فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المدينة رَجُلٌ يسعى}.
هو حبيب بن مري وكان نجارا.
وقيل: إسكافًا.
وقيل: قصّارًا.
وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان يَنْحَت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تُبّع الأَكبر وورَقة بن نوفل وغيرهما.
ولم يؤمن بنبيّ أحدٌ إلا بعد ظهوره.
قال وهب: وكان حبيب مجذومًا، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يَعكِفُ على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربَّنا القادر فيفرج عنك ما بك.
فقال: إن هذا لَعجب! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرِّج عني فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربُّنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئًا ولا تضر.
فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس؛ فحينئذٍ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدّق بكسبه، فأطعم عياله نصفًا وتصدّق بنصف، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم ف {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين} الآية.
وقال قتادة: كان يعبد الله في غارٍ، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين: أتطلبون على ما جئتم به أجرًا؟ قالوا: لا؛ ما أجرنا إلا على الله.
قال أبو العالية: فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه ف{قَالَ يَا قَوْمِ اتبعوا الْمُرْسَلِينَ}.
{اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} أي لو كانوا متَّهَمين لطلبوا منكم المال {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} فاهتدوا بهم.
{وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} قال قتادة: قال له قومه أنت على دينهم؟ا فقال: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي} أي خلقني.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهذا احتجاج منه عليهم.
وأضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث إليهم؛ لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكرًا، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرًا.
{أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً} يعني أصنامًا.
{إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ} يعني ما أصابه من السقم.
{لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ} يخلصوني مما أنا فيه من البلاء {إني إِذًا} يعني إن فعلت ذلك {لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي خسران ظاهر.
{إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} قال ابن مسعود: خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم.
ومعنى {فَاسْمَعُونِ} أي فاشهدوا، أي كونوا شهودي بالإيمان.
وقال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به.
وقيل: إنه لما قال لقومه {اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} رفعوه إلى الملك وقالوا: قد تبعت عدوّنا؛ فطوّل معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ} فوثبوا عليه فقتلوه.
قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره، وأُلقي في بئر وهي الرَّسُّ وهم أصحاب الرَّسِّ.
وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة.
وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهدي قومي حتى قتلوه.
وقال الكلبي: حفروا حفرة وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردما.
وقال الحسن: حرقوه حرقًا، وعلّقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية؛ حكاه الثعلبي.
وقال القشيري: وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة، فإذا أعاد الله الجنة أُدخلها.
وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها؛ فذلك قوله: {قِيلَ ادخل الجنة} فلما شاهدها {قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} أي بغفران ربي لي؛ ف ما مع الفعل بمنزلة المصدر.
وقيل: بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف.
ويجوز أن تكون استفهاما فيه معنى التعجب، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي؛ قاله الفرّاء.
واعترضه الكسائي فقال: لو صحّ هذا لقال بِم من غير ألف.
قال الفراء: يجوز أن يقال بما بالألف وهو استفهام وأنشد فيه أبياتًا.
الزمخشري: {بِمَ غَفَرَ لِي} بطرح الألف أجود، وإن كان إثباتها جائزًا؛ يقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت.
المهدوي: وإثبات الألف في الاستفهام قليل.
فيوقف على هذا على {يَعْلَمُونَ}.
وقال جماعة: معنى قيل {ادخل الْجَنَّةَ} وجبت لك الجنة؛ فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة؛ لأن دخولها يُستحق بعد البعث.
قلت: والظاهر من الآية أنه لما قُتل قيل له ادخل الجنة.
قال قتادة: أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق؛ أراد قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] على ما تقدم في آل عمران بيانه.
والله أعلم.
قوله تعالى: {قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ} مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين} وقرئ: {مِنَ الْمُكَرَّمِينَ} وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته.
الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله.
قال ابن عباس: نصح قومه حيًا وميتًا.
رفعه القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية: «إنه نصح لهم في حياته وبعد موته» وقال ابن أبي ليلى: سُبَّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب ياس، فهم الصدّيقون؛ ذكره الزمخشري مرفوعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه.
ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَجَاء مِنْ أَقْصَا المدينة رَجُلٌ يسعى}.
هو حبيبٌ النَّجارُ وكان ينحتُ أصنامَهم وهو ممَّن آمنَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائةُ سنةٍ كما آمنَ به تُبَّعُ الأكبرُ وورقةُ بنُ نوفلٍ وغيرُهما، ولم يُؤمِن بنبيَ غيرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحدٌ قبل مبعثِه. وقيل كان في غارٍ يعبدُ الله تعالى فلمَّا بلغه خبرُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أظهرَ دينَه.
{قَالَ} استئنافٌ وفع جوابًا عن سُؤالٍ نشأ من حكايةِ مجيئهِ ساعيًا كأنَّه قيل: فماذا قال عند مجيئِه فقيل قال: {قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين} تعرض لعُنوانِ رسالتهم حثًَّا لهم على اتِّباعِهم كما أنَّ خطابَهم بياقوم لتأليفِ قلوبِهم واستمالتِها نحو قبولِ نصيحتِه. وقوله تعالى: {اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} تكريرٌ للتأكيد وللتَّوسُّلِ به إلى وصفهم بما يرغِّبُهم في اتِّباعهم من التَّنزهِ عن الغرض الدُّنيويِّ والاهتداء إلى خير الدُّنيا والدِّينِ {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} تلطُّفٌ في الإرشادِ بإيراده في معرض المُناصحةِ لنفسِه وإمحاض النُّصحِ حيثُ أراهم أنَّه اختارَ لهم ما يختارُ لنفسه. والمرادُ تقريعُهم على ترك عبادةِ خالقِهم إلى عبادةِ غيرِه كما يُنبىء عنه قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مبالغةً في التَّهديدِ ثمَّ عاد إلى المساقِ الأوَّلِ فقال: {أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً} إنكارٌ ونفيٌ لاتِّخاذِ الآلهة على الإطلاقِ. وقوله: {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئًا} أي لا تنفعني شيئًا من النَّفعِ.
{وَلاَ يُنقِذُونَ} من ذلك الضُّرِّ بالنُّصرةِ والمظاهرةِ، استئنافٌ سبقَ لتعليلٍ النَّفي المذكور. وجعلُه صفةً لآلهةً كما ذهب إليه بعضُهم رُبَّما يُوهم أنَّ هناك آلهةً ليستْ كذلكَ. وقُرئ {إنْ يَردن} بفتح الياءِ على معنى إنْ يُوردني ضرًا أي يجعلنِي موردًا للضُّرِّ {إِنّى إِذًا} أي إذا اتخذتُ من دونه آلهةً {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} فإنَّ إشراكَ ما ليس من شأنِه النَّفعُ ولا دفعُ الضُّرِّ بالخالق المقتدرِ الذي لا قادرَ غيرُه ولا خيرَ إلا خيرُه ضلال بيِّن لا يَخْفى على أحدٍ ممَّن له تمييزٌ في الجملةِ {إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ} خطاب منه للرُّسلِ بطريق التَّلوينِ قيل: لمَّا نصحَ قومَه بما ذُكر همُّوا برجمِه فأسرع نحوَ الرُّسلِ قبل أن يقتلُوه فقال ذلك، وإنَّما أكَّده لإظهارِ صدوره عنه بكمال الرَّغبةِ والنَّشاطِ وأصناف الربَّ إلى ضميرِهم رَوْمًا لزيادة التَّقريرِ وإظهارًا للاختصاصِ والافتداءِ بهم كأنَّه قالَ بربِّكم الذي أرسلَكم أو الذي تدعُوننا إلى الإيمانِ به {فاسمعون} أي اسمعُوا إيمانيَ واشهدُوا لي به عند الله تعالى، وقيل: الخطابُ للكفرةِ شافههَم بذلك إظهارًا للتَّصلُّبِ في الدِّينِ وعدم المبالاة بالقتلِ، وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضميرهم لتحقيقِ الحقِّ والتَّنبيهِ على بُطلان ما هم عليه من اتِّخاذِ الأصنامِ أربابًا وقيل للنَّاس جميعًا: {قِيلَ ادخل الجنة} قيل له ذلك لمَّا قتلُوه إكرامًا له بدخولِها حينئذٍ كسائر الشُّهداءِ وقيل: لما همُّوا بقتله رفعَه الله تعالى إلى الجنَّةِ قاله الحسنُ. وعن قَتادةَ أدخلَه الله الجنَّةَ وهو فيها حيٌّ يُرزقُ. وقيل معناه البُشرى بدخولِ الجنَّةِ وأنَّه من أهلِها وإنَّما لم يُقل له لأنَّ الغرضَ بيانُ المقولِ لا القولِ له لظهوره وللمبالغةِ في المسارعةِ إلى بيانِه. والجملةُ استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤالٍ نشأ من حكايةِ حالِه ومقالهِ كأنَّه قيل: كان لقاءُ ربِّه بعد ذلك التصلُّب في دينه والتَّسخِّي بروجِه لوجهه تعالى فقيل قيل: ادخل الجنَّة. وكذلك قوله تعالى: {قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} فإنَّه جوابِ عن سؤالِ نشأ من حكايةِ حالهِ كأنَّه قيل: فماذا قال عند نيلِه تلك الكرامةَ السَّنيةَ فقيل قال: الخ وإنما تمنَّى علَم قومه بحاله ليحملَهم ذلك عن اكتسابِ مثله بالتَّوبةِ عن الكُفرِ والدخول في الإيمانِ والطَّاعةِ جريًا على سَننِ الأولياء في كظمِ الغيطِ. والتَّرحمِ على الأعداءِ أو ليعلموا أنهم كانُوا على خطأٍ عظيمٍ في أمره وأنَّه كان على الحقِّ وأنَّ عداوتَهم لم تكسبه إلاَّ سعادةً. وقُرئ {من المكرمين} . وما موصولةً أو مصدريةٌ والياءُ صلةُ يعلمون أو استفهاميةٌ وردتْ على الأصل والياءُ متعلِّقةٌ بغفرَ أي بأي شيءٍ غفرَ لي ربِّي يريدُ به تفخيمَ شأنِ المهاجرةِ عن ملَّتِهم والمصابرةِ. على أذيَّتِهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَجَاء مِنْ أَقْصَا المدينة} أي من أبعد مواضعها {رَجُلٌ} أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم، وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطئوا معه واسمه على ما روي عن ابن عباس وأبي مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل حبيب وهو ابن إسرائيل على ما قيل، وقيل: ابن مري وكان على المشهور نجارًا، وقيل: كان حراثًا، وقيل: قصارًا، وقيل: إسكافًا، وقيل: نحاتًا للأصنام ويمكن أن يكون جامعًا لهذه الصفات، وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمنًا يعبد ربه عز وجل فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء {يسعى} أي يعدو ويسرع في مشيه حرصًا على نصح قومه، وقيل: إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم فسعى هنا مثلها في قوله تعالى: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار، نعم هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمنًا وهو ينافي أنه كان نحاتًا للأصنام.
وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحًا، وحكى القول بإيمانه عن ابن أبي ليلى، ونقل في البحر عنه أنه قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين: علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون.
وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما؛ ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة والسلام قبل ظهوره.
وقيل كان مجذومًا وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال: هل من آية؟ قالوا: نعم ندعوا ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال: إن هذا لعجب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئًا ولا تضر فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عز وجل ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى، وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد، نعم بين هذا وبين خبر سباق الأمم ثلاثة وأنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما آمن تبع منافاة، وكون إيمانه به عليه الصلاة والسلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال: المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين، ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمنًا ما حكى أن المرسلين اللذين أرسلا أولًا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنمًا فسألهما فأخبراه فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبرىء فآمن، وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر، والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنًا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل، وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وجاء {مِنْ أَقْصَى المدينة} هنا مقدمًا على {رَجُلٌ} عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة.