فصل: مطلب في انسلاخ الأنفس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه قال لما قال صاحب يس حبيب النجار المذكور إذ شهر بذلك: يا قوم اتبعوا المرسلين، خنقوه ليموت، فالتفت إلى الأنبياء فقال: آمنت بربكم فاسمعون، فأسرع إليه قومه فقتلوه رجما بالحجارة.
قال السدي رموه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومي، حتى مات.
وجاء في الحديث انه نصح قومه حيا وميتا، رحمه اللّه فلما مات شهيدا ولقي ربه {قِيلَ} له من قبل ملائكة الرحمة {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فأدخلت روحه فيها رحمه اللّه ودفن جثمانه في سوق انطاكية بالمحل الذي قتل فيه، وقبره معروف حتى الآن يزوره الغادي والبادي، ولما أحست روحه الطاهرة بنعيم الجنة ورأت ما فيها من السرور والروح تتصل بجسدها أحيانا {قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} 26 ما صرت إليه من النعيم {بِما غَفَرَ لِي رَبِّي} ما اقترفته من الذنوب وستر لي ما جنيته من العيوب وما أكرمني به في الجنة الدائمة، فلو علموا ذلك لآمنوا بالرسل، واللّه يعلم أنهم لم يؤمنوا، إذ لم تكتب لهم السعادة.
وما هنا، مصدرية، أي بالغفران الذي غفره لي وعظمته وما ينتج عنه من خير وأجاز بعض القراء كونها استفهامية، أي بأي شيء غفر لي وهو هجره دينهم والصبر على أذاهم.
وقال الكسائي لو كان ذاك أي جعل ما استفهامية، لقال بم بدون الألف مثل عمّ يتساءلون، وبمثل قوله:
علام أقول الرمح أثقل عاتقي ** إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

على الاستفهام لأن اللغة الفصحى حذف الألف إذا جرت بحرف الجر فرقا بينها وبين ما الموصولة، ولا تثبت الألف مع حرف الجر إلا ضرورة لقوله:
على ما يشتمني لئيم ** كخنزير تمرّغ في رماد

وقول الآخر:
إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ** أهل اللواء فقيما يكثر القتل

فأثبتت ما للضرورة في البيتين، ولا ضرورة هنا لأنه ليس بشعر فتبين أنها هنا مصدرية واللّه أعلم {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 27 فيها وذلك لما رأت روحه من إكرام الملائكة لها وإكرامهم إياها تمنى رحمه اللّه المغفرة والكرامة لقومه رحمة بهم وشفقة عليهم ليرغبهم في الإيمان ويحملهم على طاعة الرسل، فلما قتلوه ولم يسمعوا نصحه ولم يلتفتوا إلى رأفته بهم غضب اللّه عليهم، فعجل عقوبتهم المبينة في قوله جل جلاله {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ} لأن أمر إهلاكهم أيسر لدينا من ذلك {وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ} 28 جندا من الملائكة لإهلاكهم لأنهم أخس من ذلك {إِنْ كانَتْ} عقوبتهم في الإهلاك ما هي {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} من بعض أملاكنا فأمر جبريل فصاح بهم {فَإِذا هُمْ خامِدُونَ} 29 جميعا لا حراك بهم، القاعد قاعدا والقائم قائما والمضجع مضجعا.
روي أن اللّه تعالى بعث عليهم جبرائيل عليه السلام فأخذ بعضادتي باب مدينتهم وصاح بهم صيحة فماتوا جميعا، وقد شبهت الصيحة بالنار على سبيل الاستعارة المكنية وجيء بالخمود وتخييل لها وقوله خامدون رمزا إلى أن الحي كشعلة من نار، والميت كالرماد، وهو كذلك قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه ** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

وما المال والأهلون الا ودائع ** ولابد يوما أن ترد الودائع

قال تعالى: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ} إذا لم يؤمنوا بالرسل ويا ويلهم من يوم الحسرة راجع تفسير الآية 29 من سورة مريم الآتية، ثم بين سبب هذه الحسرة بقوله عز قوله: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} 30 يسخرون من قوله لا يسمعون نصحه، وهذه نظير الآية 10 من سورة الحجر في ج 2، ومعنى الحسرة العم والندم على ما فات لأن الإنسان من شدة الندم على صنعه الضر وتضييعه فرصة تلاقيه بالخير، وإهماله أوقاته سدى يركبه غم لا نهاية له بعده، ونزلت الحسرة منزلة العقلاء بإدخال حرف النداء عليها كأنه قال يا حسرة احضري، فهذه الحال من الأحوال التي يجب أن تحضري فيها لأهميتها والمعنى أنهم أحقاء بان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون لرفضهم الخير الذي جاء إليهم من اللّه عفوا دون طلب، ثم التفت إلى أهل مكة بعد الانتهاء من هذه القصة فقال عز قوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} الخالية من أهل كل عصر.
وسموا قرونا لاقترانهم في الوجود، والرؤية هنا علمية لا بصرية لأن أهل مكة لم يحضروا هلاك من قبلهم من الأمم الخالية حتى يروه عيانا بل علموه بالأخبار المتناقلة عن الأجيال بمشاهدة آثار المهلكين من أطلال مساكنهم، اما أهل الفيل أبرهة ومن معه فلا يعدون من القرون الخالية لأنهم كانوا في زقهم وآبائهم ومنهم من شاهد ما وقع بهم، راجع تفسير سورة الفيل المارة {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} 31 لان الهالك في الدنيا لا يرجع إلى الدنيا، وإنما مصيره الآخرة ينم على هذا قوله {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا} أي الأوان هنا بمعني لا النافية أي ما كل إلا جميع لدينا، قيل إنها مخففة وما زائدة وعليه يكون المعنى انه إي الحال والشان كل جميع لدينا، والأول أولى إذ لا زائد في كتاب اللّه {جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ} 32 يوم القيمة للحساب والجزاء أفلا يعتبر أهل مكة بهم ويتحققوا أن مصيرهم كمصيرهم بل انهم سيموتون ويرجعون إلينا فنحاسبهم ونعاقبهم، وقرئ {لما} بالتخفيف، وعليه تكون ما للتأكيد وان مخففة من الثقيلة، والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه، ويكون المعنى أن كلهم مجموعون محضرون ليوم الدين {وَآيَةٌ لَهُمُ} لمنكري البعث أهل مكة وغيرهم دالة على إحياء الأموات {الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} الجافة اليابة التي لا نبات فيها قد {أَحْيَيْناها} بعد موتها بانزال المطر وإخراج النبات فيها {وَأَخْرَجْنا مِنْها} من النبات الخارج فيها بسبب الغيث {حَبًّا} نكره ليعم جميع الحبوب مما يأكله الإنسان والحيوان {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} 33 جميعهم وقدم المتعلق بالكسر على المتعلق بالفتح لإفادة الحصر أي كأنهم لا يأكلون غيره، لأن مغظم أكلهم منه {وَجَعَلْنا فِيها} أيضا بسبب الغيث {جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ} 34 الكثيرة مياها متدفقة غزيرة لا تنضب وانما فعلنا ذلك {لِيَأْكُلُوا} كافه خلقنا من ثمره الحاصل من حبه ومن الأشجار الأخرى وذلك كله بسبب الغيث المسبب لحمأة الأرض، وأعاد بعض المفسرين ضمير ثمره إلى اللّه جل شأنه وتوجيهه أن الثمر نفسه فعل اللّه وخلقه إلا أن فيه آثارا من فعل البشر، فيكون أصل الكلام من ثمرنا كما قال تعالى {وفجرنا} فنقل الكلام في التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات، والأول أولى وأليق بالمقام وأنسبه للسياق، إذ لا داعي هذا التكلف مع ظهور المعنى على الأول {وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ذلك الحب والثمر البديع الصنع بل هيّء لهم بصنع اللّه لأن الزرع ليس زرعهم بل من فعل اللّه والغرس ليس غرسهم بل من عمل اللّه وان أتعابهم التي صرفوها في ذلك هي من قدرة اللّه، لأنه لو لم يقدرهم على ذلك لما قدروا على شيء أصلا ولو شاء لحرمهم منه بتسليط آفة سماوية عليه أو أرضية فيقطع عنهم الماء أو يرسل حرا أو بردا أو آفة فيدمره، راجع تفسير الآية 63 فما بعدها من سورة الواقعة الآتية والآية 96 من سورة الصافات في ج 2 ويجوز أن يكون المراد ليأكلوا من ثمره رأسا أو مما عملته أيديهم منه كعصير العنب والبرتقال والثمر وسائر الفواكه وما يعقدونه منها أو يخرجونه بغيره كالحلويات والمعجنات وغيرها من أنواع السكاكر والمأكولات، فهذه كلها من الدلائل على صحة الإحياء بعد الموت {أَ فَلا يَشْكُرُونَ} 35 نفعا هذه عليهم واثباتنا لها بالحجج والدلائل لإفناعهم على الإيمان بالإله الواحد والرسل والحياة الأخرى ووجود الجنة لمن أطاعنا والنار لمن عصانا، وهذا استفهام انكار لانكارهم وجحودهم واستقباح لعدم شكرهم نعم اللّه عليهم وكأنهم لم يكتفوا بهذه البراهين على ذلك {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها} من أصناف الحيوان والجماد والنّبات {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} 36 مما لم يطلعهم اللّه على علمه ومعرفته ولم يتوصلوا لها بعد لعدم وقوفهم على عظيم قدرته وسعة ملكه وما عرفه الناس المادة الكهربائية الا عثورا، ومن يعش ير لأنا رأينا أشياء لم يرها أسلافنا ولم يحلموا بها، ولو ذكرت لهم لكذبوها فقد كذبوا حديث الدجال من أنه إذا ظهر يبلغ خبره المشرق والمغرب بيوم واحد، وها إن المذياع (الراديو) يسمع أخباره أهل المشرق والمغرب بلحظة واحدة، وسيرى أحفادنا ما لم نره نحن من عظيم مكونات اللّه التي سيطلع عليها خلقه بأوقاتها المقدرة عنده، فسبحان من لا يحيط بعلمه غيره، ثم ذكر برهانا على إمكان الحياة الأخرى بقوله عظم قوله {وَآيَةٌ لَهُمُ} على قدرتنا باعادة الخلق كما بدأناه ليتيقن هؤلاء المنكرون عظمتنا وحجة ما جاءهم به رسلنا {اللَّيْلُ نَسْلَخُ} نكشط ونقشط ونكشف ويأتى بمعنى السّرى والتنفس {منه النّهار} فلا نبقي معه شيئا من ضوء الشمس مثل نزع القميص الأبيض عن الزنجي الأسود، لأن ما بين الأرض والسماء ظلمة فيكسو بعض ذلك الفضاء ضوء شمس فيكون كيت مظلم أسرج فيه سراج، فاذا انطفأ السراج أظلم البيت {فَإِذا هُمْ} أي جميع المخلوقات التي كساها ضوء الشمس {مُظْلِمُونَ} 37 بعد انسلاخ النهار بظلام الكون في المحيط الموجودين فيه، وينصرف أيضا للقسم الآخر منه، إذ تكون الحال في موضع ليلا وفي آخر نهارا وفي موضع صبحا وفي غيره مساء، وفي قطر ضحى وآخر عصرا وهكذا، ثم ذكر آية ثالثة لهؤلاء المنكرين على الحياة الآخرة بقوله عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها} لمقدار تنتهي إليه في منازلها بالنظر لما نراه لأن سيرها محدود غايته المستقر الذي قدره اللّه لها وقد صرح إمام الحرمين وغيره بأن الشمس تطلع عند قوم وتغرب عند آخرين فبآن واحد طالعة في مكان غائبة في غيره، فيطول الليل عند أناس ويقصر عند آخرين، وبين الليل والنهار اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي أقصى بلاد البلغار قد يطلع الفجر قبل غياب الشفق، فلا وقت لصلاة العشاء عندهم إلا أنهم يقدرونه تقديرا بحسب الساعات، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية ولا تزال غاربة في البروج القبلية، فنصف السنة في ذلك المكان ليل ونصفها نهار وقامت الأدلة على عدم سكونها عند غروبها والا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق، طلوع في غيره وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها، أما ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها} قال مستقرها تحت العرش، فالمستقر اسم مكان، وظاهر الحديث الذي لا غبار عليه أن للشمس مستقرا أي قرارا حقيقيا، وقال النووي وجماعة من أهل العلم بظاهره أيضا لاسيما وأنه مروي عن أبي ذر وهو من عرفت مكانته وما هو عليه من الصدق والأمانة، والآية نصت على أن جريانها لمستقر لها أيضا، ولا يمكن التوفيق بين الآية والحديث وبين ما يقوله أهل الهيئة إلا إذا قلنا إن الشمس وسائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن هذا قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} الآية الآتية ومثلها الآية 34 من سورة الأنبياء في ج 2 حيث لسند الفعل إلى ضمير العقلاء مثله في قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} الآية 4 من سورة يوسف في ج 2 حيث جمعها جمع من يعقل أيضا، وما جاء في هذا الحديث في رواية أخرى وهي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي ذر حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قال اللّه ورسوله أعلم.
قال إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها} أخرجاه في الصحيحين والمتبادر من الاستيذان ما يكون بلسان القال دون لسان الحال كفيرها من الجمادات التي خاطبها اللّه تعالى ومكنها من الإجابة حسبما أراد، راجع تفسير الآية 73 من سورة الأعراف المارة بما يتعلق بهذا البحث، هذا وما يقال أن اللّه جل شأنه خلق فيها الإدراك والتمييز حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها، بعيد غاية البعد ولا حاجة إلى مثل هذا.
والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصيه كثرة.
والعترة نسل الرجل ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى ونجد أي بقي والمراد بها هنا آل الرسول ورهطه وعشيرته والبروج المار ذكرها بيناها في سورة البروج المارة فراجعها تر بعضها يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص، وبعضها يدل على ثبوته لها في العموم أو بالغاية، إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان، بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة.

.مطلب في انسلاخ الأنفس:

اثبت الحكماء النفس للفلك، وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا كل ما في العالم العلوي والسفلي من الكواكب الأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حيّ ناطق، والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ من الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما تمثل جبريل عليه السلام وظهر لحضرة المصطفى وأصحابه بصورة دحية الكلبي أو بصورة بعض الأعراب كما جاء بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عمر رضي اللّه عنه قال بينما نحن جلوس عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاسند ركبته إلى ركبتيه ودفع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
قال صدقت، فتعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن الإحسان، قال أن تعبد اللّه كأنك تراه فان لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الأمة ربّنها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، ثمّ انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟
قلت: اللّه ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
فقد ثبت في هذا الحديث أن جبريل جاء بصورة اعرابي، ثم تذهب تلك الصورة المنسلخة عن الجسد الظاهر حيث يشاء اللّه عز وجل، مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يصدر عن أصلها المنسلخ منها.
ومن هذا القبيل ما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع، وبدنها الأصلي في موضع آخر وهذا من قبيل الكرامة التي يظهرها اللّه تعالى لهم وانا أشهد بهذا وأصدق وأنت أيها المنكر:
إذا لم تر إهلال فصدّق ** لأناس رأوه بالأبصار

وذلك أني سمعت هذا من أناس أثق بصدقهم وصلاحهم وهم من أهل هذا:
لا تقل دارها بشرقي نجد ** كل نجد للعامرية دار

وهذا أمر مقدر عند السادة الصوفة مشهود فيما بينهم بالتواتر وهو غير طي المسافة المقرر عندهم أيضا والثابت وقوعه لديهم تواترا أيضا، ولا يسعنا إلا التصديق لأن إنكار هاتين الخصلتين عليهم مكابرة لا تصدر الا عن جاهل بحقيقتهم أو معاند لهم، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة كابن مقاتل المشهور انه حكم بالكفر على معتقد ما روي عن ابراهيم بن أدهم قدس اللّه سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ثامن ذي الحجة سمي بذلك لأن ابراهيم عليه السلام رأى الرؤيا فيه بذبح ابنه وأنه رئي ذلك اليوم بمكة وبنى حكمه هذا على زعمه أنه من جنس المعجزة العظيمة وهي مما لا تثبت كرامة للولي، وهذا حكم فاسد لا يلتفت اليه ولا يعول عليه، لان المعتمد عند أهل السنة والجماعة جواز ثبوت الكرامة مطلقا للولي، وان كل ما جاز وقوعه معجزة للنّبي جاز أن يكون كرامة للولي إلا إذا ثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل القرآن، والتحدّي به، لأن ذلك من خصائص الرسالة، فمن أنكر هاتين الخصلتين أو إحداهما خرج عن دينه ولو طار بالهواء لانه بادعاء إحداهما يكون مدعيا الرسالة ولا رسالة بعد خاتمها، تدبر، حفظك اللّه من الزيغ وغرور النفس والحسد، فإن كلا من هذه الثلاثة داع للانكار، راجع الآية 147 من سورة الأعراف المارة، وما ترشدك اليه، هذا وقد أثبت غير واحد خبر نقل النفس وتطورها لنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم بعد وفاته وادعى أنه عليه الصلاة والسلام يرى في عدة مواضع في وقت واحد، مع كونه في قبره الشريف يصلي، وضح أن موسى عليه الصلاة السلام يصلي في قبره مع أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم رآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة ليلة الإسراء كما بحث في تفسير أول الإسراء الآتية، وعليه فلا قيمة لما يقوله بعض من لا ثقة بعلمه ولا وثوق بذاته من إنكار هذه القضية البالغة من التواتر دون معارضته من أهل العلم العاملين، وما تعلل به من كون موسى عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلى اللّه عليه وسلم عند قبره في الأرض مما لم يقل به أحد جزما، لأن القول به احتمال بعيد، بل لابد أن يكون بصورة أخرى عنه، وقد رأى صلى اللّه عليه وسلم ليلة أسري بروحه وجسده إلى السماء جماعة من الأنبياء في السموات أيضا مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا من الأرض إلى السماء على قياس ما سمعت آنفا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس لواحدة أكثر من بدن واحد وحيّز واحد، بل هو أمر ممكن كما لا يخفى على من نور اللّه بصيرته، فعلى هذا لا يقال إن الشمس نفس مثل تلك الأنفس القدسية وانّها تنسلخ عن الجرم المشاهد مع بقاء سيرها وعدم سكونها حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم، ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي بالنسبة لكل قطر وانقطعت رؤية سكان المعمور في الأرض لها، ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحوه، لأن ما ذكرت من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة الممتثلة بما شاء اللّه، لا ينافي الجرم المعروف، بل لو كان السجود والسكون نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا بالنسبة لكل مدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر، إلا الذي يغلب على الظن ما يأتي بعد في تفسير قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وإذا علمت هذا تيقنت أن لا تعارض بين الحديث الصحيح المار ذكره في الشمس وبين كلام أهل الهيئة وما يقتضيه الحس أيضا واللّه أعلم ا هو من روح المعاني وغيره بتصرف واختصار وتبسط {ذلِكَ} الجري البديع والمستقر الشان {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 48 به بحساب يكل النظر عن استخراجه وتتحير الافهام في استنباطه، لانه فعل الغالب بقدرته على هذا الجريان حسبما تفتضيه إرادته، فانظر رعاك اللّه في هذين الشخوص والهبوط المستمرين في الكون على المنوال المذكور في هذه الآية الكريمة، وتفكر هل كان أحد في عهد نزول القرآن العظيم اطلع عليها وهل علمها أحد قبل إنشاء المراصد الفلكية واختراع المكبرات الرصدية غير صانع هذا الكون وبارئه على غير مثال سابق.
وقد أخبرنا به المنزل عليه محمد صلى اللّه عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا عن ربه عز وجل، ولا أبين من بيان اللّه في حق هذا القرآن الجليل، كيف لا وقد قال فيه {تِبْيانًا لِكُلِّ شيء} الآية 90 من سورة النحل في ج 2، قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ} جمع منزلة والمراد بها المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهو لا يتعداها من أول ليلة إلى الثامن والعشرين ثم يستكن ليلة إذا كان تسعا وعشرين وليلتين إذا كان ثلاثين يوما.