فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبهذا يظهر وجه تقديم {من أقصا المدينة} على {رجل} للاهتمام بالثناء على أهل أقصى المدينة.
وأنه قد يوجد الخير في الأطراف ما لا يوجد في الوسط، وأن الإِيمان يسبق إليه الضعفاء لأنهم لا يصدهم عن الحق ما فيه أهل السيادة من ترف وعظمة إذ المعتاد أنهم يسكنون وسط المدينة، قال أبو تمام:
كانت هي الوسطَ المحميّ فاتصلت ** بها الحوادث حتى أصبحت طرَفا

وأما قوله تعالى في سورة القصص (20) {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى} فجاء النظم على الترتيب الأصلي إذ لا داعي إلى التقديم إذ كان ذلك الرجل ناصحًا ولم يكن داعيًا للإِيمان.
وعلى هذا فهذا الرجل غير مذكور في سفر أعمال الرسل وهو مما امتاز القرآن بالإعلام به.
وعن ابن عباس وأصحابه وجد أن اسمه حبيب بن مرة قيل: كان نجارًا وقيل غير ذلك فلما أشرف الرسل على المدينة رآهم ورأى معجزة لهم أو كرامة فآمن.
وقيل: كان مُؤمنًا من قبل، ولا يبعد أن يكون هذا الرجل الذي وصفه المفسرون بالنِجّار أنه هو سمعان الذي يدعى بالنيجر المذكور في الإِصحاح الحادي عشر من سفر أعمال الرسل وأن وصف النجار محرف عن نيجر فقد جاء في الأسماء التي جرت في كلام المفسرين عن ابن عباس اسم شمعون الصفا أو سمعان.
وليس هذا الاسم موجودًا في كتاب أعمال الرسل.
ووصفُ الرجل بالسعي يفيد أنه جاء مسرعًا وأنه بلغه همُّ أهل المدينة برجم الرسل أو تعذيبهم، فأراد أن ينصحهم خشيةً عليهم وعلى الرسل، وهذا ثناء على هذا الرجل يفيد أنه ممن يُقتدَى به في الإِسراع إلى تغيير المنكر.
وجملة قال يا قوم بدل اشتمال من جملة جاء رجل لأن مجيئه لما كان لهذا الغرض كان مما اشتمل عليه المجيء المذكور.
وافتتاح خطابه إياهم بندائهم بوصف القومية له قُصد منه أن في كلامه الإِيماء إلى أن ما سيخاطبهم به هو محْض نصيحة لأنه يحِب لقومه ما يحِب لنفسه.
والاتباع: الامتثال، استعير له الاتّباع تشبيهًا للآخِذِ برأي غيره بالمتبععِ له في سيره.
والتعريف في {المرسلين} للعهد.
وجملة {اتبعوا من لا يسألكم أجرًا} مؤكدة لجملة {اتبعوا المرسلين} مع زيادة الإِيماء إلى علة اتّباعهم بلوائح علامات الصدق والنصح على رسالتهم إذ هم يَدْعُون إلى هُدى ولا نفع ينجرّ لهم من ذلك فتمحّضت دعوتهم لقصد هداية المرسَل إليهم، وهذه كلمة حكمة جامعة، أي اتبعوا من لا تخسرون معهم شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم.
وإنما قدم في الصلة عدم سؤال الأجر على الاهتداء لأن القوم كانوا في شك من صدق المرسلين وكان من دواعي تكذيبهم اتّهامهم بأنهم يجرّون لأنفسهم نفعًا من ذلك لأن القوم لما غلب عليهم التعلق بحب المال وصاروا بعداء عن إدراك المقاصد السامية كانوا يَعُدّون كل سعي يلوح على امرىء إنما يسعى به إلى نفعه.
فقدم ما يزيل عنهم هذه الاسترابة وليَتهَيّئوا إلى التأمل فيما يدعونهم إليه، ولأن هذا من قبيل التخلية بالنسبة للمرسلين والمرسل إليهم، والتخلية تُقدَّم على التحلية، فكانت جملة {لا يسألكم أجرًا} أهم في صلة الموصول.
والأجر يصدق بكل نفع دنيوي يحصل لأحد من عمله فيشمل المال والجاه والرئاسة.
فلما نفي عنهم أن يسألوا أجرًا فقد نفي عنهم أن يكونوا يرمون من دعوتهم إلى نفع دنيوي يحصل لهم.
وبعد ذلك تهيّأ الموقع لجملة {وهُم مهتدون} أي وهم متّصفون بالاهتداء إلى ما يأتي بالسعادة الأبدية، وهم إنما يدعونكم إلى أن تسيروا سِيرتهم فإذا كانوا هم مهتدين فإن ما يدعونكم إليه من الاقتداء بهم دعوة إلى الهدى، فتضمنت هذه الجملة بموقعها بعد التي قبلها ثناء على المرسلين وعلى ما يدعون إليه وترغيبًا في متابعتهم.
وأعلم أن هذه الآية قد مثل بها القزويني في الإِيضاح والتلخيص للإِطناب المسمى بالإِيغال وهو أن يُوتَى بعد تمام المعنى المقصود بكلام آخر يتمّ المعنى بدونه لنكتة، وقد تبين لك مما فسّرنا به أن قوله: {وهم مهتدون} لم يكن مجرد زيادة بل كان لتوقف الموعظة عليها، وكان قوله: {من لا يسألكم أجرًا} كالتوطئة له.
ونعتذر لصاحب التلخيص بأن المثال يكفي فيه الفرض والتقدير.
وجاءت الجملة الأولى من الصلة فعلية منفية لأن المقصود نفي أن يحدث منهم سؤال أجر فضلًا عن دوامه وثباته، وجاءت الجملة الثانية اسمية لإِفادة إثبات اهتدائهم ودوامه بحيث لا يخشى من يتبعهم أن يكون في وقت من الأوقات غير مهتد.
وقوله: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} عطف على جملة {اتبعوا المرسلين} قَصد إشعارهم بأنه اتَّبع المرسلين وخلع عبادة الأوثان، وأبرز الكلام في صورة استفهام إنكاري وبصيغة: ما لي لاَ أفعل، التي شأنها أن يوردها المتكلم في ردَ على من أنكر عليه فعلًا، أو ملكه العجب من فعله أو يوردها من يقدر ذلك في قلبه، ففيه إشعار بأنهم كانوا منكرين عليه الدعوة إلى تصديق الرسل الذين جاءوا بتوحيد الله فإن ذلك يقتضي أنه سبقهم بما أمرهم به.
و{ما} استفهامية في موضع رفع بالابتداء، والمجرور من قوله: {لي} خبر عن {ما} الاستفهامية.
وجملة {لا أعبد} حال من الضمير.
والمعنى: وما يكون لي في حال لا أعبد الذي فطرني، أي لا شيء يمنعني من عبادة الذي خلقني، وهذا الخبر مستعمل في التعريض بهم كأنه يقول: وما لي لا أعبد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم بقرينة قوله: {وإليه ترجعون} إذ جعل الإِسناد إلى ضميرهم تقوية لمعنى التعرض، وإنما ابتدأه بإِسناد الخبر إلى نفسه لإِبرازه في معرض المناصحة لنفسه وهو مريد مناصحتهم ليتلَطَّف بهم ويدارئهم فيسمعهم الحق على وجه لا يثير غضبهم ويكون أعون على قبولهم إياه حين يرون أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.
ثُمّ أتبعه بإبطال عبادة الأصنام فرجع إلى طريقة التعريض بقوله: {أأتخذ من دونه آلهة} وهي جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا لاستشعار سؤال عن وقوع الانتفاع بشفاعة تلك الآلهة عند الذي فطره، والاستفهام إنكاري، أي أنكر على نفسي أن أتخذ من دونه آلهة، أي لا أتخذ آلهة.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ وهو التناول، والتناول يشعر بتحصيل ما لم يكن قبل، فالاتخاذ مشعر بأنه صُنع وذلك من تمام التعريض بالمخاطبين أنهم جعلوا الأوثان آلهة وليست بآلهة لأن الإِله الحق لا يُجعل جعلًا ولكنه مستحق الإلهية بالذات.
ووصف الآلهة المزعومة المفروضة الاتخاذَ بجملة الشرط بقوله: {إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون}.
والمقصود: التعريض بالمخاطبين في اتخاذهم تلك الآلهة بعلة أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى.
وقد علم من انتفاء دفعهم الضر أنهم عاجزون عن جلب نفع لأن دواعي دفع الضر عن المَولى أقوى وأهم، ولحاق العار بالوَليّ في عجزه عنه أشد.
وجاء بوصف {الرحمان} دون اسم الجلالة للوجه المتقدم آنفًا عند قوله تعالى: {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء} [يس: 15].
والإِنقاذ: التخليص من غلب أو كرب أو حيرة، أي لا تنفعني شفاعتهم عند الله الذي أرادني بضر ولا ينقذونني من الضر إذا أصابني.
وإذ قد نفي عن شفاعتهم النفع للمشفوع فيه فقد نفي عنهم أن يشفعوا بطريق الالتزام لأن من يعلم أنه لا يُشفع لا يشْفّع، فكأنه قال: آتخذ من دونه آلهة لا شفاعة لهم عند الله، لإبطال اعتقادهم أنهم شفعاء مقبولو الشفاعة.
وإذ كانت شفاعتهم لا تنفع لعجزهم وعدم مساواتهم لله الذي يضرّ وينفع في صفات الإِلهية كان انتفاء أن ينقِذوا أولى.
وإنما ذكر العدول عن دلالة الفحوى إلى دلالة المنطوق لأن المقام مقام تصريح لتعلقه بالإِيمان وهو أساس الصلاح.
وجملة {إني إذا لفي ضلال مبين} جواب للاستفهام الإِنكاري.
فحرْف {إذن} جزاء للمنفي لا للنفي، أي إن اتخذتُ من دون الله آلهة أكُنْ في ضلال مبين.
وجملة {إني آمنت بربكم فاسمعون} واقعة موقع الغاية من الخطاب والنتيجة من الدليل.
وهذا إعلان لإِيمانه وتسجيل عليهم بأن الله هو ربهم لا تلك الأصنام.
وأكد الإِعلان بتفريع {فاسمعون} استدعاءً لتحقيق أسماعهم إن كانوا في غفلة.
{قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)}.
استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجَزل.
وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتركوه أو آذوه كما يُؤذَى أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوَى الدهمَاء فيجاب بما دل عليه قوله: {قيل ادخل الجنة} وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقينًا وثباتًا في إيمانهم، وأما المشركون فحظهم من المَثل ما تقدم وما يأتي من قوله: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} [يس: 29].
وفي قوله: {قيل ادخل الجنة} كناية عن قتله شهيدًا في إعلاء كلمة الله لأن تعقيب موعظته بأمره بدخول الجنة دفعة بلا انتقال يفيد بدلالة الاقتضاء أنه مات وأنهم قتلوه لمخالفته دينهم، قال بعض المفسرين: قتلوه رجمًا بالحجارة، وقال بعضهم: أحرقوه، وقال بعضهم: حفروا له حفرة وردموه فيها حيًّا.
وإن هذا الرجل المؤمن قد أُدخل الجنة عقب موته لأنه كان من الشهداء والشهداء لهم مزية التعجيل بدخول الجنة دخولًا غير موسع.
ففي الحديث: «إن أرواحَ الشهداء في حواصل طيور خُضرٍ تأكل من ثمار الجنة».
والقائل: {ادخل الجنة} هو الله تعالى.
والمقولُ له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجرورًا باللام لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى: {أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40].
وإذ لم يقَصَّ في المثَل أنه غادر مَقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك، ويفهم منه أنه مات قتيلًا في ذلك الوقت أو بإثره.
وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصرح بأنهم قتلوه إغماضًا لهذا المعنى عن المشركين كيلا يسرّهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به المثل لهم وللرسول صلى الله عليه وسلم فيطمعوا فيه أنهم يقتلون الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه الكناية لا يفهمها إلا أهل الإِسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة.
وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين.
وجملة {قال يا ليت قومي يعلمون} مستأنفة أيضًا استئنافًا بيانيًا لأن السامع يترقب ماذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة.
والمعنى: أنه لم يُلهِه دخوله الجنة عن حال قومه، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإِيمان فيؤمنوا وما تمنّى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متّسِمًا بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور.
وأدخلت الباء على مفعول {يعلمون} لتضمينه معنى: يُخبَرون، لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال.
و ما من قوله: {بما غفر لي ربي} مصدرية، أي يعلمون بغفران ربي وجعله إياي من المكرمين.
والمراد بالمكرمين: الذين تلحقهم كرامة الله تعالى وهم الملائكة والأنبياء وأفضل الصالحين قال تعالى: {بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26] يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}.
الضرب للمثل مأخوذ من الضريب الذي هو الشبه في النوع، كما تقول هذا ضرب هذا، واختلف هل يتعدى فعل ضرب المثل إلى مفعولين أو إلى واحد، فمن قال إنه يتعدى إلى مفعولين جعل هذه الآية {مثلًا} و{أصحاب} مفعولين لقوله: {اضرب} ومن قال إنه يتعدى إلى مفعول واحد جعله {مثلًا} وجعل {أصحاب} بدلًا منه، ويجوز أن يكون المفعول {أصحاب} ويكون قوله: {مثلًا} نصب على الحال، أي في حال تمثيل منك، و{القرية} على ما روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أنطاكية، واختلف المفسرون في {المرسلين} فقال قتادة وغيره: كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه، فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى انطاكية، وقالت فرقة: هؤلاء أنبياء من قبل الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يرجحه قول الكفرة {ما أنتم إلا بشر مثلنا} فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى والآخر محتمل، وذكر النقاش في قصص هذه الآية شيئًا يطول والصحة فيه غير متيقنة فاختصرته، واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما بثالث وقامت الحجة على أهل القرية، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى، وقتلوه في آخر أمره، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا، وقرأ جمهور القراء {فعزّزنا} بشد الزاي الأولى على معنى قوينا وشددنا، وبهذا فسر مجاهد وغيره، وقرأ عاصم في رواية المفضل عن أبي بكر {فعزَزنا} بالتخفيف في الزاي على معنى غلبناهم أمرهم، وفي حرف ابن مسعود {فعززنا بالثالث} بألف ولام، وهذ الأمة أنكرت النبوءة بقولها: {وما أنزل الرحمن من شيء} وراجعتهم الرسل بأن يردوا العلم إلى الله تعالى وقنعوا بعلمه وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم.
{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)}.
قال بعض المتأولين: إن أهل هذه القرية أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم المرسلين فلذلك {قالوا إنا تطيرنا بكم} وقال مقاتل: احتبس عنهم المطر فلذلك قالوه، ومعناه تشاءمنا بكم، مأخوذ من الحكم بالطير، وهو معنى متداول في الأمم وقلما يستعمل تطيرت إلا في الشؤم، وأما حكم الطير عند مستعمليه ففي التيمن وفي الشؤم، والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو ما خوطب به موسى، وقال قتادة: قالوا إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم، و{لنرجمنكم} معناه بالحجارة، قاله قتادة، وقولهم عليهم السلام، {طائركم معكم} معناه حظكم وما صار إليه من خير وشر معكم، أي من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وكفركم، وبهذا فسر الناس، وسمي الحظ والنصيب طائرًا استعارة أي هو مما تحصل عن النظر في الطائر، وكثر استعمال هذا المعنى حتى قالت المرأة الأنصارية: فطار لنا، حين اقتسم المهاجرون، عثمان بن مظعون، ويقول الفقهاء: طار لفلان في المحاصة كذا وكذا، وقرأ ابن هرمز والحسن وعمرو بن عبيد {طيركم معكم} وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر {أإن ذكرتم} بهمزتين الثانية مكسورة على معنى أإن ذكرتم تتطيرون، وقرأ نافع وأبوعمرو وابن كثير بتسهيل هذه الهمزة الثانية وردها ياء {أين ذكرتم} وقرأ الماجشون {أن ذكرتم} بفتح الألف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {إن ذكرتم} بكسر الألف، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وزر بن حبيش {أأن ذكرتم} بهمزتين مفتوحتين وشاهده قول الشاعر: الطويل:
أأن كنت داود أحوى مرجلًا ** فلست براع لابن عمك محرما

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش {أينْ ذكَرتم} بسكون الياء وتخفيف الكاف.
قال القاضي أبو محمد: فهي {أين} المقولة في الظرف، وهذه قراءة أبي جعفر وخالد وطلحة وقتادة والحسن في تخفيف الكاف فقط، ثم وصفهم بالإسراف والتعدي، وأخبر تعالى ذكره عن حال رجل {جاء من أقصى المدينة} سمع من المرسلين وفهم عن الله تعالى فجاء يسعى على قدميه وسمع قولهم فلما فهمه روي أنه تعقب أمرهم وسبرهم بأن قال لهم: أتطلبون على دعوتكم هذه أجرًا؟ قالوا: لا، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم و الإيمان بهم إذ هو الحق ثم احتج عليهم بقوله: {اتبعوا من لا يسألكم أجرًا} وهم على هدى من الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية حاكمة بنقص من يأخذ على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة كالصلاة ونحوها، فإنها كالتبليغ لمن بعث بخلاف ما لا يلزمه كالإمارة والقضاء، وقد ارتزق أبو بكر الصديق رضي الله عنه وروي عن أبي مجلز وكعب الأحبار وابن عباس أن اسم هذا الرجل حبيب وكان نجارًا وكان فيما قال وهب بن منبه قد تجذم، فقيل: كان في غار يعبد ربه، وقال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة علي بن أبي طالب وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون، وذكر الناس من أسماء الرسل صادق وصدوق وشلوم وغير هذا والصحة معدومة فاختصرته.
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}.
قرأ الجمهور {وماليَ} بفتح الياء، وقرأ الأعمش وحمزة بسكون الياء، وقد تقدم مثل هذا، وقوله تعالى: {وما لي} تقرير لهم على جهة التوبيخ في هذا الأمر يشهد العقل بصحته أن من فطر واخترع وأخرج من العدم إلى الوجود فهو الذي يستحق أن يعبد، ثم أخبرهم بأنهم يحشرون إليه يوم القيامة، ثم وقفهم أيضًا على جهة التوبيخ على اتخاذ الآلهة من دون الله تعالى، وهي لا ترد عن الإنسان المقادير التي يريدها الله تعالى به لا بقوة منها ولا بشفاعة، وقرأ طلحة السمان وعيسى الهمداني {أن يردنَي} بياء مفتوحة، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو، ثم صدع رضي الله تعالى عنه بإيمانه وأعلن فقال: {إني آمنت بربكم فاسمعون} واختلف المفسرون في قوله: {فاسمعون} فقال ابن عباس وكعب ووهب: خاطب بها قومه.
قال القاضي أبو محمد: على جهة المبالغة والتنبيه، وقيل خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ عندهم، وقرأ الجمهور {فاسمعونِ} بكسر النون على نية الياء بعدها وروى أبو بكر عن عاصم {فاسمعونَ} بفتح النون قال أبو حاتم: هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر، فإما حذف النون وإما كسرها على نية الياء.
قال القاضي أبو محمد: وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات، وهو أنهم قتلوه، واختلف كيف، فقال قتادة وغيره: رجموه بالحجارة، وقال عبد الله بن مسعود، مشوا عليه بأقدامهم حتى خرج قصبه من دبره، فقيل له عند موته {ادخل الجنة} وذلك والله أعلم بأن عرض عليه مقعده منها، وتحقق أنه من ساكنيها برؤيته ما أقر عينه، فلام تحصل له ذلك تمنى أن يعلم قومه بذلك، وقيل أراد بذلك الإشفاق والتنصح لهم، أي لو علموا بذلك لآمنوا بالله تعالى، وقيل أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ويحزنهم ذلك، وهذا موجود في جبلة البشر إذا نال خيرًا في بلد غربة ود أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم ولاسيما في الكرامات، ونحو من ذلك قول الشاعر:
والعز مطلوب وملتمس ** وأحبه ما نيل في الوطن

قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «نصح قومه حيًا وميتًا»، وقال قتادة بن دعامة: نصحهم على حالة الغضب والرضى، وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحًا للناس، و ما في قوله تعالى: {بما} يجوز أن تكون مصدرية أي بغفران ربي لي، ويجوز أن تكون بمعنى الذي، وفي غفر ضمير عائد محذوف قال الزهراوي: ويجوز أن يكون استفهامًا ثم ضعفه. اهـ.