهم فإن التأخير من أثر الحلم، وما تقتضيه صفة الغفور من أن في الإِمهال إعذارًا للظالمين لعلهم يرجعون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لعل الله أن يُخرج من أصلابهم مَن يعبده» لما رأى مَلَك الجبال فقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأَخشَبين.
وفعل {كان} المخبر به عن ضمير الجلالة مفيد لتقرر الاتصاف بالصفتين الحسنيين.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}.
هذا شيء حكاه القرآن عن المشركين فهو حكاية قول صدر عنهم لا محالة، ولم يروَ خبر عن السلَف يعين صدور مقالتهم هذه، ولا قائلها سوى كلام أثر عن الضحاك هو أشبه بتفسير الضمير من {أقسموا}، وتفسير المراد {من إحدى الأمم} ولم يقل إنه سبب نزول.
وقال كثير من المُفسرين: إن هذه المقالة صدرت عنهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بلغهم أن اليهود والنصارى كذَّبوا الرسل.
والذي يلوح لي: أن هذه المقالة صدرت عنهم في مجاري المحاورة أو المفاخرة بينهم وبين بعض أهل الكتاب ممن يقدم عليهم بمكة، أو يقدمون هم عليهم في أسفارهم إلى يثرب أو إلى بلاد الشام، فربما كان أهل تلك البلدان يدعون المشركين إلى اتباع اليهودية أو النصرانية ويصغرون الشرك في نفوسهم، فكان المشركون لا يجرأون على تكذيبهم لأنهم كانوا مرموقين عندهم بعين الوقار إذ كانوا يفضُلُونهم بمعرفة الديانة وبأنهم ليسوا أميين وهم يأبون أن يتركوا دين الشرك فكانوا يعتذرون بأن رسول القوم الذين يدعونهم إلى دينهم لم يكن مرسلًا إلى العرب ولو جاءنا رسول لكنا أهدى منكم، كما قال تعالى: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157].
والأظهر أن يكون الداعون لهم هم النصارى لأن الدعاء إلى النصرانية من شعار أصحاب عيسى عليه السلام فإنهم يقولون: إن عيسى أوصاهم أن يرشدوا بني الإِنسان إلى الحق وكانت الدعوة إلى النصرانية فأشبه في بلاد العرب أيام الجاهلية وتنصرت قبائل كثيرة مثل تغلب، ولخم، وكلب، ونجران، فكانت هذه الدعوة إن صح إِيصَاء عيسى عليه السلام بها دعوةَ إرشاد إلى التوحيد لا دعوة تشريع، فإذا ثبتت هذه الوصية فما أراها إلا توطئة لدين يجيء تعمّ دعوته سائر البشر، فكانت وصيته وسطًا بين أحوال الرسل الماضين إذ كانت دعوتهم خاصة وبين حالة الرسالة المحمدية العامة لكافة الناس عزمًا.
أما اليهود فلم يكونوا يدعون الناس إلى اليهودية ولكنهم يقبلون من يتهود كما تهود عرب اليمن.:
وأحسب أن الدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام، أو تشهير أنها لا تستحق العبادة، لا يخلو عنها علماءُ موحِّدون، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون بعض النصاح من أحبار يهود يثرب يعرض لقريش إذا مروا على يثرب بأنهم على ضلال من الشرك فيعتذرون بما في هذه الآية.
وهي تساوق قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 155 157].