فصل: باب الْخُلْعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.باب الْخُلْعِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَحَظَرَ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا عَلَى الشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعُقِلَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَخْذُ مَا لَمْ يُعْطِهَا وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا أَعْطَاهَا، كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} قَدْ دَلَّ عَلَى حَظْرِ مَا فَوْقَهُ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ.
وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} قَالَ طَاوُسٌ: يَعْنِي فِيمَا افْتَرَضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ: وَاَللَّهِ لَا أَغْتَسِلُ لَك مِنْ جَنَابَةٍ.
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إلَّا أَنْ يَخَافَا مَعْنَاهُ: إلَّا أَنْ يَظُنَّا.
وَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ، أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ تَرْوِي عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْعَرَاءِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا وَقَالَ آخَرُ: أَتَانِي كَلَامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ وَمَا خِفْت يَا سَلَّامُ أَنَّك عَائِبِي يَعْنِي: مَا ظَنَنْت.
وَهَذَا الْخَوْفُ مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَيِّئَ الْخُلُقِ أَوْ جَمِيعًا، فَيُفْضِي بِهِمَا ذَلِكَ إلَى تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِيمَا أَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبْغِضًا لِلْآخَرِ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالْمُجَامَلَةِ، فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي تَقْصِيرِهِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَفِيمَا أَلْزَمَ الزَّوْجَ مِنْ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَإِذَا وَقَعَ أَحَدُ هَذَيْنِ وَأَشْفَقَا مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لَهُمَا حَلَّ الْخُلْعُ.
وَرَوَى جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَاتٌ إذَا قَالَتْهُنَّ الْمَرْأَةُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدْيَةَ: إذَا قَالَتْ لَهُ لَا أُطِيعُ لَك أَمْرًا وَلَا أَبَرُّ لَك قَسَمًا وَلَا أَغْتَسِلُ لَك مِنْ جَنَابَةٍ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدْيَةَ مِنْ امْرَأَتِهِ إلَّا أَنْ تَعْصِيَهُ وَلَا تَبَرَّ لَهُ قَسَمًا، وَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ قِبَلِهَا حَلَّتْ لَهُ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا الْفِدْيَةَ وَأَبَتْ أَنْ تُعْطِيَهُ بَعَثَا حَكَمَيْنِ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَرْكُهَا إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَسُوءُ خُلُقِهَا، فَتَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أَبَرُّ لَك قَسَمًا وَلَا أَطَأُ لَك مَضْجَعًا وَلَا أُطِيعُ لَك أَمْرًا، فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مِنْهَا الْفِدْيَةُ وَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا شَيْئًا وَيُخَلِّي سَبِيلَهَا وَإِنْ كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهَا ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} يَقُولُ: إنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ ضِرَارٍ وَلَا خَدِيعَةٍ فَهُوَ هَنِيءٌ مَرِيءٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نَسْخِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرَوَى حَجَّاجٌ عَنْ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي الصَّهْبَاءِ قَالَ: سَأَلْت بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ تُرِيدُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْخُلْعَ، قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، قُلْت لَهُ: يَقُولُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قَالَ: هَذِهِ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْت لِعَطَاءٍ: أَرَأَيْت إذَا كَانَتْ لَهُ ظَالِمَةً مُسِيئَةً فَدَعَاهَا إلَى الْخُلْعِ أَيَحِلُّ لَهُ؟ قَالَ: لَا، إمَّا أَنْ يَرْضَى فَيُمْسِكَ وَإِمَّا أَنْ يُسَرِّحَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقُ السَّلَفِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} الْآيَةَ، مَا يُوجِبُ نَسْخَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقْصُورَةُ الْحُكْمِ عَلَى حَالٍ مَذْكُورَةٍ فِيهَا، فَإِنَّمَا حُظِرَ الْخَلْعُ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ وَأَرَادَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ غَيْرَهَا، وَأَبَاحَهُ إذَا خَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ تَكُونَ مُبْغِضَةً لَهُ أَوْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ أَوْ كَانَ هُوَ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَلَا يَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِهَا لَكِنَّهُمَا يَخَافَانِ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَتَوْفِيَةِ مَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ؛ وَهَذِهِ الْحَالُ غَيْرُ تِلْكَ، فَلَيْسَ فِي إحْدَاهُمَا مَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَلَا يُوجِبُ نَسْخَهَا وَلَا تَخْصِيصَهَا أَيْضًا؛ إذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا وَرَدَتْ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} إذَا كَانَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنَّمَا حُظِرَ عَلَيْهِمْ أَخْذُ شَيْءِ مِنْ مَالِهَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ قَاصِدًا لِلْإِضْرَارِ بِهَا، إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو قِلَابَةَ: يَعْنِي أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا عَلَى زِنًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَحِلُّ إلَّا مِنْ النَّاشِزِ.
فَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ نَسْخٌ، وَجَمِيعُهَا مُسْتَعْمَلٌ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ اخْتِلَافِ السَّلَفِ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِيمَا يَحِلُّ أَخْذُهُ بِالْخُلْعِ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا أَعْطَاهَا وَلَوْ بِعِقَاصِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا وَلَا يَزْدَادُ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: تَجُوزُ الْمُبَارَأَةُ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى إضْرَارٍ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: إذَا عُلِمَ أَنَّ زَوْجَهَا أَضَرَّ بِهَا وَضَيَّقَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهَا قَضَى عَلَيْهَا الطَّلَاقَ وَرَدَّ عَلَيْهَا مَالَهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَائِزٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي الْخُلْعِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَيَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَتْهُ عَلَى الْخُلْعِ إذَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مِنْهُ لَهَا وَعَنْ اللَّيْثِ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا كَانَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي رَجُلٍ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ مَرِيضَةٌ: إنْ كَانَتْ نَاشِزَةً كَانَ فِي ثُلُثِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَاشِزَةً رُدَّ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ، وَإِنَّ خَالَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عَلَى جَمِيعِ مَا أَصْدَقَهَا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْهَا نُشُوزٌ أَنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِسَاءَةُ مِنْ قِبَلِهَا وَالتَّعْطِيلُ لِحَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَانِعَةً مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا حَلَّتْ الْفِدْيَةُ لِلزَّوْجِ، وَإِذَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا عَلَى غَيْرِ فِرَاقٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسًا وَتَأْخُذُ الْفِرَاقَ بِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخُلْعِ آيَاتٍ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} فَهَذَا يَمْنَعُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْهَا إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ شَيْئًا.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَأَبَاحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخْذَ عِنْدَ خَوْفِهِمَا تَرْكَ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ، وَذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ بُغْضِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَسُوءِ خُلُقِهَا، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، فَيُبَاحُ لَهُ أَخْذُ مَا أَعْطَاهَا وَلَا يَزْدَادُ، وَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ أَخْذِ الْجَمِيعِ وَلَكِنْ مَا زَادَ مَخْصُوصٌ بِالسُّنَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ خِطَابٌ لِلزَّوْجِ وَحُظِرَ بِهِ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَاهَا إلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، قِيلَ فِيهَا إنَّهَا هِيَ الزِّنَا، وَقِيلَ فِيهَا إنَّهَا النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، وَهَذِهِ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنَهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهَا فِي مَوَاضِعهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إبَاحَةَ أَخْذِ الْمَهْرِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَالَ الْخُلْعِ، فِي قَوْلِهِ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَالَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَهَذِهِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مُقْتَضَى أَحْكَامِهَا، فَقُلْنَا: إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَإِذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، أَوْ خَافَا لِسُوءِ خُلُقِهَا أَوْ بُغْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ لَا يُقِيمَا، جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَعْطَاهَا لَا يَزْدَادُ.
وَكَذَلِكَ {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَقَدْ قِيلَ فِيهِ: إلَّا أَنْ تَنْشُزَ فَيَجُوزَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَخْذُ مَا أَعْطَاهَا.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الْخُلْعِ، بَلْ فِي حَالِ الرِّضَا بِتَرْكِ الْمَهْرِ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا بِهِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمَّا جَازَ أَخْذُ مَالِهَا بِغَيْرِ خُلْعٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْخُلْعِ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى الْمَوْضِعَيْنِ، فِي أَحَدِهِمَا بِالْحَظْرِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَفِي الْآخَرِ بِالْإِبَاحَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهَا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ خُلْعٍ جَازَ فِي الْخُلْعِ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُلْعِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ الشَّمَّاسِ، «وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الصُّبْحِ فَوَجَدَ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ عِنْدَ بَابِهِ فِي الْغَلَسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَنَا حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ؛ قَالَ: مَا شَأْنُك؟ قَالَتْ: لَا أَنَا وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لِزَوْجِهَا فَلَمَّا جَاءَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ لَهُ: هَذِهِ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ فَذَكَرَتْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَذْكُرَ، فَقَالَتْ حَبِيبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتٍ: خُذْ مِنْهَا فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا».
وَرُوِيَ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ، فِي بَعْضِهَا خَلِّ سَبِيلَهَا وَفِي بَعْضِهَا: فَارِقْهَا.
وَإِنَّمَا قَالُوا: إنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، لِمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي سَمِينَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ امْرَأَتَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَرُدِّينَ إلَيْهِ مَا أَخَذْت مِنْهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا».
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الزِّيَادَةَ لِهَذَا الْخَبَرِ وَخَصُّوا بِهِ ظَاهِرَ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَخْصِيصُ هَذَا الظَّاهِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ قِبَلِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لَفْظٌ مُحْتَمِلٌ لِمَعَانٍ وَالِاجْتِهَادُ سَائِغٌ فِيهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِيهِ وُجُوهٌ مُخْتَلِفَةٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} مُحْتَمِلٌ لِمَعَانٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ} وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} لَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوهِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِهِ، جَازَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَاهُ الْمُرَادِ بِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا خَلَعَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، أَوْ خَلَعَهَا عَلَى مَالٍ وَالنُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا أَعْطَتْهُ بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرِ مُجْبَرَةٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ».
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا مِثْلَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، فَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ جَوَازَ الْعَقْدِ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ الْعِتْقُ عَلَى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، كَانَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لَمَّا جَازَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ بَدَلُ الْبُضْعِ كَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تَضْمَنَهُ الْمَرْأَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ فِي الْحَالَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِقَالَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ.
قِيلَ لَهُ: قَوْلُك: إنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِعَقْدٍ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا هُوَ الطَّلَاقُ مُبْتَدَأٌ كَهُوَ لَوْ لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ بَدَلٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَقَلَّ مِمَّا أَعْطَاهَا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْإِقَالَةُ غَيْرُ جَائِزَةٍ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ، فَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ السُّلْطَانِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ الْخُلْعُ حَتَّى يَعِظَهَا، فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا ضَرَبَهَا، فَإِنْ اتَّعَظَتْ وَإِلَّا حَجَرَهَا فَإِنْ اتَّعَظَتْ ارْتَفَعَا إلَى السُّلْطَانِ فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا فَيَرُدَّانِ مَا يَسْمَعَانِ إلَى السُّلْطَانِ، فَإِنْ رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُفَرِّقَ فَرَّقَ وَإِنَّ رَأَى أَنْ يَجْمَعَ جَمَعَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ فِي آخَرِينَ: أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ دُونَ السُّلْطَانِ.
وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ زِيَادٌ أَوَّلَ مَنْ رَدَّ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي جَوَازِهِ دُونَ السُّلْطَانِ؛ وَكِتَابُ اللَّهِ يُوجِبُ جَوَازَهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فَأَبَاحَ الْأَخْذَ مِنْهَا بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» فَقَالَتْ: نَعَمْ فَقَالَ لِلزَّوْجِ: «خُذْهَا وَفَارِقْهَا» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخُلْعُ إلَى السُّلْطَانِ شَاءَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَبَيَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُقِيمَانِ حُدُودَ اللَّهِ لَمْ يَسْأَلْهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خَاطَبَ الزَّوْجَ بِقَوْلِهِ اخْلَعْهَا بَلْ كَانَ يَخْلَعُهَا مِنْهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، وَإِنْ أَبَيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، كَمَا لَمَّا كَانَتْ فُرْقَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إلَى الْحَاكِمِ، لَمْ يَقُلْ لِلْمُلَاعِنِ خَلِّ سَبِيلَهَا بَلْ فَرِّقْ بَيْنَهُمَا، كَمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ»، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا» وَلَمْ يَرْجِعْ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ جَوَازُ الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ».
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ وَعُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ: أَنَّ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ طَاوُسًا عَنْ الْخُلْعِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ فَقُلْت: لَا تَزَالُ تُحَدِّثُنَا بِشَيْءٍ لَا نَعْرِفُهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ جَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَزَوْجِهَا بَعْدَ تَطْلِيقَتَيْنِ وَخُلْعٍ.
وَيُقَالُ: هَذَا مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ طَاوُسٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَطَإِ مَعَ جَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ وَصَلَاحِهِ يَرْوِي أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً، مِنْهَا أَنَّهُ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا كَانَتْ وَاحِدَةً وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَدَدَ النُّجُومِ بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ.
قَالُوا: وَكَانَ أَيُّوبُ يَتَعَجَّبُ مِنْ كَثْرَةِ خَطَإِ طَاوُسٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلْعُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ قَالَ: فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ، فَجَمَعَ نَاسًا مِنْهُمْ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ وَقَالَ: إنَّمَا سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَوْحِ بْنِ جَنَاحٍ قَالَ: سَمِعْت زَمْعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: {جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً} وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ حِينَ نَشَزَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ خَلِّ سَبِيلَهَا وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: فَارِقْهَا بَعْدَمَا قَالَ لِلْمَرْأَةِ: رُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ قَالَ: قَدْ فَعَلَتْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ قَالَ لَامْرَأَتِهِ قَدْ فَارَقْتُك أَوْ قَدْ خَلَّيْت سَبِيلَك وَنِيَّتُهُ الْفُرْقَةُ، أَنَّهُ يَكُونُ طَلَاقًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ خُلْعَهُ إيَّاهَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ كَانَ طَلَاقًا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك عَلَى مَالٍ أَوْ قَدْ جَعَلْت أَمْرَك إلَيْك بِمَالٍ كَانَ طَلَاقًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا قَدْ خَلَعْتُك بِغَيْرِ مَالٍ يُرِيدُ بِهِ الْفُرْقَةَ كَانَ طَلَاقًا، كَذَلِكَ إذَا خَلَعَهَا بِمَالٍ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَالَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ فَتَكُونُ فَسْخًا لَا بَيْعًا مُبْتَدَأً.
قِيلَ لَهُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ مَالٍ وَعَلَى أَقَلَّ مِنْ الْمَهْرِ، وَالْإِقَالَةُ لَا تَجُوزُ بِالثَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا كَالْإِقَالَةِ لَمَا جَازَ إلَّا بِالْمَهْرِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ، وَفِي اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِهِ بِغَيْرِ مَالٍ وَبِأَقَلَّ مِنْ الْمَهْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ بِمَالٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ قَدْ طَلَّقْتُك عَلَى هَذَا الْمَالِ.
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} إلَى أَنْ قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَأَثْبَتَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخُلْعِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ؛ إذْ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَكَانَتْ هَذِهِ رَابِعَةً؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْخُلْعَ بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخُلْعِ.
وَهَذَا لَيْسَ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} أَفَادَ حُكْمَ الِاثْنَيْنِ إذَا أَوْقَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْخُلْعِ وَأَثْبَتَ مَعَهُمَا الرَّجْعَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَهُمَا إذَا كَانَتَا عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ وَأَبَانَ عَنْ مَوْضِعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِمَا وَالْحَالِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا أَخْذُ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَعَادَ ذَلِكَ إلَى الِاثْنَتَيْنِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ تَارَةً وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْخُلْعِ أُخْرَى؛ فَإِذًا لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ بَعْدَ الِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ الرَّابِعَةُ بَعْدَ الْخُلْعِ.
وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ وَتَرْتِيبَ أَحْكَامِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَحَصَلَتْ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الْخُلْعِ وَحَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ وُقُوعِهَا وَحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ أَبَدًا إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ يَلْحَقُهَا الطَّلَاقُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْخَلْعِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَأَبَاحَ لَهُمَا التَّرَاجُعَ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ بِشَرِيطَةِ زَوَالِ مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَوْفِ لِتَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَنْدَمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَيُحِبُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَعُودَ إلَى الْأُلْفَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الثَّالِثَةَ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ الْخُلْعِ.
وقَوْله تَعَالَى: {إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِبَاحَةَ بِالظَّنِّ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} دُونَ الْفِدْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا.
قِيلَ لَهُ: هَذَا يَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} خِطَابٌ مُبْتَدَأٌ بَعْدَ ذِكْرِ الِاثْنَتَيْنِ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ ذِكْرِ الْفِدْيَةِ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَرْتِيبُهُ عَلَى الِاثْنَتَيْنِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِمَا وَتَرْكُ عَطْفِهِ عَلَى مَا يَلِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَتُوجِبُهُ، كَمَا تَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِلَفْظِ التَّخْصِيصِ إنَّهُ عَائِدٌ عَلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرِدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أَنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ عَائِدٌ عَلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ؟ إذْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ يَلِيهِنَّ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، مَعَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْت مِنْ عَطْفِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} عَلَى قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} دُونَ مَا يَلِيهِ فِي الْفِدْيَةِ؛ لِأَنَّك لَا تَجْعَلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا يَلِيهِ مِنْ الْفِدْيَةِ وَتَجْعَلُهُ عَطْفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ دُونَ مَا تَوَسُّطٍ بَيْنَهُمَا مِنْ ذِكْرِ الْفِدْيَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّا نَجْعَلُهُ عَطْفًا عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِدْيَةِ وَمِمَّا تَقَدَّمَهَا مِنْ التَّطْلِيقَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفِدْيَةِ، فَيَكُونُ مُنْتَظِمًا لِفَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا جَوَازُ طَلَاقِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ بِتَطْلِيقَتَيْنِ، وَالْأُخْرَى: بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ إذَا أَوْقَعَهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفِدْيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.