فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} أي حقَّ القول بالعقوبة على أكثرهم لأنهم أصرُّوا على جَحْدِهم، وانهمكوا في جهلهم، فالمعلومُ منهم والمحكومُ عليهم أنَّهم لا يُؤمنون.
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}.
سَنَجُرُّهُم إلى هوانهم وصغرهم، وسنذيقهم وبالَ أمرهم.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}.
أغرقناهم اليومَ في بحار الضلالة وأحْطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنُغْرِقُهم في النار والأنكال، ونضيِّقُ عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال.
{فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أعميناهم اليومَ عن شهود الحُجَّة، ونُلَبِّسُ في الآخرة سبيلَ المَحَجَّة، فَيتَعَثَّرُون في وَهَدَاتِ جهنم داخرين، ويبقون في حُرُقَاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نَقْطَعُ عنهم ما به يُعَذَّبُون، ولا نَرْحمهم مما منه يَشْكُون؛ تَمَادَى بهم حِرْمانُ الكفر، وأحاطت بهم سرادقاتُ الشقاء، وَوقعت عليهم السِّمَةُ بالفراق.
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}.
مهجورُ الحقِّ لا يَصِلُه أحدٌ، ومردودُ الحقِّ لا يَقْبَلُه أحد. والذي قَصَمَتْه المشيئةُ وأقْمَتْهُ القضيةُ لا تنجعُ فيه النصيحة.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} أي إنما ينتفع بإنذارك مَنْ اتَّبَعَ الذِكْرَ؛ فإنَّ إنذارك- وإِن كان عامًا في الكُلِّ وللكُلَّ- فإنَّ الذين كفروا على غيِّهم يُصِرُّون.. ألاَ سَاء ما يحْكُمون، وإن كانوا لا يعلمون قُبْحَ ما يفعلون. أمَّا الذين اتبعوا الذكر، واستبصروا، وانتفعوا بالذي سمعوه منك، وبه عملوا- فقد استوجبوا أنْ تُبَشِّرَهم؛ فَبَشِّرْهُم، وأخبِرْهم على وجهٍ يظهر السرور بمضمون خبرك عليهم.
{وَأَجْرٌ كَرِيمٍ} كبير وافر على أعمالهم- وإن كان فيها خَلَلٌ.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَءَاثَرَهُمْ}.
نُحيي قلوبًا ماتت بالقسوة بما نُمْطِرُ عليها من صَوْبِ الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدَّموا.
{وَءَاثَارَهُمْ} خُطَاهم إلى المساجد، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وتَرَقْرُق دموعهم على عَرَصَات خدودهم، وتَصاعُدَ أنفاسهم.
قوله جل ذكره: {وَكُلَّ شَيءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ}.
أثبتنا تفصيله في اللوح المحفوظ.. لا لتناسينا لها- وكيف وقد أحصينا كل شيءٍ عددًا؟- ولكننا أحْبَبْنا إثبات آثار أحبائنا في المكنون من كتابنا. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب}.
قال: من عبد الله في سره أورثه اليقين، ومن عبدالله بصدق اللسان لم يستقر قلبه دون العرش، ومن عبدالله بالإنصاف كانت السماوات والأرض في ميزاته.
قيل: وما الإنصاف؟ قال: الإنصاف أن لا تتحرك جميع أعضائك إلا لله، ومتى طالبته برزق الغد فقد ذهب إنصافك، لأن القلب لا يحمل همين، والإنصاف بينك وبين الخلق أن تأخذ بالفضل، فإذا طلبت الإنصاف فلست بمنصف.
وحكي عن يحيى وعيسى عليهما السلام أنهما خرجا يمشيان، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا ابن خالتي، لقد أصبت اليوم خطيئة، ما أرى الله يغفرها لك.
قال: وما هي؟ قال: صدمت امرأة.
قال: والله ما شعرت بها.
قال عيسى: سبحان الله، بدنك معي، فأين قلبك؟ قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل صلوات الله عليه طرفة عين، لظننت أني ما عرفت الله عزَّ وجلَّ. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون}.
قال الفراء حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله وقال أبو عبيدة منعناهم عن الإيمان بموانع ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان فإن قيل فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب فكيف ذكر الغل الذي في العنق قيل لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب كقوله تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} ومن هذا قولهم انما في عنقك وهذا في عنقك ومن هذا قوله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ومن هذا قال الفراء أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا حبسناهم عن الإنفاق قال أبو إسحاق وإنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق قال أبو علي هذا مثل قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق قلت ومن هذا قولهم قلدت فلانا حكم كذا وكذا كأنك جعلته طوقا في عنقه وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها قال الحسن هي الشدائد التي كانت في العبادة كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وتتبع العروق من اللحم وقال ابن قتيبة هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلها أغلا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد وقوله فهي إلى الأذقان قالت طائفة الضمير يعود إلى الأيدي وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها قالوا لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد ولذلك سمي جامعة وعلى هذا فالمعنى فأيديهم او فايمنهم مضمومة إلى أذقانهم هذا قول الفراء والزجاج وقالت طائفة الضمير يرجع إلى الأغلال وهذا هو الظاهر وقوله فهي إلى الأذقان أي واصلة وملزوزة إليها فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن وقوله فهم مقمحون قال الفراء والزجاج المقمح هو الغاض بصره بعد رفع رأسه ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر يقال أقمح البعير رأسه وقمح وقال الأصمعي بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب قال الأزهري لما غلت أيديهم إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صعدا كالإبل الرافعة رءوسها انتهى فإن قيل فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان قيل أحسن وجه وأبينه فإن الغل إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه لا يستطيع له حركة ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا} قال ابن عباس منعهم من الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين لا يستطيعون النفوذ من بينمها وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة وانه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف والله المستعان. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن} الآية.
ظاهرها خصوص الإنذار بالمنتفعين به ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الإنذار كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}.
وقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} وقد قدمنا وجه الجمع بأن الإنذار في الحقيقة عام وإنما خص في بعض الآيات بالمؤمنين لبيان أنهم هم المنتفعون به دون غيرهم كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.
وبين أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى إيمان الأشقياء بقوله:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}. اهـ.

.تفسير الآيات (13- 19):

قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انتهى الكلام إلى هنا، وكان مقصود السورة كما سلف إثبات الرسالة لإنذار يوم الجمع، وكان الإنذار غاية، وكانت الغايات هي المقاصد بالذات، وكانت غاية الإنذار اتباع الذكر، فكان ذلك غاية الغاية، كان الكلام على المتبعين أولى بالتقديم على أنه يلزم من الكلام فيهم الكلام في أضدادهم وهم المعرضون الذين حق عليهم القول والكلام على اليوم المنذر به، فلذلك ضرب المثل الجامع لذلك كله، ومر إلى أن صور البعث تصويرًا لم يتقدم مثله، ثم عطف بآية الطمس وما بعدها على القسم المعرض، ثم رجع إلى الكلام على الرسول والكتاب.
ولما دل سبحانه على ما له من القدرة الكاملة بالأفعال الهائلة من كل من الإماتة والإحياء الحسيين والمعنويين إبداء وإعادة، وكان ضرب الأمثال بالمشاهدات ألصق شيء بالبال، وأقطع للمراء والجدال، وأكتشف لما يراد من الأحوال، قال عاطفًا على {فبشره} مبينًا للأصل الثالث الذي هو الأول بالأصالة المقصود بالذات، وهو التوحيد، ضامًّا إليه الأصلين الاخرين، ليكون المثل جامعًا، والبرهان به واضحًا ساطعًا: {واضرب لهم} أي لأجلهم بشارة بما يرجى لهم عند إقبالهم، ونذارة لما يخشى عليهم عند إعراضهم وإدبارهم {مثلًا} أي مشاهدًا في إصرارهم على مخالفة الرسول وصبره عليهم ولطفه بهم، لأنا ختمنا على قلوبهم على الكفران مع قربهم منك في النسب والدار، وفوز غيرهم لأنا نورنا قلوبهم مع البعد في النسب والدار بالإيمان وثمراته الحسان، لأنهم يخشون الرحمن بالغيب، ولا يثبتون على الغباوة والريب.
ولما ذكر المثل، أبدل منه قوله: {أصحاب القرية} التي هي محل الحكمة واجتماع الكلمة وانتشار العلم ومعدن الرحمة.
ولما كان الممثل به في الحقيقة إنما هو إخبارها بأحوال أهلها لأنها وجه الشبه، وكانت أخبارها كثيرة في أزمنة مديدة، وعين المراد بقوله: {إذ} وهي بدل اشتمال من القرية مسلوخة من الظرفية.
ولما كان الآتي ناحية من بلد وإن عظم يعد في العرف آتيًا لذلك البلد، أعاد الضمير على موضع الرسالة تحقيقًا له وإبلاغًا في التعريف بمقدار بعد الأقصى فقال: {جاءها} أي القرية لإنذار أهلها {المرسلون} أي عن الله لكونهم عن رسوله عيسى عليه السلام أرسلهم بأمره لإثبات ما يرضيه سبحانه ونفي ما يكرهه الذين هم من جملة من قيل في فاطر إنهم جاءوا بالبينات وبالزبر، والتعريف إما لكونهم يعرفون القرية ويعرفون أمرها، وإما لأنه شهير جدًا فهم بحيث لو سألوا أحدًا من أهل الكتاب الذين يعتنون بها أخبرهم به، لأنه قد عهد منهم الرجوع إليهم بالسؤال ليبينوا لهم- كما زعموا- مواضع الإشكال.
ولما كان أعظم مقاصد السياق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في توقفهم عن المبادرة إلى الإيمان به مع دعائه بالكتاب الحكيم إلى صراط المستقيم، وكان في المشاركة في المصائب أعظم تسلية، أبدل من قوله: {إذ جاءها} تفصيلًا لذلك المجيء قوله، مسندًا إلى نفسه المقدس لكونه أعظم في التسلية: {إذ أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة.
ولما كان المقصود بالرسالة أصحابها قال: {إليهم اثنين} أي ليعضد أحدهما الآخر فيكون أشد لأمرهما فأخبراهم بإرسالهما إليهم كأن قالا: نحن رسولان إليكم لتؤمنوا بالله {فكذبوهما} أي مع ما لهما من الآيات، لأنه من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولًا إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، سواء كان عنا من غير واسطة أو كان بواسطة رسولنا، كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النور لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون آية فكانت نورًا في جبهته، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.
ولما كان التضافر على الشيء أقوى لشأنه، وأعون على ما يراد منه، سبب عن ذلك قوله حاذفًا المفعول لفهمه من السياق، ولأن المقصود إظهار الاقتدار على إيقاع الفعل وتصريفه في كل ما أريد له: {فعززنا} أي فأوقعنا العزة، وهي القوة والشدة والغلبة، لأمرنا أو لرسولنا بسبب ما وقع لهما من الوهن بالتكذيب فحصل ما أردنا من العزة- بما أشارت إليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالتخفيف {بثالث} أرسلناه بما أرسلناهما به {فقالوا} أي الثلاثة بعد أن أتوهم وظهر لهم إصرارهم على التكذيب، مؤكدين بحسب ما رأوا من تكذيبهم: {إنا إليكم} أي لا إلى غيركم {مرسلون قالوا} أي أهل القرية: {ما أنتم} أي وإن زاد عددكم {إلا} ولما نقض الاستثناء النفي زال شبهة ما تلبس فزال عملها فارتفع قوله: {بشر مثلنا} أي فما وجه الخصوصية لكم في كونكم رسلًا دوننا، ولما كان التقدير: فما أرسلتم إلينا بشيء، عطفوا عليه قوله: {وما أنزل الرحمن} أي العام الرحمة، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته تقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا، وأعرقوا في النفي بقولهم: {من شيء}.
ولما كان الإتيان على ما ذكر محتملًا للغلط ونحوه، قالوا دافعين لذلك: {إن} أي ما {أنتم إلا تكذبون} أي حالًا ومآلًا {قالوا} أي الرسل: {ربنا} أي الذي لو لم يكن لنا وازع عن الكذب عليه إلا إحسانه إلينا لكان كافيًا {يعلم} أي ولذلك يظهر على أيدينا الآيات، ويحمينا ممن يكيدنا، وهذه العبارة تجري مجرى القسم، وكذا نحو {شهد الله}.
ولما واجهوهم بهذا التكذيب المبالغ في تأكيده زادوا في تأكيد جوابه فقالوا: {إنا إليكم} أي خاصة {لمرسلون} ما أتيناكم غلطًا ولا كذبًا، فالأول ابتداء أخبار، وهذان جوابا إنكار، فأعطى كلًا ما يستحق.
ولما قرروا ذلك عندهم، اتبعوه بدليله وبالإعلام بأن وبال التكذيب لا يلحقهم منه ضرر، إشارة لهم إلى الإنذار من عذاب الملك الجبار فقالوا: {وما علينا} أي وجوبًا من قبل من أرسلنا، وهو الله تعالى الذي له الأمر كله {إلا البلاغ المبين} أي المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات وغيرها، فلولا أنه يعلم لما أمكننا شيء من ذلك كما أن آلهتكم لما لم يكن لها علم لم يقدروا على بيان في أمرها بشيء، وإذ قد ثبت علم مرسلنا برسالتنا فهو الشاهد لنا بما يظهر على أيدينا وكفى به شهيدًا.
ولما كان حلول الصالحين بين الناس يكون تارة نعمة وأخرى نقمة باعتبار التصديق والتكذيب والإساءة والإحسان، فكان قد حصل لهؤلاء الذين كذبوا هؤلاء الرسل بلاء لتكذيبهم لهم من جدب الأرض وصعوبة الزمان، ونحو ذلك من الامتحان، ذكر ما أثره ذلك عند أهل القرية فقال: {قالوا} ولما كانوا لما يرون عليهم من الآيات وظاهر الكرامات مما يشهد ببركتهم ويمن نقيبتهم بحيث إذا ذموهم توقعوا تكذيب الناس لهم، أكدوا قولهم: {إنا تطيرنا} أي حملنا أنفسنا على الطيرة والتشاوم تطيرًا ظاهرًا- بما أشار إليه الإظهار بخلاف ما في النمل والأعراف {بكم} بنسبة ما حل بنا من البلاء إلى شومكم، لأن عادة الجهال التيمن بما مالوا إليه ويسندون ما حل بهم من نعمة إلى يمنة والتشاوم بما كرهوه، ويسندون ما أصابهم من نقمة إلى شومه؛ ثم إنهم استأنفوا استئناف النتائج قولهم على سبيل التأكيد إعلامًا بأن ما أخبروا به لا فترة لهم عنه وإن كان مثلهم مستبعدًا عند العقلاء: {لئن لم تنتهوا} أي عن دعائكم هذا {لنرجمنكم} أي لنشتمنكم أو لنرمينكم بالحجارة حتى تنتهوا أو لنقتلنكم شر قتلة.
ولما كان الإنسان قد يفعل ما لا يؤخذ أثره فقالوا معبرين بالمس دون الإمساس: {وليمسنكم منا} أي عاجلًا لا من غيرنا كما تقولون أنتم في تهديدكم إيانا بما يحل بنا ممن أرسلكم {عذاب أليم} حتى تنتهوا عنا لنكف عن إيلامكم {قالوا} أي الرسل: {طائركم} أي شومكم الذي أحل بكم البلاء {معكم} وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم.
ولما كان لم يبد منهم غير ما يقتضي عند النظر الصحيح التيمن والبركة، وهو التذكير بالله الذي بيده الخير كله، أنكروا عليهم تطيرهم منهم على وجه مبين أنه لا سبب لذلك غيره فقالوا: {أئن ذكرتم} أي الأجل إن حصل لكم تذكير بالله تطيرتم بنا؟ ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سببًا للتطير بوجه، أضربوا عنه منبهين لهم على أن موضع الشوم إسرافهم لا غير فقالوا: {بل} أي ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير سبب للتطير بل {أنتم قوم} أي غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون {مسرفون} أي عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك. اهـ.