فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا أَصْحَابَ القرية إِذْ جَاءَهَا المرسلون}.
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أُمِر أن يضرب لقومه مثلًا بأصحاب القرية هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين فيما ذكر الماوردي.
نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غُيِّر لما عُرِّب؛ ذكره السهيلي.
ويقال فيها: أنتاكية بالتاء بدل الطاء.
وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام؛ ذكره المهدوي، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب.
فأرسل الله إليه ثلاثة: وهم صادق، وصدوق، وشلوم هو الثالث.
هذا قول الطبري.
وقال غيره: شمعون ويوحنا.
وحكى النقاش: سمعان ويحيى، ولم يذكرا صادقًا ولا صدوقًا.
ويجوز أن يكون {مَثَلًا} و{أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} مفعولين لاضرب، أو {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} بدلًا من {مَثَلًا} أي اضرب لهم مثلَ أصحابِ القرية فحذف المضاف.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء المشركين أن يحلّ بهم ما حلّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل.
قيل: رسل من الله على الابتداء.
وقيل: إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله، وهو قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين} وأضاف الربّ ذلك إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما بأمر الربّ، وكان ذلك حين رُفع عيسى إلى السماء.
{فَكَذَّبُوهُمَا} قيل ضربوهما وسجنوهما.
{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي فقوّينا وشدّدنا الرسالة {بِثالِثٍ}.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: {فَعَزَزْنَا بِثَالِثٍ} بالتخفيف وشدّد الباقون.
قال الجوهري: وقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} يخفّف ويشدّد؛ أي قوّينا وشدّدنا.
قال الأصمعي: أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمِّس:
أُجُدٌّ إذا رَحَلَت تَعَزَّزَ لَحْمُها ** وإذا تُشَد بِنِسْعِها لا تَنْبِسُ

أي لا ترغو؛ فعلى هذا تكون القراءتان بمعنًى.
وقيل: التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا؛ ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23].
والتشديد بمعنى قوّينا وكثرنا.
وفي القصة: أن عيسى أرسل إليهم رسولين، فلقيا شيخًا يرعى غُنيمات له وهو حبيب النجار صاحب ياس فدعوه إلى الله وقالا: نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله فطالبهما بالمعجزة فقالا: نحن نشفي المرضى وكان له ابن مجنون وقيل: مريض على الفراش فمسحاه، فقام بإذن الله صحيحًا؛ فآمن الرجل بالله.
وقيل: هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ففشا أمرهما، وشَفَيَا كثيرًا من المرضى، فأرسل الملك إليهما وكان يعبد الأصنام يستخبرهما فقالا: نحن رسولا عيسى.
فقال: وما آيتكما؟ قالا: نبرىء الأكمه والأبرص ونبرىء المريض بإذن الله، وندعوك إلى عبادة الله وحده.
فهمَّ الملكُ بضربهما.
وقال وهب: حبسهما الملك وجلدهما مائة جلدة؛ فانتهى الخبر إلى عيسى فأرسل ثالثًا.
قيل: شمعون الصفا رأس الحواريين لنصرهما؛ فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم، واستأنسوا به، ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به، وأظهر موافقته في دينه، فرضي الملك طريقته؛ ثم قال يومًا للملك: بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى الله، فلو سألت عنهما ما وراءهما.
فقال: إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما.
قال: فلو أحضرتهما.
فأمر بذلك؛ فقال لهما شمعون: ما برهانكما على ما تدّعيان؟ فقالا: نبرىء الأكمه والأبرص.
فجيء بغلام ممسوح العينين؛ موضع عينيه كالجبهة، فدعوا ربهما فانشق موضع البصر، فأخذا بندقتين طينًا فوضعاهما في خديه، فصارتا مقلتين يبصر بهما؛ فعجب الملك وقال: إن هاهنا غلامًا مات منذ سبعة أيام ولم أدفنه حتى يجيء أبوه فهل يحييه ربكما؟ فدعوا الله علانية، ودعاه شمعون سرًّا، فقام الميت حيًّا، فقال للناس: إني متّ منذ سبعة أيام، فوُجدت مشركًا، فأدخلتُ في سبعة أودية من النار، فأحذِّركم ما أنتم فيه فآمِنوا بالله، ثم فتحت أبواب السماء، فرأيت شابًا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه، حتى أحياني الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى روح الله وكلمته، وأن هؤلاء هم رسل الله.
فقالوا له: وهذا شمعون أيضًا معهم؟ فقال: نعم وهو أفضلهم.
فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم، فأثر قوله في الملك، فدعاه إلى الله، فآمن الملك في قوم كثير وكفر آخرون.
وحكى القشيري أن الملك آمن ولم يؤمن قومه، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار.
وروي أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا: يا نبيّ الله إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم.
فدعا الله لهم فناموا بمكانهم، فهبُّوا من نومتهم وقد حملتهم الملائكة فألقتهم بأرض أنطاكية، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم؛ فذلك قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} فقالوا جميعًا: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق {وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ} يأمر به ولا {من شيء} ينهى عنه {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} في دعواكم الرسالة؛ فقالت الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وإن كذبتمونا {وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين} في أن الله واحد {قالوا} لهم {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي تشاءمنا بكم.
قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا هذا بشؤمكم.
ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين.
{لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} عن إنذارنا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} قال الفراء: لنقتلنكم.
قال: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل.
وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة.
وقيل: لنشتمنكم؛ وقد تقدّم جميعه.
{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: هو القتل.
وقيل: هو التعذيب المؤلم.
وقيل: هو التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب.
فقالت الرسل: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} أي شؤمكم معكم أي حظكم من الخير والشر معكم ولازمٌ في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا؛ قال معناه الضحاك.
وقال قتادة: أعمالكم معكم.
ابن عباس: معناه الأرزاق والأقدار تتبعكم.
الفراء: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} رزقكم وعملكم؛ والمعنى واحد.
وقرأ الحسن: {اطيركم} أي تطيركم.
{أَإِن ذُكِّرْتُم} قال قتادة: إن ذكرتم تطيرتم.
وفيه تسعة أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة: {أَيِنْ ذُكِّرْتُمْ} بتخفيف الهمزة الثانية.
وقرأ أهل الكوفة: {أَإِنْ} بتحقيق الهمزتين.
والوجه الثالث: {أَاإِنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين.
والوجه الرابع: {أاإنْ} بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة.
والقراءة الخامسة {أَاأَنْ} بهمزتين مفتوحتين بينهما ألف.
والوجه السادس: {أَأَنْ} بهمزتين محققتين مفتوحتين.
وحكى الفراء: أنّ هذه القراءة قراءة أبي رُزَين.
قلت: وحكاه الثعلبي عن زِرّ بن حُبيش وابن السَّمَيْقَع.
وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري: {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم} بمعنى حيث.
وقرأ يزيد بن القعقَاع والحسن وطلحة {ذُكِرْتُمْ} بالتخفيف؛ ذكر جميعه النحاس.
وذكر المهدوي عن طلحة بن مُصَرِّف وعيسى الهَمَذانِي: {آنْ ذُكِّرْتُمْ} بالمد، على أن همزة الاستفهام دخلت على همزة مفتوحة.
الماجشون: {أَنْ ذُكِّرْتُمْ} بهمزة واحدة مفتوحة.
فهذه تسع قراءات.
وقرأ ابن هُرْمُز {طَيْرُكُمْ مَعَكُمْ}.
{أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} أي لإِن وُعِظتم؛ وهو كلام مستأنف، أي إن وعظتم تطيرتم.
وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم أن كل نبي دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} قال قتادة: مسرفون في تطيّركم.
يحيى بن سلاّم: مسرفون في كفركم.
وقال ابن بحر: السرف هاهنا الفساد، ومعناه بل أنتم قوم مفسدون.
وقيل: مسرفون مشركون، والإسراف مجاوزة الحد، والمشرك يجاوز الحدّ. اهـ.

.قال أبو السعود:

{واضرب لَهُمْ مَّثَلًا أصحاب القرية}.
ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبيقِها بنظيرةِ لها كما في قوله تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} على أحدِ الوجهينِ أي بيَّنا لكم أحوالًا بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلًا لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلًا مفعولٌ ثانٍ لاضربْ وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنه ليتَّصل به ما هو شرحُه وبيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى {أصحابَ القريةِ} بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ {إِذْ جَاءهَا المرسلون} بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قوله: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيى وبُولس، وقيل غيرُهما {فَكَذَّبُوهُمَا} أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ {فَعَزَّزْنَا} أي قوَّينا يقال عزَّز المطرُ الأرضَ إذا لبَّدها. وقُرئ بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه. وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به {بِثَالِثٍ} هو شَمعُون {فَقَالُواْ} أي جميعًا {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم، وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأَرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأيًا شيخًا يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبيبٌ النَّجارُ صاحبُ يسن فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ، وقيل: ضربُوهما، وقيل: حُبسا.
ثمَّ بعث عيسى عليه السَّلامُ شَمعُون فدخلَ مُتنكِّرا وعاشر حاشيةَ الملك حتَّى استأنُسوا به ورفعوا خبرَه إلى الملكِ فأنسَ به فقالَ له يَوْمًا بلغني أنَّك حبستَ رجلينِ فهل سمعتَ ما يقولانِه قال لاَ حال الغضبُ بيني وبينَ ذلكَ فدعاهُما فقال شَمعُون: مَن أرسلكُما قالا الله الذي خَلَق كلَّ شيءٍ وليسَ له شريكٌ فقال: صفاهُ وأَوْجِزا. قالاَ يفعلُ مَا يشاءُ ويحكمُ ما يريدُ قال وما آيتكُما قالا ما يتمنَّى الملكُ فَدَعا بغلامٍ مطمُوسِ العينينِ فدعَوَا الله تعالى حتَّى انشقَّ له بصرٌ فأخذا بُندقتينِ فوضعاهما في حدقتيهِ فصارتا مُقلتينِ ينظرُ بهما فقال له شَمعُون أرأيتَ لَو سألتَ إلهَك حتَّى يصنعَ مثلَ هذا فيكونَ لك وله الشَّرفُ قال ليس لي عنك سرٌّ إن إلهنَا لا يُبصر ولا يسمعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ. وكان شمعُون يدخلُ معهم على الصَّنمِ فيصلِّي ويتضرَّعُ وهم يحسبون أنَّه منهم ثم قال: إنْ قدر إلهُكما على إحياءِ ميِّتٍ آمنَّا به فدعَوا بغلامٍ ماتَ من سبعةِ أيامٍ فقامَ وقال إنِّي أُدخلت في سبعةِ أوديةٍ من النَّارِ وإنِّي أُحذركم ما أنتُم فيه فآمِنُوا وقال فُتحت أبوابُ السَّماء فرأيتُ شَابًا حسنَ الوجهِ يشفعُ لهولاءِ الثَّلاثةِ قال الملكُ من هُم قال شمعُونُ وهذانِ. فتعجَّبَ الملكُ فلمَّا رأى شمعُون أنَّ قولَه قد أثر فيه نصحَه فآمنَ وآمنَ قومٌ ومَن لم يُؤمن صاحَ عليهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا. هكذا قالُوا، ولكن لا يُساعده سياقُ النَّظمِ الكريمِ حيثُ اقُتصر فيه على حكايةِ تمادِيهم في العنادِ واللَّجاجِ وركوبِهم متنَ المُكابرةِ في الحِجاجِ ولم يُذكرْ فيه ممَّن يؤمن أحدٌ سوى حبيبٍ ولو أنَّ الملكَ وقومًا من حواشيه آمنُوا لكان الظَّاهرُ أنْ يُظاهروا الرُّسلَ ويساعدوهم قُبلوا في ذلك أو قُتلوا كدأب النَّجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكرٌ ما بوجه من الوجوه، اللَّهم إلاَّ أن يكونَ إيمانُ الملكِ بطريق الخُفيةِ على خوفٍ من عُتاةِ ملئِه فيعتزلُ عنهم مُعتذرًا بعذرٍ من الأعذارِ.
{قَالُواْ} أي أهلُ أنطاكيَّةَ الذينَ لَم يُؤمنوا مُخاطبينَ للثَّلاثةِ {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} مِنْ غَيْرِ مزيةٍ لكُم عَلينا مُوجبةٍ لاختصاصكم بما تدعونَه. ورفعُ بشرٌ لانتقاضِ النَّفيِ المُقتضي لإعمالِ ما بإلاَّ.
{وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء} ممَّا تدعُونه من الوحي والرِّسالةِ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} في دَعْوى رسالتِه {قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} اشتشهَدوا بعلمِ الله تعالى وهو يَجْري مجرى القسمِ مع ما فيه من تحذيرِهم معارضةَ علم الله تعالى وزادُوا الَّلامَ المؤكِّدةَ لِما شاهدُوا منُهم من شدَّةِ الإنكارِ {وَمَا عَلَيْنَا} أي من جهةِ ربِّنا {إِلاَّ البلاغ المبين} أي إلاَّ تبليغُ رسالتِه تبليغًا ظَاهِرًا بيِّنًا بالآياتِ الشَّاهدةِ بالصِّحَّةِ وقد خرجنا عن عُهدته فلا مؤاخذةَ لنا بعد ذلك من جهة ربِّنا أو ما علينا شيءٌ نُطالب به من جهتِكم إلا تبليغُ الرِّسالةِ على الوجهِ المذكورِ وقد فعلناه فأيُّ شيءٍ تطلبون منَّا حتَّى تُصدِّقوُنا بذلك.
{قَالُواْ} لمَّا ضاقتْ عليهم الحِيلُ وعيتْ بهم العللُ {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم جريًا على دَيْدنِ الجَهَلةِ حيث كانُوا يتيَّمنون بكلِّ ما يُوافق شهواتِهم وإن كان مستجلبًا لكلِّ شرَ ووبال ويتشاءُمون بما لا يُوافقها وإنْ كان مستتبعًا لسعادةِ الدَّارينِ أو بناء على أنَّ الدَّعوةَ لا تخلُو عن الوعيدِ بما يكرهونَه من إصابة ضُرَ ومتعلِّقٍ بأنفسهم وأهليهم وأموالِهم إنْ لم يُؤمنوا فكانوا ينفرون عنه. وقد رُوي أنَّه حُبس عنهم القطرُ فقالوه: {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} أي عن مقالتِكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالحجارةِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قَدرُه {قَالُواْ طائركم} أي سببُ شُؤمكم {مَّعَكُمْ} لا مِن قِبلنا وهو سوءُ عقيدتِكم وقبحُ أعمالكم. وقُرئ {طَيركُم} {أَءن ذُكّرْتُم} أي وُعظتُم بما فيه سعادتُكم. وجوابُ الشَّرط محذوفٌ ثقةً بدلالة ما قبله عليه أي تطيرتُم وتوعدتُم بالرَّجمِ والتَّعذيبِ. وقُرئ بألفٍ بين الهمزتينِ وبفتحِ أنْ بمعنى أتطيرتُم لأنْ ذُكِّرتم وأنْ ذكِّرتم وإنْ ذُكِّرتم بغيرِ استفهام وأينَ ذُكِّرتم بمعنى طائركم معكم حيثُ جرى ذكركُم وهو أبلغُ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضرابٌ عمَّا تقتضيه الشَّرطيَّةُ من كونِ التَّذكيرِ سببًا للشُّؤمِ أو مصحِّحًا للتوعد أي ليس الأمرُ كذلك بل أنتُم قومٌ عادتُكم الإسرافُ في العصيان فلذلك أتاكُم الشُّؤمُ أو في الظُّلمِ والعُدوانِ ولذلك تَوعدتُم وتَشاءمتُم بمن يجبُ إكرامُه والتَّبركُ به. اهـ.