فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {يس} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَكَذَا كُتِبَ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي سَطَّرْنَاهَا الْآنَ، وَهِيَ فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ ثَبَتَ قَوْلُهُ: {ق} وَثَبَتَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ} وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى التَّهَجِّي، فَيُقَالُ فِيهِ يَاسِين، وَلَا قِيلَ قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَا نُونْ وَالْقَلَمِ، وَلَوْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لَقُلْت فِيهَا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ قَافَ جَبَلٌ، وَإِنَّ نُونَ الْحُوتُ أَوْ الدَّوَاةُ؛ فَكَانَتْ فِي ذَلِكَ حِكْمَةٌ بَدِيعَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ وَالصَّحَابَةَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا كَتْبَ الْقُرْآنِ كَتَبُوهَا مُطْلَقَةً لِتَبْقَى تَحْتَ حِجَابِ الْإِخْفَاءِ، وَلَا يُقْطَعُ عَلَيْهَا بِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةِ؛ فَإِنَّ الْقَطْعَ عَلَيْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ خَبَرٍ؛ إذْ لَيْسَ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ قَالَهُ مَالِكٌ، رَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ قَالَ: سَأَلْت مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي، لِقَوْلِ اللَّهِ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يَقُولُ: هَذَا اسْمِي يس.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يس يَا إنْسَانُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَقَوْلُك يَا طَهَ: يَا رَجُلُ.
وَعَنْهُ رِوَايَةُ أَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ كُنِيَ بِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا يس أَيْ يَا سَيِّدُ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ مِنْ فَوَاتِحِ السُّوَرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمَّانِي اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةَ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدًا، وَأَحْمَدَ، وَطَه، وَيس، وَالْمُزَّمِّلَ وَالْمُدَّثِّرَ، وَعَبْدَ اللَّهِ».
وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ جَمَعْنَا أَسْمَاءَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُسَمَّى أَحَدٌ يس؛ لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ كَلَامٌ بَدِيعٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِ اللَّهِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ، وَقَادِرٌ، وَمُرِيدٌ، وَمُتَكَلِّمٌ؛ وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا، لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَارِي فَيُقَدَّمُ عَلَى خَطَرٍ مِنْهُ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَلَامٌ عَلَى إلْ يَاسِينَ}.
قُلْنَا: ذَلِكَ مَكْتُوبٌ بِهِجَاءٍ فَيَجُوزُ التَّسْمِيَةُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَهَجًّى هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ مَالِكٌ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يس} في {يس} أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة والكسائي {يس والقرآن الحكيم} بإدغام النون في الواو.
وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة {يَسِنْ} بإظهار النون.
وقرأ عيسى بن عمر {يَسِنَ} بنصب النون.
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم {يسِنِ} بالكسر.
وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السَّمَيْقَع {يَسِنُ} بضم النون؛ فهذه خمس قراءات.
القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية؛ لأن النون تدغم في الواو.
ومن بيّن قال: سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج.
وذكر سبيويه النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولًا ولا يصرفه؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل، والتقدير اذكر يسين.
وجعله سيبويه اسما للسورة.
وقوله الآخر أن يكون مبنيًا على الفتح مثل كيفَ وأينَ.
وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبَّه بقول العرب جيرِ لا أفعل؛ فعلى هذا يكون {يسِنِ} قسَما.
وقاله ابن عباس.
وقيل: مشبَّه بأمِس وحذامِ وهؤلاءِ ورقاشِ.
وأما الضم فمشبّه بمنذُ وحيثُ وقطُّ، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجلُ، لمن يقف عليه.
قال ابن السَّمَيْقَع وهارون: وقد جاء في تفسيرها يا رجل فالأولى بها الضم.
قال ابن الأنباري: {ياس} وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة.
ومن قال: معنى {ياس} يا رجل لم يقف عليه.
وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان، وقالوا في قوله تعالى: {سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] أي على آل محمد.
وقال سعيد بن جبير: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم؛ ودليله {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
قال السيد الحميري:
يا نفس لا تَمحضِي بالنُّصْحِ جاهدةً ** عَلَى المودَّةِ إلا آلَ ياسينَ

وقال أبو بكر الورّاق: معناه يا سيد البشر.
وقيل: إنه اسم من أسماء الله؛ قاله مالك.
روى عنه أشهب قال: سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمّى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: {يس والقرآن الحكيم} يقول هذا اسمي ياس.
قال ابن العربي هذا كلام بديع، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمَّى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه؛ كقوله: عالم وقادر ومريد ومتكلم.
وإنما منع مالك من التسمية بيسين؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يُدْرى معناه؛ فربما كان معناه ينفرد به الربّ فلا يجوز أن يقدم عليه العبد.
فإن قيل فقد قال الله تعالى: {سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ} قلنا: ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به، وهذا الذي ليس بمتهجَّى هو الذي تكلم مالك عليه؛ لما فيه من الإشكال؛ والله أعلم.
وقال بعض العلماء: افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير: ودلّ المفتتح على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد؛ وكذلك ياس أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن.
ثم اختلفوا فيه أيضًا؛ فقال سعيد بن جُبير وعكرمة: هو بلغة الحبشة.
وقال الشّعبي: هو بلغة طيّ.
الحسن: بلغة كلب.
الكلبي: هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم.
وقد مضى هذا المعنى في طه وفي مقدّمة الكتاب مستوفى.
وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى ياس فحكى أبو محمد مكيّ أنه روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لي عند ربي عشرة أسماء» ذكر أن منها طه وياس اسمان له.
قلت: وذكر الماورديّ عن عليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه وياس والمزمّل والمدثِّر وعبد الله» قاله القاضي.
وحكى أبو عبد الرحمن السُّلَميّ عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد، مخاطبة لنبيّه صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس: {ياس} يا إنسان أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقال: هو قَسَم وهو من أسماء الله سبحانه.
وقال الزجاج: قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان.
وعن ابن الحنفية: {ياس} يا محمد.
وعن كعب: {ياس} قَسَم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}.
فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وصحّ فيه أنه قَسَم كان فيه من التعظيم ما تقدّم، ويؤكد فيه القَسَم عطف القَسَم الآخر عليه.
وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قَسَم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته.
أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه؛ أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق.
قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيِّد ما فيه، وقد قال عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم» انتهى كلامه.
وحكى القشيري قال ابن عباس: قالت كفار قريش لست مرسلًا وما أرسلك الله إلينا؛ فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدًا من المرسلين.
{والحكيم} المحكَم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض؛ كما قال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1].
وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل.
وقد يكون {الْحَكِيمِ} في حق الله بمعنى المحكِم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم.
{على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي دين مستقيم وهو الإِسلام.
وقال الزجاج: على طريق الأنبياء الذين تقدموك؛ وقال: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} خبر إن، و{على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} خبر ثانٍ؛ أي إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم.
وقيل: المعنى لمن المرسلين على استقامة؛ فيكون قوله: {على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} من صلة المرسلين؛ أي إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله} [الشورى: 52 53] أي الصراط الذي أمر الله به.
قوله تعالى: {تَنزِيلَ العزيز الرحيم} قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: {تَنْزِيلَ} بنصب اللام على المصدر؛ أي نزّل الله ذلك تنزيلًا.
وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] أي فضربا للرقاب.
الباقون {تَنْزِيلُ} بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو تنزيل، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم.
هذا وقرئ: {تَنْزِيلِ} بالجر على البدل من {الْقُرْآن} والتنزيل يرجع إلى القرآن.
وقيل: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك لمن المرسلين، وإنك {تَنزِيلَ العزيز الرحيم}.
فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال؛ قال الله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَّسُولًا يَتْلُو} [الطلاق: 10 11] ويقال: أرسل الله المطر وأنزله بمعنى.
ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة الله أنزلها من السماء.
ومن نصب قال: إنك لمن المرسلين إرسالًا من الْعَزيز الرحيم.
و{العزِيزِ} المنتقم ممن خالفه {الرَّحِيم} بأهل طاعته.
قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} ما لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير، منهم قتادة؛ لأنها نفي والمعنى: لتنذر قومًا ما أتى آباءهم قبلك نذير.
وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضًا.
وقيل: إن ما والفعل مصدر؛ أي لتنذر قومًا إنذار آبائهم.
ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء؛ فالمعنى لم ينذَروا برسول من أنفسهم.
ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونَسُوا.
ويجوز أن يكون هذا خطابًا لقوم لم يبلغهم خبر نبيّ، وقد قال الله: {وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ} [سبأ: 44] وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [سجدة: 3] أي لم يأتهم نبيّ.
وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك، ويقال للمعرض عن الشيء إنه غافل عنه.
وقيل: {فَهُمْ غَافِلُونَ} عن عقاب الله. اهـ.

.قال أبو السعود:

سورة يس مكية. وعنه صلى الله عليه وسلم تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون.
بِسْمِ الله الرحمن الرحيم.
{يس} إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ أو اسمٌ للسُّورةِ كما نصَّ عليه الخليلُ وسيبويةِ وعليه الأكثرُ فمحلُّه الرَّفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أو النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ لفعلِ مضمرٍ. وعليهما مدارُ قراءةِ يسن بالرَّفع والنَّصبِ أي هَذه يسن أو اقرأْ يسن. ولا مساغَ للنَّصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهُ مُقسمٌ بِه وقد أَبَوا الجمعَ بين قَسَمين على شيءٍ واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ ولا مجالَ للعطفِ لاختلافِهما إعرابًا. وقيل هو مجرورٌ بإضمارِ باءِ القسمِ مفتوحٌ لكونِه غيرَ منصرفٍ كما سلف في فاتحةِ سُورة البقرةِ من أنَّ ما كانتْ من هذه الفواتحِ مفردة مثلَ صاد وقاف ونون أو كانت موازنةً لمفردٍ نحوِ طس ويسن وحم الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ يتأتَّى فيها الإعرابُ اللَّفظيُّ ذكَره سيبويِه في بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابِه. وقيل: هُما حركتا بناءٍ كما في حيثُ وأينَ حسَبما يشهدُ بذلك قراءةُ يسن بالكسر كجَيْرِ وقيل: الفتحُ والكسرُ تحريكٌ للجِدِّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهُما أنَّ معناه يا إنسانُ في لغةِ طَيءٍ قالُوا المرادُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. ولعلَّ أصلَه يا أُنيسين فاقتُصر على شطرِه كما قيل مَنُ الله في أيمَن الله {والقرءان} بالجرِّ على أنَّه مقسمٌ به ابتداءً وقد جُوِّز أنْ يكونَ عطفًا على يسن على تقديرِ كونِه مجرورًا بإضمارِ باءِ القسمِ {الحكيم} أي المتضمِّنِ للحكمةِ أو النَّاطقِ بها بطريقِ الاستعارةِ أو المتَّصفِ بها على الإسنادِ المجازيِّ، وقد جُوِّز أنْ يكونَ الأصلُ الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه فبانقلابِه مرفوعًا بعد الجرِّ استكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ كما مرَّ في صدرِ سُورة لُقمانَ: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جوابٌ للقسم.
والجملةُ لردِّ إنكار الكَفَرةِ بقولِهم في حقِّه عليه يالصَّلاةُ والسَّلامُ لستَ مُرسَلًا. وهذه الشَّهادةُ منه عزَّ وجلَّ من جملة ما أُشير إليه بقوله تعالى في جوابهم: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وفي تخصيص القُرآن بالإقسامِ به أَوَّلًا بوصفه بالحكيمِ ثانيًا تنويهٌ بشأنه وتنبيهٌ على أنه كما يشهدُ برسالته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حيث نظمُه المعجزُ المُنطوي على بدائعِ الحكم يشهدُ بها من هذه الحيثيَّةِ أيضًا لما أنَّ الإقسامَ بالشَّيءِ استشهاد به على تحقُّقِ مضمون الجملة القسميةِ وتقوية لثبوتِه فيكون شاهدًا به ودليلًا عليه قَطْعًا.
وقوله تعالى: {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} خبرٌ آخرُ لأنَّ أو حالٌ من المستكنِّ في الجارِّ والمجرور على أنَّه عبارة عن الشَّريعةِ الشَّريفةِ بكمالها لا عن التَّوحيدِ فقط وفائدتُه بيانُ أنَّ شريعتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أقوى الشَّرائعِ وأعدلُها كما يُعرب عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ والوصفُ إثرَ بيانِ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة المرسلين بالشَّرائعِ.
{تَنزِيلَ العزيز الرحيم} نصب على المدحِ. وقُرئ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وبالجرِّ على أنه بدلٌ من القرآن وأيًّا ما كان فهو مصدرٌ بمعنى المفعولِ عبَّر به عن القرآنُ بيانًا لكمال عراقتِه في كونه منزَّلًا من عند الله عزَّ وجلَّ كأنَّه نفس التَّنزيلِ وإظهار لفخامتِه الإضافية بعد بيان فخامتِه الذَّاتيَّةِ بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمينِ الكريمينِ المُعربينِ عن الغلبةِ التَّامةِ والرَّأفةِ العامَّةِ حثٌّ على الإيمانِ به ترهيبًا وترغيبًا وإشعارٌ بأنَّ تنزيلَه ناشيءٌ عن غايةِ الرَّحمةِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} وقيل: النَّصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ أي نزل تنزيل العزيزِ الرَّحيمِ على أنَّه استئنافٌ مسوقٌ لبيان ما ذُكر من فخامةِ شأنِ القُرآن وعلى كلِّ تقديرٍ ففيهِ فضلُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملة القسميةِ {لّتُنذِرَ} متعلِّقٌ بتنزيل على الوجوهِ الأُولِ وبعامله المضمرِ على الوجهِ الآخيرِ أي لتنذَر به كما في صدرِ الأعرافِ وقيل: هو متعلِّقٌ بما يدلُّ عليه لمن المرسلين أي إنَّك مرسلٌ لتنذرَ {قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} أي لم يُنذْر آباؤُهم الأقربون لتطاولِ مدَّة الفترةِ على أنَّ ما نافيةً فتكون صفةً مبيِّنةً لغاية احتياجهم إلى الإنذارِ أو الذي أنذره أو شيئًا أُنذره آباؤهم الأبعدون على أنَّها موصولةٌ أو موصوفة فيكون مفعولًا ثانيًا لتنذرَ أو إنذار آبائِهم الأقدمين على أنَّها مصدريةٌ فيكون نعتًا لمصدرٍ مؤكَّدٍ أي لتنذرَ إنذارًا كائنًا مثلَ إنذارِهم {فَهُمْ غافلون} على الوجهِ الأولِ متعلِّق بنفي الإنذارِ مترتِّب عليه والضَّميرُ للفريقينِ أي لم تُنذرْ آباؤهم جميعًا لأجلِه غافلون وعلى الوجوهِ الباقيةِ متعلِّقٌ بقوله تعالى: {لّتُنذِرَ} أو بما يفيده إنَّك لمن المُرسلين واردٌ لتعليل إنذارِه عليه السَّلامُ أو إرساله بغفلتهم المحوجةِ إليهما على أنَّ الضَّميرَ للقوم خاصَّةً فالمعنى فهم غافلُون عنه أي عمَّا أُنذر آباؤهم الأقدمونَ لامتدادِ المُدَّة. اهـ.