فصل: مطلب فيما يكتب من آثار الخلق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا يخفى أن الآية هنا عامة وأن شمولها لهذه الحادثة على فرض صحتها لا يخصصها فيها بل يدخل فيها أبو جهل وغيره من كل من لم يؤمن به قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} أي قدامهم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} من ورائهم {فَأَغْشَيْناهُمْ} بالسدين المذكورين وغطيناهم بهما غطاء محكما، وقرئ {فأعشيناهم} بالعين من العشاء وهو ضعف البصر، والأول أبلغ وقرئ {سدا} بضم السين وفتحها، وقيل ما كان من فعل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق اللّه فهو بالضم، وقيل بالعكس {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 9 سبل الهدى لانهم يتعامون عن النظر في آيات اللّه فلا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان.
واعلم أن المانع من النظر بآيات اللّه قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه بالغلّ الذي يجعل صاحبه مقحما لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه كما مر آنفا، والمراد من جمع الأيدي إلى الأذقان المشار إليه أعلاه عبارة عن منع التوفيق إلى الهدى، ولهذا استكبروا عن الحق، لأن المتكبر يوصف برفع العنق، والمتواضع بضده قال تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ} الآية 5 من سورة الشعراء الآتية، وقسم يمنع النظر في الآفاق فشبّه بالسد المحيط بالشيء فإن الشيء انحاط به لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات، فمن ابتلي بهذين القسمين حرم من النظر بالكلية، وان اللّه تعالى شبه تصميم هؤلاء الكفرة على الكفر بالأغلال، وشبه استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه بالأقماح لأن القمح لا يقدر أن يطأطىء رأسه، وقوله تعالى {إلى الأذقان} تتمة للزوم الإقماح لهم، وشبه عدم نظرهم في أحوال الأمم السابقة بسد منيع من خلفهم، وشبه عدم نظرهم بالعواقب المستقبلة بسد عظيم من أمامهم ولذلك نفى اللّه عنهم الإبصار لأن من كان هذا حاله بعيد عن إبصار الحق لعماء بصيرته عن التفكر فيه، وان هذا وصف لما سينزله عليهم من العذاب الأخروي حين يلقون في النار، أجارنا اللّه منها.
قال تعالى: {وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ} أولئك الكفرة الموصوفين آنفا {أَأَنْذَرْتَهُمْ} يا محمد وخوفتهم عاقبة أمرهم إن لم يؤمنوا بك {أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} بما أمرت به فهم {لا يُؤْمِنُونَ} 10 بك ولا ينتفعون بوعظك وزجرك، إذ يستوي عندهم الحالان فوجود إنذارك وعدمه سواء لديهم، فلا تزعج نفسك بالإلحاح عليهم، لأنهم ضالّون أزلا، ومن يضلل اللّه فلا هادي له وإنك يا سيد الرسل {إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} المنزل عليك وهو القرآن العظيم ليعمل بما فيه وينتفع باتباعه رغبة بك وبدينك وربك، وعبر بلفظ الماضي لتحقق وقوع اتباعهم له، لأنهم من الناجين في علم اللّه الأزلي، ومن يهد اللّه فهو المهتد لا يقدر أحد على إضلاله، وهذا بمقابلته {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ} لأن أولئك من غضب اللّه عليهم، وهؤلاء من رحمته بهم ورضاه عنهم {وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} خافه سرا وجهرا إذ لم يره وداوم على عبادته ولم يغتر برحمته لأنه مع عظيم رأفته أليم عذابه، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ} الآية 51 من سورة الحجر في ج 2 فهذا الذي يهابني ولم يرني {فَبَشِّرْهُ} يا محمد {بِمَغْفِرَةٍ} واسعة لذنوبه مهما عظمت {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} 11 زيادة على المغفرة والأجر وأوله الجنة ونعيمها، وآخره رؤية المولى وهو الجواد على عباده بها، كيف لا وهو الكريم الذي يعطي لا لغرض أو عوض؟ وقل يا أكرم الرسل لمنكري الحياة الأخرى {إِنَّا} نحن إله السموات والأرض اللتين خلقهما أكبر من خلق الناس قادرون على أن {نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى} مرة ثانية للحشر والحساب كما أحييناهم من النطفة، وكما نحيي الأرض الميتة بالماء والقلوب الغافلة بالذكر، لأن القلوب الميتة بأدران الشرك لا تحيا إلا بطهارة الإيمان.

.مطلب فيما يكتب من آثار الخلق:

{وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا} في دنياهم من خير وشر {وَ} نحصي {آثارَهُمْ} التي أبقوها بعدهم لنخلّدها لهم ليبقى ذكرهم إن كان حسنا كوصية لا جور فيها، ووقف لوجوه البرّ، وعلم ينتفع به، وتعليم الخير للغير، وكتاب صنفوه في أمر الدين، وبناء رباط، أو جامع، أو مستشفى، أو مدرسة، فيكون ذكرهم حسنا.
وإن كان سيئا كمال تركوه حراما، وحكم حكموه جورا، ومظالم ارتكبوها يكون ذكرهم سيئا.
روى مسلم عن جرير بن عبد اللّه البجلي قال:
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وعلى هذا يستحق على الأولى المدح والثناء والترحم، وعلى الثانية الذم والتحقير والشتم، وما قيل إن هذه الآية نزلت في بني سلمة استدلالا بما رواه البخاري عن أنس رضي اللّه عنه قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تعرى تخلى المدينة فتترك عراء فضاء لا يسترها شيء فقال يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم؟ فأقاموا.
ولما روى مسلم عن جابر قال خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم بلغني انكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ فقالوا نعم يا رسول اللّه قد أردنا ذلك، فقال بني سلمة أي يا بني سلمة الزموا دياركم تكتب آثاركم: فقالوا ما يسرّنا إذا تحولنا أي لعدم رضاء حضرة الرسول ورويا عن أبى موسى الأشعري قال قال صلى اللّه عليه وسلم: أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام.
لا يصح لأن هذه الآية مكيّة بالاتفاق اما ما نقله بعض المفسرين من أنها مدنية فغير صحيح، لأنه لم يذكر المنقول عنه، وإنما قال بمدنيتها ليجعلها سبب النزول، وعلى الناقل صحة النقل حتى يكون حجة وإذا لم يكن حجة فلا احتجاج، وان ما جاء في هذه الأحاديث عبارة عن حكاية حال وقعت في المدينة، والآية عامة ولا يوجد ما يخصصّها فيدخل في معناها بنو سلمة وغيرهم من كل من يترك آثارا حسنة أو سيئة كما ذكرنا {وكلّ شيء} من أعمال الخلق خيرها وشرها هزلها وصحيحها {أَحْصَيْناهُ} عليهم وعددناه وبيناه للملائكة بعد أن حققناه وأثبتناه لدينا {فِي إِمامٍ} لوح من اللوح المحفوظ الذي هو أصل الكتب كلها فلا شيء مما كان ويكون الا وهو مدون فيه فهو المقتدى وفيه المنتهى والمبتدأ {مُبِينٍ} 12 واضح ظاهر فيه كل شيء إلى يوم القيمة وكيفية هذا اللوح العظيم الذي لم يأت ذكره إلا في سورة البروج المارة أما الألواح المذكورة في سورة الأعراف ثلاث مرات في الآيات 143 و149 و153 المارات فهي ألواح التوراة وهي أيضا من جملة ما هو مدوّن في هذا اللوح الجليل لم يرد فيها ما يفيد القطع عن ماهيته وكميته وكيفيّته غير وصفه بهذا الاسم، لذلك ينبغي الإمساك عنه وان نكل علمه إلى اللّه كالآيات المتشابهات، وغاية ما قيل فيه عند المسلمين انه جسم، ولا يخفى أن كل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة، وان ما كان وسيكون إلى يوم القيامة متناه كما تشهد به الآثار، والمطلق منها محمول على المقيد هذا وقد فسر بعض العلماء الامام بعلم اللّه الأزلي كما فسر أمّ الكتاب في قال تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} الآية 39 من سورة الرعد قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ} الآية 7 من سورة آل عمران ج 3 والآية الرابعة من سورة الزخرف في ج 2 فيكون بمعنى كل شيء على العموم بحيث يشمل ما في الدنيا وما في الآخرة وأحوال الجنة وما يتجدد فيها لأهلها دون انقطاع ولا تناه وكذلك النار قال صاحب أبدال الامالي:
ولا يفنى الجحيم ولا الجنان ** ولا أهلوهما أهل انتقال

وكذلك أحوال النار وأهلها وجميع ما يقع في الدنيا من التجدد على نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع على طراز أعلى وأشرف، ولهذا قال غير واحد إن القرآن الكريم يشتمل على كل شيء في الدنيا حتى على أسماء الملوك ومدد ملكهم وأسباب انقراضهم، ويشتمل على ما في الآخرة أيضا.

.مطلب قصة رسل عيسى عليه السلام:

قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا} أي صف لهم يا محمد {أَصْحابَ الْقَرْيَةِ} جزم أكثر المفسرين بأنها انطاكية أي كيف كان أهلها {إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} 13 من قبل عيسى عليه السلام ليدعوهم إلى ترك الأوثان وعبادة الرحمن والإخلاص في توحيد الملك الديان، فاذكر لقومك يا سيد الرسل قصتهم {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ} ردأ لعيسى وعضدا لانهاض دعوته وتقوية لبعثها في النفوس رجلين {اثْنَيْنِ} من حوارييّه.
هذا إذا كان المرسل هو اللّه عز وجل، أو أن عيسى عليه السلام أرسلهما بأمر اللّه تعالى كأنه كان هو المرسل، لانّ أمر المأمور بما أمره به آمره أمر لآمره، وهو اولى من القول بأن عيسى نفسه أرسلهما من تلقاء نفسه، لأن الرسول لا يعمل شيئا إلا بوحي من مرسله.
وهذان الرسولان على ما قيل هما حنا وبولس عليهما السلام، فلما قربا من القرية رأيا حبيبا النجار يرعى أغنامه، فسلما عليه فقال: من أنتما؟ قالا رسولا عيسى بن مريم صلوات اللّه عليه وسلامه، فقال: ما جاء بكما إلى هنا من القدس؟ قالا: أتينا لندعوكم لعبادة اللّه وحده، ونحذركم من عبادة الأوثان، فقال: ما آيتكما على ذلك؟ قالا: آيتنا إبراء الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن اللّه، وان الذي أرسلنا يفعل هذا ويحيي الموتى بإذن اللّه.
فأخذهما إلى منزله وعرض عليهما بنته المريضة المزمنة، فلمساها بيدهما فقامت بإذن اللّه صحيحة سليمة، ثم أتى لهما بمرضى آخرين فلمساهم فشفاهم اللّه على يديهما، فحلت به العناية وأسلم، وشاع خبرهما في المدينة بأنهما يشفيان المرضى دون عقاقير، فاستدعاهما ملك المدينة إذ ذاك واسمه انطيخش وقال لهما أولنا دون آلهتنا آلهة؟ قالا نعم.
قال من هو؟ قالا الذي أوجدك وآلهتك.
فأخذهما وحبسهما وضربهما.
وهذا مغزى قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} قويناهما بإرسال رسول ثالث وهو على ما قيل شمعون عليه السلام، وذلك أن عيسى عليه السلام لما استبطأهما ولم يأت خبر منهما ولا عنهما أرسل بأمر اللّه رسولا آخر ليسير خبرهما ويبصر ما جرى لهما، فتوجه إلى انطاكية ودخلها متنكرا، وبعد أن استقر صار يختلط مع عامة أهلها ليقف على حالهم ويتعرف على رفيقيه، ولم يزل حتى عرفهما بالسجن من أجل دعوتهما وجود إله هو إله الملك والخلق أجمع، فاتصل بحاشية الملك وصار يعاشر كلا منهم بما يليق به ويكلم كلا بحسب مقامه بما آتاه اللّه من حنكة وحكمة ولين جانب وخلق واسع، حتى استمال الجميع من الخادم إلى الوزير ثم صار يعرض لهم أنه يود مقابلة الملك وأنه يحبه، وقد أنسوا به ولم يريدوا فراقه، فرفعوا أمره للملك وأخبروه بما هو عليه من لياقة ولباقة، فاشتاق إليه واستحضره، فلما كلّمه أنس به وأكرمه ورضي عشرته وأثنى على حاشيته الذين قدموه له نظرا لما كان يعاملهم به من التقية توصلا لإنقاذ صاحبيه، وصار يجالس الملك ويقص عليه ما يؤنسه، حتى جاء على ذكر الرسولين في جملة حديثه معه وسأله عنهما وسبب حبسهما، فقال له الملك إنهما تجارأا وذكرا أن لهما إلها غير آلهتنا حتى انهما دعوني لعبادته، فأنفت منهما وأمرت بحبسهما.
قال له حينما دعواك إلى غير دينك هل سألتهما وسمعت منهما عن آلهتهما شيئا؟
قال لا إذ حال الغضب بيني وبين ذلك حتى اني أمرت بضربهما.
قال إن رأى حضرة الملك إحضارهما ليطلع على ما عندهما من هذه الدعوة العظيمة، فدعاهما بالحال وفوضه بخطابهما، فقال لهما من أرسلكما إلى هنا؟ قالا اللّه الذي خلق كل شيء لا شريك له.
قال لهما صفاه لنا وأوجزا، قالا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال شيء عظيم هذا، ما آيتكما عليه؟ قالا ما يتمناه الملك، فتذاكر مع الملك صرا وقال لهما عندنا غلام مطموس العينين فهل تقدران أن تجعلاه بصيرا؟ قالا نعم، فأمر الملك بإحضاره فدعوا له، فانشق له موضع العينين فعملا بندقتين من طين ووضعاهما في موضع العينين، ودعوا اللّه فصارتا مقلتين يبصر بهما ذلك المطموس، فتعجبا من ذلك، ثم همس شمعون في أذن الملك، وقال لو سألت آلهتك تصنع مثل هذا لكان لك بها الشرف، فقال الملك ليس عليك سر مكتوم إن آلهتنا نفسها لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، فكيف لمثل هذا تصنع؟ فلم يرد أن يطعن بآلهته ليستدرجه على الإيمان ولئلا يتهمه مبدئيا بأنه ليس على دينه، وأراد أن يظهر شيئا يقسره على الإيمان عفوا، فقال له لنمتحنهما بأكثر من هذا، قال الملك هيا، فقال لهما شمعون إن أحيا إلهكما ميتا آمنا به وتركنا كما، قالا هات، فقال له الملك إن ابن الدهقان مات منذ سبعة أيام، فقال شمعون مر بإحضاره، فأمر فأحضروه له، فصارا يدعوان علانية ويطلبان من اللّه إحياءه، وصار شمعون يدعو ربه سرا ويؤمن على دعائهما، فأحياه اللّه، فقال لهما شمعون كلّماه، فإذا كان حيا حقا فليذكر لنا شيئا عن موته، فسألاه فقال: أيها الملك إني مت منذ سبعة أيام على الشرك الذي تدين به أنت، وأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم عليه، وآمنوا أيها الناس كلكم يا للّه رب هؤلاء، فإني رأيت السماء فتحت ونظرت فيها شابا حسن الوجه يشفع إلى هؤلاء الثلاثة، وأشار إلى شمعون وصاحبيه.
فعجب الملك من ذلك وآمن بهم وآمن معه خلق كثيرون من قومه، وأصر الآخرون على كفرهم.
هذا ما نقله الأخباريون بقصص الأنبياء عن هؤلاء الرسل الثلاثة أخذا من قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُما} أما ما قصه اللّه تعالى على نبيه فيهم فهو ما بينه بقوله جل قوله: {فَقالُوا} الثلاثة إلى أهل أنطاكية {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} 14 من قبل اللّه أو من قبل رسوله على الوجهين المارّين، فأجابوهم بقولهم {قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا} لا مزية لكم علينا توجب اتباعنا لكم واختصاصكم بما تدعونه {وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ} الذي تدعونه إلها لكم ولسائر الخلق {مِنْ شيء} من الوحي ولم يرسل رسولا كما تزعمون، وكان هذا بمقابلة قولهم لهم أتينا ندعوكم لعبادة الرحمن، ثم قالوا {إِنْ} ما {أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} 15 بدعواكم هذه {قالُوا} لهم أيضا {رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} 16 استشهدوا بربهم إذ لا شاهد لهم من أهل القرية على ذلك، لأنهم لم يتعرفوا على أحد من أهلها أول مجيئهم وأكدوا قولهم بأن الدالة على التوكيد واللام المؤكدة لها، لأنه جواب عن إنكار يحتاج لزيادة التأكيد بخلاف قولهم الأول في الآية 14 المارة لأنه إخبار ابتداء، ثم قالوا لهم إنا لم نأت لقسركم على ما نريده بكم من الخير لأنا لم نؤمر بذلك {وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 17 الظاهر المكشوف الذي لا غبار عليه الموثق والموضح بالآيات الدالة على صدقنا {قالُوا} أهل القرية لهم {إِنَّا تَطَيَّرْنا} تشاءمنا {بِكُمْ} لأنكم تدعون إلى إله واحد وترفضون الأوثان وإنا لا نعلم بوجود آلهة غير آلهتنا وقد هالنا ما سمعناه منكم وواللّه {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} عن مقالتكم هذه وتتركونا وما نحن عليه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالأحجار {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ} 18 خبر ما وحرفا تتمنون معهما الموت {قالُوا} لا تتشاءموا بنا إذ ما بنا شؤم لأنا رسل اللّه وإنما {طائِرُكُمْ} الذي تتشاءمون منه هو {مَعَكُمْ} لأنه ناشىء عن كفركم وتكذيبكم لما جئناكم به دون أن تسألونا عن آية صدقنا {أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ} فيما به سعادتكم في الدنيا ونجاتكم في الآخرة أطيرتم وصرتم تهددوننا بسببه لا، لا تفعلوا شيئا {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 19 في الضلال متجاوزون الحد في الشرك والعصيان، مفرطون فيما يعود لنفعكم، لأنا لم نعمل معكم شيئا يوجب رجمنا {وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى} يهرول اسمه حبيب النجار المار ذكره في القصة، الذي رأى آيات الرسولين وأنس بهما قبل حضور الرسول الثالث، وكان في غار يتعبد فيه عند فراغه من عمله، قالوا وكان يتصدق بنصف ما يربح، وقد مر في القصة أنه كان راعيا، إذ علم أن قومه كذبوا الرسل وقصدوا قتلهم، وهذا على القول بأنهم لم يؤمنوا، أوهم الذين لم يؤمنوا مع الملك لأن نسق الخطاب لا ينطبق على نسق القرآن، لأن الحكاية ذكر فيها أن التكذيب والضرب والحبس وقع على الرسولين الأولين فقط وأنهم آمنوا بعد حضور الثالث، والقرآن يسكت عما وقع مع الأولين ويتكلم عن الثلاثة معا {قالَ} الراعي حبيب {يا قَوْمِ} اتركوا الرسل لا تعتدوا عليهم فيصيبكم منهم معرة، وإذا أردتم الخير لأنفسكم {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} 20 إلى ما يدعوكم إليه بغية نجاتكم من عذاب اللّه وكأنه التفت إلى الرسل وقال لهم أتطلبون أجرا على ما تدعون الناس إليه قالوا لا نحن أبعد الناس عن طلبه فالتفت إلى قومه وقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا} على إرشادكم لطريق الهدى والسداد {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 21 من قبل اللّه الذي أرسلهم فاقبلوا هدايتهم مجانا إلى خير الدنيا والآخرة واتبعوهم على ما هم عليه تربحوا رضاء اللّه خالقكم من غير أن تخسروا شيئا من دنياكم فقالوا له إذا أنت على دينهم مؤمن بربهم الذي فطرهم على هذا الدين الذي جاؤا يدعوننا إليه، ولذلك تحبذ دعوتهم فقال لهم {وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} خلقني وهو رحمه اللّه يعبد الذي فطره وإنما أرادهم بذلك، أي وما لكم لا تعبدون الذي فطركم مثلي لأني أعبده حقا أي أيّ شيء خذلكم وصرفكم عن عبادته {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 22 حتما في الآخرة، لأن مصير الكل إليه خاطب نفسه رحمه اللّه في هذه الجملة وهو يريدهم فيها لأنه أبلغ في الزجر، وأمعن في الوعظ، وأحرى للقبول، وأبعد عن اللجاجة، ثم قال لهم: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ} أي الإله الواحد الذي آمنت به {آلِهَةً} أصناما مثلكم لا تضر ولا تنفع، كلا لا أفعل، وإنما أتخذ اللّه الإله الواحد الفعال لما يريد الذي لا رب غيره إلها لي وهو إله الخلق أجمع، واعلموا يا قومي إني {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ} إله هؤلاء الرسل وإلهي وإله العالمين وخالق الكون وما فيه {بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ} أي شفاعة الأوثان التي اتخذتموها آلهة وترجون شفاعتها فلا تنفعني إذا حل بي الضر من الإله الواحد القادر {شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ} 23 من مكاره الدنيا ولا من عذاب الآخرة لأنها أحجار وأخشاب لا تعصم نفسها من التعدي عليها فكيف تنفع غيرها؟ وإذا كان كذلك فكيف أتخذها آلهة {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 24 لا يقبل التأويل لشدة وضوحه ولا يخفى على أحد، ثم أقبل على الرسل وخاطبهم علنا بقوله {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} 25 واشهدوا على إيماني فلا أبالي بما يصيبني منهم.