فصل: مطلب تحية اللّه لعباده وتوبيخ المجرمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون، قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت، قالوا أربعون شهرا، قال: أبيت، قالوا أربعون سنة، قال: أبيت يقول رضي اللّه عنه كلما سئل عن بيان الأربعين وتمييزها أبيت أي أمتنع عن القول، وذلك لانه لم يسمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما هي الأربعون، لانه أمين على ما سمع، فينقل ما سمعه بلا زيادة ولا نقص جزاه اللّه عنا خيرا.
ومع هذا الحرص على حفظ كلام الرسول وأمانته عليه من أن يدخل فيه ما ليس منه ما لم يتحقق سماعه، فإن بعض من لا خلاق له من العلم يتهمه بسبب كثرة روايته عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقد اعتذر لهم بأنه كان ملازما حضرة الرسول، وإخوانه بالأسواق وغيرها يتلهون بأعمالهم، لذلك صار أكثر رواية منهم أللهم حسن ظننا بعبادك المخلصين ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ويأمر اللّه تعالى كل ذرة أينما كانت في البر أو البحر أو الهواء بالاتصال بجسدها التي انفصلت منه، وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظما واحدا هو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة قال صاحب الجوهرة:
والجسم يفنى غير عجب الذنب ** وغير شهيد الحرب ونبي

وهذا أيضا جاء على قاعدة ما عموم إلا وخصص.
هذا، وحينما يتظاهر أهل الموقف بالضجر مما يشاهدونه من الهول وعدم علمهم بما يئول إليه أمرهم يقول اللّه تعالى {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ} منكم أيها الخلق {شَيْئًا} مما عملتموه في دنياكم برة كانت نفسكم أو فاجرة حسنا كان عملها أو سيئا {وَلا تُجْزَوْنَ} جنّكم وإنسكم {إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فيها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ثم طفق يصف للناس أصحاب الخير بعد حسابهم بقوله جل قوله: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} من معانقة الأبكار على ضفاف الأنهار وزيارة الأخيار عند سيد الأبرار وضيافة الملك الغفار في مشهد تحار فيه الأفكار والأبصار، مما لا توصف لذته ولا تقدر فرحته {فاكِهُونَ} 55 متلذذون متنعمون {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ} المؤمنات في الدنيا وما من اللّه عليهم من الحور والولدان جميعهم {فِي ظِلالٍ} من أكناف القصور والمواقع التي لا تقع عليها الشمس تسمى ظلالا في الدنيا أما الآخرة فلا شمس فيها قال تعالى: {لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} الآية 13 من سورة الرحمن في ج 3، وإنما سميت ظلالا بالنسبة لما نعرفه من ظلال الأشجار وغيرها وكلهم {عَلَى الْأَرائِكِ} السور في الحجال أو الفراش في الحجال وحكى الطبرسي أن الأريكة هي الوسادة، وهذا مما يقبله الضمير قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ} في صدر الآية المارة والاتكاء عادة في الدنيا يكون على الوسائد، وما الدنيا إلا أنموذج الآخرة {مُتَّكِؤُنَ} 6 5 وهذا مما يؤيد أن الأريكة هي الوسادة، وقال الزهري كل ما اتكئ عليه فهو أريكة.
قال في الصحاح الأريكة سرير منجّد مزين في قبة أو بيت، وقال ابن عباس لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة ولا حجلة إذا لم يكن السرير فيها والحجلة كالقبة وموقع مزيّن بالثياب والستور للعروس.
وعلى كل فإن المراد بها الوسادة، لأن السرير لا يكون بدون وسد فالذي يجلس عليه يتكىء على ما فيه من الوسد.
{لَهُمْ فِيها} أي الجنة {فاكِهَةٌ} يتفكهون بها من أنواع الثمار والخضار {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ} 57.
ويطلبون من أصناف المآكل والمشارب مما يتمنون ويشتهون.

.مطلب تحية اللّه لعباده وتوبيخ المجرمين:

وزيادة على هذا فإن الملائكة غير الحافين بهم تبلغهم من ربهم تحية وهي {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 58 أو انه جل جلاله يطلع عليهم بذاته المقدسة يدل على هذا ما رواه البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر ابن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع نور لهم فرفعوا رءوسهم، فاذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله عز وجل سلام إلخ ينظر إليهم وينظرون اليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم قال صاحب بدء الامالي:
يراه المؤمنون بغير كيف ** وإدراك وضرب في مثال

فينسون النعيم إذا رأوه فيا ** خسران أهل الاعتزال

ومن هذه النعمة العظيمة رؤية الحق جل جلاله لانهم يتكرونها في الدنيا والآخرة فعوقبوا بحرمانهم منها راجع بحث الرؤية في تفسير الآية 143 من الأعراف المارة، ثم شرع ينعت أهل النار أجارنا اللّه منها بقوله: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} 59 اعتزلوا عن المؤمنين لانهم صاروا إلى ما وعدوا به في الدنيا على لسان الرسل، وبمجرد صدور هذه الكلمة بل قبل تمامها اعتزل جميع أهل النار من كل الملل عن أهل الجنة، لان أمره بين الكاف والنون وصار يوبخهم ويقرعهم بما هو أشد من عذابهم وأمر فقال لهم {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} وأنتم في عالم الذر راجع تفسير الآية 172 من الأعراف المارة وأقول لكم {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} وافردوني وحدي بالعبادة وألم أقل لكم {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 60 العداوة، إذ بدأها بأبيكم آدم فاحذروه.
ولا تشركوا بي أحدا ولا شيئا، كيف وقد أعطيتموني هذا الميثاق وشهدتم به على أنفسكم وأشهدت عليكم ملائكتي وقد نقضتموه وعبدتم غيري.
{وَأَنِ اعْبُدُونِي} وحدي لا تشركوا بي شيئا {هذا} الذي عهدت به إليكم من وجوب طاعتي وعبادتي ومعصية الشيطان وترك الشرك هو {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} 61 لو اتبعتموه لنجوتم الآن لأنه سوي بليغ بالاعتدال لا اعوجاج فيه فلو تمسكتم به لكفى في إلزام أنفسكم طاعتي قال الآلوسي رحمه اللّه:
تفسر بعض الناس عنك كناية ** خوف الوشاة وأنت كل الناس

لأن الأصل الاستقامة، ولا يكون إلا باتباع الطريق المستقيم فمن اتبعه نجا ومن حاد عنه هلك، قال تعالى مخاطبا الخلق كلهم {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ} أيها الناس {جِبِلًّا كَثِيرًا} أي خلقا، لان الجبل الجماعة العظيمة والأمة التي لا تقل عن عشرة آلاف تشبيها لها بالجبل العظيم.
مع كثرة إرسال الرسل إليكم لارشادكم {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 62 ما بلغوكم به عنّا لتستعدوا ليومكم هذا استفهام توبيخ وتقريع لعدم اتعاظهم بما جرى على الأمم الضالة قبلهم تكذيبهم رسلهم وطاعتهم عدوهم إبليس ثم التفت لأهل النار وقال لهم {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} 63 بها من قبل الرسل في الدنيا والتي كانوا يخوفونكم بها وأنتم تكذبونهم ثم يقال لهم على سبيل الإهانة والتحقير من قبل ملائكة العذاب {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} أدخلوها لتكونوا وقودها {بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} 64 باللّه ورسله وتجحدون هذا اليوم ولما أرادوا أن يتكلموا الجمهم عن الكلام بقوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ} لئلا يتكلموا بها لانا سنأمر جوارحهم بالاعتراف عما فعلت {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ} بما بطشت وما أخذت وأعطت {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} بما مشت ورمحت وهكذا كافة أعضائهم تنطق {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} 65 في الدنيا وذلك أنهم أرادوا أن يعتذروا إلى اللّه بأنهم انقادوا لأكابرهم وأنهم لم يكذبوا رسله ولم يشركوا به، كما مر في الآية 59 فما بعدها من سورة ص وما سيأتي في الآية 23 من سورة الأنعام في ج 2 فيمنعون من الكلام إذ لا فائدة لهم به.
روى مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضحك، أي تبسم لأنه كان لا يضحك وكلما نقل عنه أنه ضحك فالمراد به تبسم فقال «هل تدرون ممّ أضحك؟» قلنا اللّه ورسوله أعلم، قال «في مخاطبة العبد ربه، فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول بلى، قال فيقول: فإني لا أجيز على نفسي الا شاهدا منّي أي لا أقبل شاهدا عليّ من الغير قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا» والآية في الإسراء بلفظ {حَسِيبًا} مما يفهم أن الاستشهاد بغير الآية، قال «فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي، قال فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل أدافع وأخاصم» ومعنى هذا هلاكا والمراد بالختم على الأفواه ليس عدم شهادتها بل منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسن نفسها، وكيفية شهادة الجوارح أن يجعل اللّه تعالى القادر على كل شيء فيها علما وإرادة وقدرة على التكلم، فتتكلم وتشهد وأصحابها مختوم على أفواههم راجع كيفية هذا الختم في الآية 24 من سورة النور في ج 3، ولا نص فيها عن الأفواء كما أنه لا نص في هذه الآية على الألسنة أي لا ختم على الأفواه هناك ولا على الشهادة بالألسنة هنا وعليه فيجوز أن يكون المحدث عنهم في السورتين واحدا قال تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا} مسخنا {عَلى أَعْيُنِهِمْ} كما أغشينا قلوبهم الباطنة بأن نجعلها كأنها غير مشقوقة، وهذا أبلغ من أعميناها أو أغشيناها {فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ} بادروا طريقهم المألوف لهم ويجوز أن يكون الكلام من باب الحذف والإيصال بان حذف الجار وهو إلى واتصل الفعل بالمجرور وهو الأصل فاستبقوا إلى الصراط {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} 66 طريقهم وهم عمي القلوب عمي الأعين معا {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ} حجارة بأن قلبنا ماهيتهم أو صيّرناهم قردة وخنازير كما فعلنا بأصحاب السبت أشار إليهم في الآية 163 من سورة الأعراف المارة والآتي ذكرهم في الآية 60 من سورة المائدة في ج 3 قالوا إن مسخ الحيوان أو تحويله إلى أحجار يسمى رسخا وإلى نبات يسمى فسخا وإلى حيوان يسمى نسخا أي لغيرناهم عن خلقهم وهم {عَلى مَكانَتِهِمْ} المكانة كالمكان مثل المقامة والمقام ويكون بمعنى المنزلة العالية في غير هذا المكان أي لو أردنا مسخهم لمسخناهم في منازلهم {فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا} عنها فلا يقدرون أن يبرحوها ويتخلصوا منها من ويل ما وقعوا فيه {وَلا يَرْجِعُونَ} 67 إلى ما كانوا عليه قبل النسخ أي عجزوا على الحالتين معا.
واعملوا أيها الناس أن طول الأعمار وقصرها بايدينا وفق ما هو في أزلنا {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ} منكم زيادة على غيره {نُنَكِّسْهُ} أي نقلّبه {فِي الْخَلْقِ} فلا يزال يتزايد ضعفه وتنقص بنيته وتضعف قواه، وقد يقل عقله عكس ما كان عليه لأنه في بدأ طفولته كان يتزايد في الكبر والقوة والعقل والعلم، لأنه يكون عند ولادته عاريا عن ذلك كله فإذا بلغ أشده استكمل قوته وعقله وعلمه، وأنكس قلب الشيء على رأسه، والمنكوس الولد الذي تخرج رجلاه قبل رأسه والنكس عود المرض بعد النّقه وكل ما كان مقلوبا فهو منكوس ولهذا قال ننكسه أي نرجعه على حالة الطفولة من جهة نقص القوى وضعف الجوارح والنكس الشيخ المدرهمّ الساقط العاجز من الكبر بعد الهرم، والناكس المطأطئ رأسه من أجل ذلك {أَفَلا يَعْقِلُونَ} 68 هؤلاء بأن من قدّر تعريف أحوال الإنسان بالصورة المذكورة وهي مدونة ومشاهدة، ألا يقدر على إحياء من يميته ويبعثه حيّا مرة ثانية، أفلا يعتبرون ويقيسون ما كان على ما يكون، أفلا يتدبرون هذا نظرا وفكرا؟ ثم التفت إلى كفار قريش الذين اتهموا نبيه صلى اللّه عليه وسلم بكونه شاعرا بعد أن قالوا ساحر وكاهن ومعلم، لأنه هو المقصود بإنزال هذا القرآن بل من خلق اللّه كله فقال مكذبا لهم {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ} والكلام المنزل عليه لا يضاهي الشعر لأنه غير موزون بأوزانه.

.مطلب أوزان الشعر ومخالفة القرآن لها:

أن الشعر عبارة عن تخيلات مرغبة أو منفّرة، وهو معدن الكذب ومقر الهزل في كثير من الأحيان ولهذا قيل في مدحه أعذبه أكذبه وهو مبني على ستة أصول:
(1) سبب خفيف وهو كل حرف متحرك وراءه ساكن مثل من وعن وقد.
(2) سبب ثقيل وهو كل حرفين متحركين مثل لم بما من.
(3) وتد مجموع وهو كل حرفين متحركين بعدهما ساكن مثل غزا ورمى وعلا.
(4) وتد مفروق وهو كل حرفين متحركين بينهما ساكن مثل سار، قال، باع.
(5) فاصلة صغرى وهي كل ثلاثة أحرف متحركات بعدها ساكن مثل ذهبا خرجا أكلا.
(6) فاصلة كبرى وهي كل أربعة أحرف متحركات مثل خرجتا، ذهبتا، أكلتا وهو عبارة عن ستة عشر بحرا لكل منها وزن خاص لا يتعداه وله أصول يتقيد فيها كالخبن والجزء.
وهو علم خاص له فروع في عروضه وضروبه وقوافيه، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في النثر، ومتى خرم في أصوله ووزنه بشيء لا يسمى شعرا.
وهذا القرآن العظيم كله حكم وعقائد وشرائع وأمثال وقصص وأمر ونهي منزه عن الهزل، وكله قول حق وصدق قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ} الآيتان 13 و14 من سورة الطارق المارة وإذا كان منزّها من الهزل فبراءته عن غيره أولى، وليس على أوزان الشعر وقوافيه وأصوله فأين الثرى من الثريا، وأين الثريا من يد المتناول، وإذا لم يكن هذا القرآن شعرا، وهو كذلك، فإن محمدا صلى اللّه عليه وسلم ليس بشاعر، لأنه لا ينطق عن اللّه بغير ما يوحيه إليه، فما يقوله هؤلاء الكفرة وأضرابهم وتلوكه ألسنتهم من الشعر غرضهم منه وصمه صلى اللّه عليه وسلم بالشعر مع أن ما جاء به ليس بشعر وحاشاه ثم حاشاه {وَما يَنْبَغِي لَهُ} ولا يليق به الشعر.
ولا تعلمّه ولا نطق به، لأنه قد يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، وهذا ليس كذلك.
والشعر أحسنه المبالغة في الوصف والمجازفة والإغراق في المدح والإفراط بتحسين ما ليس بحسن والتفريط في تقبيح ما ليس بقبيح، وهذا مما يستدعي الكذب أو يحاكيه وجلّ جناب الشارع عن ذلك روي عن عائشة رضي اللّه عنها وقد قيل لها هل كان النّبي شاعرا يتمثل بشيء من الشعر قالت كان يتمثل بشعر ابن رواحه ويقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود

أخرجه الترمذي، وفي رواية غيره قالت كان الشعر أبغض الحديث اليه صلى اللّه عليه وسلم ولم يتكلم منه إلا ببيت أخي قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
فقال أبو بكر رضي اللّه عنه ليس هكذا يا رسول اللّه، فقال «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي»، وروى عن الحسن أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا

فقال أبو بكر يا نبي اللّه انما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

أشهد أنك رسول، وتلا هذه الآية وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال «لأن يمتليء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتليء شعرا» وما صح من حديث جندب بن عبد اللّه أنه قال بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أصابه حجر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ** وفي سبيل اللّه ما لقيت

ومن حديث أنس رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:
اللهمّ إن العيش عيش الآخرة ** فأكرم الأنصار والمهاجرة

وما روى أنه قال:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب

فهو من جملة كلامه الذي يرمي به من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق كذلك عفوا من غير قصد الشعرية وان كان موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس ومحاوراتهم ورسائلهم، كلام موزون مقفى يدخل في بحور الشعر وأوزانه اتفاقا، وقد جاء في القرآن العظيم ما هو بوزن شطر منه مثل قال تعالى: {قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ} الآية 21 من سورة طه الآتية وقوله جل قوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ} الآية 25 من سورة الأحقاف في ج 2 وغيره كثير كما في الآية 14 من سورة النمل، والآية 33 من سورة فاطر الآتيتين.
فهل يسمى هذا شعرا؟ كلا، على أن الخليل قال المشطور من الرجز ليس بشعر، وهذا كله من مشطور الرجز، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحبّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت من الأحاديث والأخبار، ولعله قال ذلك بالتفضيل بين شعر وشعر كما قال حين أعجبه شعر أمية ابن الصلت: «آمن شعره وكفر قلبه» وكما قال حين سمع قول النابغة:
بلغنا السماء بحدنا وسناؤنا ** وانا لنرجو بعد ذلك مظهرا

قال له إلى أين قال إلى الجنة يا رسول اللّه، فأعجبه ولما بلغ في قصيدته قوله:
ولا خير في علم إذا لم يكن ** له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن ** حليم إذا ما أورد الأمر اصدرا

قال له «لا يفضض اللّه فاك».