فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)}.
هذا تفصيل لحال القوم الذين أُرسل محمد صلى الله عليه وسلم لينذرهم، فهم قسمان: قسم لم تنفع فيهم النذارة، وقسم اتبعوا الذكر وخافوا الله فانتفعوا بالنذارة.
وبيَّن أن أكثر القوم حقت عليهم كلمة العذاب، أي عَلِم الله أنهم لا يؤمنون بما جَبَل عليه عقولهم من النفور عن الخير، فحقق في علمه وكَتب أنهم لا يؤمنون، فالفاء لتفريع انتفاء إيمان أكثرهم على القول الذي حق على أكثرهم.
و{حَق} بمعنى ثبت ووقع فَلا يقبل نقضًا.
و{القول} مصدر أريد به ما أراده الله تعالى بهم فهو قول من قبيل الكلام النفسي، أو مما أوحى الله به إلى رسله.
والتعريف في {القول} تعريف الجنس، والمقول محذوف لدلالة تفريعه عليه.
والتقدير: {لقد حق} القول، أي القول النفسي وهو المكتوب في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فهم لا يؤمنون.
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} [يس: 7] فإن انتفاء إيمانهم يشتمل على مَا تضمنته هذه الآية من جعل أغلال في أعناقهم حقيقة أو تمثيلًا.
والجعل: تكوين الشيء، أي جعلنا حالهم كحال من في أعناقهم أغلال فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، فيجوز أن يكون تمثيلًا بأن شُبهت حالة إعراضهم عن التدبر في القرآن ودعوة الإِسلام والتأمل في حججه الواضحة بحال قوم جعلت في أعناقهم أغلال غليظة ترتفع إلى أذقانهم فيكونون كالمقمحين، أي الرافعين رءوسهم الغاضِّين أبصارهم لا يلتفتون يمينًا ولا شِمالًا فلا ينظرون إلى شيء مما حولهم فتكون تمثيلية.
وذِكر {فهي إلى الأذقان} لتحقيق كون الأغلال ملزوزة إلى عظام الأذقان بحيث إذا أراد المغلول منهم الالتفات أو أن يطاطئ رأسه وجِعَه ذقنه فلازم السكون وهذه حالة تخييل هذه الأغلال وليس كل الأغلال مثل هذه الحالة.
وهذا التمثيل قابل لتوزيع أجزاء المركب التمثيلي إلى تشبيه كل جزء من الحالين بجزء من الحالة الأخرى بأن يشبه ما في نفوسهم من النفور عن الخير بالأَغلال، ويشبه إعراضهم عن التأمل والإِنصاف بالإِقماح.
فالفاء في قوله: {فهي إلى الأذقان} عطف على جملة {جعلنا في أعناقهم أغلالًا} أي جعلنا أغلالًا، أي فأبلغناها إلى الأذقان.
والجعل: هنا حقيقة وهو ما خلق في نفوسهم من خلق التكبر والمكابرة.
والأغلال: جمع غُلّ بضم الغين، وهو حلقة عريضة من حديد كالقلادة ذات أضلاع من إحدى جهاتها وطرفين يقابلان أضلاعهما فيهما أثقاب متوازية تشد الحلقة من طرفيها على رقبة المغلول بعمود من حديد له رأس كالكرة الصغيرة يسقط ذلك العمُود في الأثقاب فإذا انتهى إلى رأسه الذي كالكرة استقرّ ليمنع الغُلّ من الانحلال والتفلّت، وتقدم عند قوله تعالى: {وأولئك الأغلال في أعناقهم} في سورة الرعد (5).
والفاء في قوله: {فهم مقمحون} تفريع على جملة {فهي إلى الأذقان}.
والمقمَح: بصيغة اسم المفعول المجعول قامحًا، أي رافعًا رأسه ناظرًا إلى فوقه يقال: قمحه الغُلّ، إذا جعل رأسه مرفوعًا وغضّ بصره، فمدلوله مركب من شيئين.
والأذقان: جمع ذَقَن بالتحريك، وهو مجتمع اللحيين.
وتقدم في الإِسراء.
ويجوز أن يكون قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا} الخ وعيدًا بما سيحلّ بهم يوم القيامة حين يساقون إلى جهنم في الأغلال كما أشار إليه قوله تعالى: {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون} في سورة غافر (71، 72)، فيكون فعل جعلنا مستقبلًا وعبر عنه بصيغة الماضي لتحقيق وقوعه كقوله تعالى: {أتى أمر اللَّه} [النحل: 1]، أي سنجعل في أعناقهم أغلالًا.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}.
هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملًا بأنّ فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه، فمُثّلت حالهم بحالة من جُعلوا بين سدَّيْن، أي جدارين: سدًا أمامهم، وسدًا خلفهم، فلو راموا تحوّلًا عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى: {فما استطاعوا مضيًا ولا يرجعون} [يس: 67]، وقول أبي الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنتتِ فليس لي ** متأخَّر عنه ولا مُتَقَدَّم

وقد صرح بذلك في قول:
ومن الحوادث لا أبالك أنني ** ضربتُ على الأرض بالأسداد

لا أهتدي فيها لموضع تَلْعة ** بين العُذيب وبين أرض مُراد

وتقدم السدّ في سورة الكهف.
وفي مفاتيح الغيب: مانع الإِيمان: إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجًا عنها.
ولهم المانعان جميعًا: أما في النفس فالغُلّ، وأما من الخارج فالسد فلا يقع نظرهم على أنفسهم فيروا الآيات التي في أنفسهم لأن المُقْمَح لا يرى نفسه ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن مَن بين السدّين لا يبصرون الآفاق فلا تتبين لهم الآيات كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53].
وإعادة فعل {وجعلنا} على الوجه الأول في معنى قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا} [يس: 8] الآية، تأكيد لهذا الجعل، وأما على الوجه الثاني في معنى {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا} فإعادة فعل {وجعلنا} لأنه جَعْل حاصل في الدُّنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة.
وقرأ الجمهور {سدًا} بالضم وهو اسم الجدار الذي يَسُدّ بين داخل وخارج.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يُسد به.
{خَلْفِهِمْ سَدًّا فأغشيناهم فَهُمْ}.
تفريع على كلا الفعلين {جعلنا في أعناقهم أغلالًا} [يس: 8] و{جعلنا من بين أيديهم سُدًّا ومن خلفهم سدًا} لأن في كلا الفعلين مانعًا من أحوال النظر.
وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانيًا على تمثيلهم بمن جعلوا بين سُدين من عدم استطاعة التحول عمّا هم عليه.
والإِغشاء: وضع الغشاء.
وهو ما يغطي الشيء.
والمراد: أغشينا أبصارهم، ففي الكلام حذف مضاف دلّ عليه السياق وأكّده التفريع بقوله: {فهم لا يبصرون}.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوي الحكم، أي تحقيق عدم إبصارهم.
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}.
عطف على جملة {لا يبصرون} [يس: 9]، أي إنذارَك وعدمه سواء بالنسبة إليهم، فحرف على معناه الاستعلاء المجازي وهو هنا الملابسة، متعلق ب {سواء} الدال على معنى استوى، وتقدم نظيرها في أول سورة البقرة.
وهمزة التسوية أصلها الاستفهام ثم استعملت في التسوية على سبيل المجاز المرسل، وشاع ذلك حتى عدّت التسوية من معاني الهمزة لكثرة استعمالها في ذلك مع كلمة سواء وهي تفيد المصدرية.
ولما استعملت الهمزة في معنى التسوية استعملت {أم} في معنى الواو، وقد جاء على الاستعمال الحقيقي قول بُثيْنة:
سواء علينا يا جميلُ بن مَعمر ** إذَا مِتَّ بأساءُ الحياةِ ولينُها

وجملة {لا يؤمنون} مبيّنة استواء الإِنذار وعدمِه بالنسبة إليهم.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}.
لما تضمن قوله: {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} [يس: 10] أن الإِنذار في جانب الذين حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون هو وعدمه سواء وكان ذلك قد يُوهم انتفاء الجدوى من الغير وبعض من فضل أهل الإِيمان أعقب ببيان جدوى الإِنذار بالنسبة لمن اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب.
و{الذكر} القرآن.
والاتّباع: حقيقته الاقتفاء والسَّيْر وراء سائر، وهو هنا مستعار للإِقبال على الشيء والعناية به لأن المتبع شيئًا يعتني باقتفائه، فاتباع الذكر تصديقُه والإِيمانُ بما فيه لأن التدبر فيه يفضي إلى العمل به، كما ورد في قصة إيمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه وجد لَوْحًا فيه سورة طه عند أخته فأخذ يقرأُ ويتدّبر فآمن.
وكان المشركون يُعرضون عن سماع القرآن ويصُدُّون الناس عن سماعه، ويبين ذلك ما في قصة عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول في مبدأ حلول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلس عبد الله بن أُبَيّ فنزل فسلم وتلا عليهم القرآن حتى إذا فرغ قال عبدُ الله بن أُبَيّ: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك إن كان حقًا، فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثْه ومن لم يأتك فلا تَغُتَّه به.
ولما كان الإِقبال على سماع القرآن مُفضيًا إلى الإِيمان بما فيه لأنه يداخل القلب كما قال الوليد بن المغيرة إن له لَحَلاوة، وإن عليه لَطَلاوة، وإن أسفله لمُغْدِق، وإن أعلاه لمُثمر أُتبعت صلة {اتبع الذكر} بجملة {وخشي الرحمان بالغيب} فكان المراد من اتّباع الذكر أكمل أنواعه الذي لا يعقبه إعراض فهو مؤدَ إلى امتثال المتبِعين ما يدعوهم إليه.
وخشية الرحمان: تقواه في خويصة أنفسهم، وهؤلاء هم المؤمنون تنويهًا بشأنهم وبشأن الإِنذار، فهذا قسيم قوله: {لقد حق القول على أكثرهم} [يس: 7] وهو بقية تفصِيل قوله: {لتنذر قومًا} [يس: 6].
والغرض تقوية داعية الرسول صلى الله عليه وسلم في الإِنذار، والثناءُ على الذين قَبِلوا نذارته فآمنوا.
فمعنى فعل {تنذر} هو الإِنذار المترتب عليه أثره من الخشية والامتثال، كأنه قيل: إنما تنذر فينتذر مَن اتبع الذكر، أي مَن ذلك شأنهم لأنهم آمنوا ويتقون.
والتعبير بفعل المضيّ للدلالة على تحقيق الاتّباع والخشية.
والمراد: ابتداءً الاتّباع.
ثم فرع على هذا التنويه الأمر بتبشير هؤلاء بمغفرة ما كان منهم في زمن الجاهلية وما يقترفون من اللمم.
والجمع بين {تنذر} وبشر فيه محسن الطِباق، مع بيان أن أول أمرهم الإِنذار وعاقبته التبشير.
والأجر: الثواب على الإِيمان والطاعات، ووصفه بالكريم لأنه الأفضل في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {إني ألقي إلي كتاب كريم} في سورة النمل (29).
والتعبير بوصف الرحمان دون اسم الجلالة لوجهين: أحدهما: أن المشركين كانوا ينكرون اسم الرحمان، كما قال تعالى: {قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60].
والثاني: الإِشارة إلى أن رحمته لا تقتضي عدم خشيته فالمؤمن يخشى الله مع علمه برحمته فهو يرجو الرحمة.
فالقصر المستفاد من قوله: {إنما تنذر من اتبع الذكر} وهو قصر الإِنذار على التعلّق ب {من اتبع الذكر} وخشِي الله هو بالتأويل الذي تُؤُوّل به معنى فعل {تنذر} أي حصول فائدة الإِنذار يكون قصرًا حقيقيًا، وإن أبيت إلا إبقاء فعل {تنذر} على ظاهر استعمال الأفعال وهو الدلالة على وقوع مصادرها فالقصر ادعائي بتنزيل إنذار الذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا منزلة عدم الإِنذار في انتفاء فائدته.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}.
لما اقتضى القصر في قوله: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} [يس: 11] نفى أن يتعلق الإِنذار بالذين لم يتبعوا الذكر ولم يخشوا الرحمان، وكان في ذلك كناية تعريضية بأن الذين لم ينتفعوا بالإِنذار بمنزلة الأموات لعدم انتفاعهم بما ينفع كل عاقل، كما قال تعالى: {لتنذر من كان حيًا} [يس: 70] وكما قال: {إنك لا تسمع الموتى} [النمل: 80] استطرد عقب ذلك بالتخلّص إلى إثبات البعث فإن التوفيق الذي حفّ بمن اتبع الذكر وخشي الرحمان هو كإحياء الميت لأن حالة الشرك حالة ضلال يشبه الموت، والإِخراج منه كإحياء الميت؛ فهذه الآية اشتملت بصريحها على علم بتحقيق البعث واشتملت بتعريضها على رمز واستعارتيْن ضمنيتين: استعارة الموتى للمشركين، واستعارة الإحياء للإِنقاذ من الشرك، والقرينة هي الانتقال من كلام إلى كلام لما يومىء إليه الانتقال من سبق الحضور في المخيلة فيشمل المتكلم مما كان يتكلم في شأنه إلى الكلام فيما خطر له.